كتبت- أماني ربيع

غني يا سمسمية لرصاص البندقية 

ولكل إيد قوية حاضنة زنودها المدافع

غني للمدافع وللي وراها بيدافع

ووصى عبد الشافع يضرب في الطلقة مية..”

غزل كابتن غزالي بأصابعه المداعبة لأوتار السمسمية أنغامًا صارت نبضًا للمقاومة الشعبية في السويس ومنها إلى ربوع مصر، وعبر فرقته “أولاد الأرض” قاد نضالًا بالكلمات الملتهبة والألحان الحماسية خرج من الخنادق ليشحذ همم المصريين ضد المحتل الإسرائيلي خلال حرب الاستنزاف في نهاية ستينيات القرن العشرين، ويثبت أن ما حدث في عام 1967 كان مجرد هزيمة عابرة.

فدائي السويس

وُلد محمد أحمد غزالي في أبنود بمحافظة قنا يوم 10 نوفمبر عام 1928، وارتبط اسم غزالي بمدينة السويس الذي عاش فيها منذ الأربعينيات رافضًا الانتقال إلى القاهرة، وصنعت المدينة الباسلة مجده، وكان فيها فدائيًا شهيرًا في مصر وشاعرًا ومغنيًا ولاعبًا للمصارعة الحرة.

في عام 1948، كانت السويس قاعدة للاحتلال البريطاني في مصر، التحق غزالي في ذلك الوقت بمعسكرات الجيش البريطاني كموظف مدني، وبعد إلغاء معاهدة 1936 في أكتوبر عام 1951 وطلب الحكومة المصرية سحب بريطانيا لقواتها من منطقة القناة، عُين غزالي في وزارة العدل بباب الخلق ثم نُقل إلى السويس للعمل في سكرتارية للمحكمة الشرعية بالسويس، وبعد إلغاء نظام المحاكم الشرعية، نُقل وزارة الزراعة.

بدأ نشاط كابتن غزالي في المقاومة مع بدء نضال الفدائيين المصريين في منطقة القناة ضد قوات الاحتلال البريطاني التي استقرت هناك، وانضم إلى المقاومة الشعبية في السويس مع العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، كان يساعد أفراد المقاومة في إسعاف المصابين وحراسة المنشآت الحيوية من شركات ومحطات كهرباء.

بعد انتهاء العدوان الثلاثي عاود غزالي نشاطه الرياضي مجددًا بالتدريب على لعبة المصارعة التي كان محترفًا فيها، وتدريب الفرق الرياضية، في مركز شباب المدينة حتى عام 1959، ثم انتقل إلى نادي السويس الرياضي.

بطانية ميري”

فات الكثير يا بلدنا.. ما بقاش إلا القليل

إحنا ولأدك يا مصر.. وعينيكي السهرانين

نصرك أصبح نشيدنا.. واللي يعادينا مين”

بعد هزيمة عام 1967 رفض كابتن غزالي ترك السويس خلال موجة التهجير الجماعي، وبقي مع مجموعة من الشباب والعمال الذي فضلوا الانضمام إلى المقاومة الشعبية طوال فترة حرب الاستنزاف، وأسس غزالي خلال تلك الفترة فرقة غنائية أطلق عليها في البداية اسم ” بطانية ميري” في إشارة إلى البطانية الميري رمادية اللون التي كان يجلس عليها مع رفاقه من المقاومة داخل الخندق يتسامرون وينشدون الأغاني الحماسية، وتحول اسمها بعد ذلك إلى “ولاد الأرض”.

كان كابتن غزالي بفطرته مدركًا لخطورة دور الفن في مرحلة فاصلة من تاريخ الشعب المصري الذي كان على حافة اليأس بعد هزيمة 67، فقرر شحذ همم المواطنين وبث الأمل في نفوسهم عبر أمسيات غنائية دبت الحماس في قلوب الجنود تأهبًا ليوم النصر وتحرير سيناء، وانتقد الجدل السياسي العقيم على المقاهي قائلًا: “يا شعرا يا كُتاب يا نضال ع القهاوي، يا همّ يا غم يا سبب البلاوي”.

امتلأت كلمات أغاني “ولاد الأرض” بالتلقائية والحماسة التي زرعت الأمل في النفوس وعلت أنغامها في خنادق المقاومة لتهز السكون “مش حنسلم لأ لأ، قالها الشعب، صاحب الحق”، أبهرت الفرقة المكونة من شباب وعمال بسطاء الجميع وهزت المشاعر، وترددت كلماته وألحانه في ربوع مصر كبشير للنصر معززة الروح القتالية ومحفزة على الصمود حتى تكللت هامة مصر بالنصر في عام 1973، قاد خلالها عزالي المصريين بسلاح الكلمة الذي لا يقل أهمية عن البندقية.

“ولاد الأرض”

لفت الفرقة على معسكرات القوات المسلحة لبث الحماس في نفوس الجنود ثم جابت المحافظات التي يتواجد فيها المهجرون لتقديم حفلات غنائية تربطهم بمدنيتهم وجذورهم، وكانت الفرقة تبدأ حفلاتها الغنائية بمقدمة تقول: “إحنا ولاد الأرض.. ولاد مصر العظيمة.. تارنا هناخده بحرب.. للنصر غناوينا .. شباب ثوار.. ما نسيبش التار.. إحنا ولاد الأرض”.

لم تكن فرقة “أولاد الأرض” فرقة موسيقية تقليدية، وكان أعضاءها من رجال المقاومة سلاحهم الحماس والإخلاص، ومنهم: ضيف محمود خليل ومصطفي محمود حنفي وحافظ أحمد غزالي وعز الدين منسي ورمزي عثمان وشحتة أبو الجدايل وذكي عبدالعظيم، وغريب عبداللطيف وعلي صبرة) وعبده عبدالرازق وفتحي السيد طه، وفرج سيد أحمد وعبدالله حسن خليل، ثم انضم إليها شباب من عمال الشركات بالسويس منهم: صلاح عبدالحميد آدم وغريب محمد سالم ومحمد محمد عويضه وإبراهيم حسن بدران ومحمد حسن حسين وعبدالله صقر وسعيد الفلسطيني  .

يا مصر يا ندهتى في الضيق.. 

وغنوتي ع الريق.. 

عاشقك حقيقي.. 

عاشقك أمل وطريق.. 

ناقشك على زنودى بيارق نصر.. 

مهما تدور الدواير الكل فاني..

 وأنتي اللى باقية يا مصر”.

غنى من كلمات كابتن غزالي وألحانه العديد من المطربين المشهورين منهم محمد العزبي الذي غنى له “والله هترجع تاني لبيتك ولغيطك يا خال”، وسمير الإسكندراني “من برج الحمام بيطل مدفعي”، وفايدة كامل “فات الكتير يا بلدنا”، وأركان فؤاد “تعظيم سلام”، وكتب الشاعر عبدالرحمن الأبنودي للفرقة أغنية “يا بيوت السويس” الشهيرة، بعدما وصلت أصداء فرقة “أولاد الأرض” إلى القاهرة، وبعث الشاعر الجنوبي إلى غزالي رسالة “بعلم الوصول” عام 1969.

مدرسة شعر المقاومة 

بعد ذلك صار دكان كابتن غزالي الصغير بالسويس ملتقى لزواره من المثقفين المصريين والعرب، ومنهم الشعراء صلاح جاهين وأمل دنقل، وشاعر المقاومة الفلسطينية محمود درويش الذي قال عن غزالي وفرقته: “عندما سمعت كلماتهم شعرت بأنني تحولت إلى تلميذ مبتدئ في مدرسة شعر المقاومة”.

وبثت إذاعة صوت العرب أغنيات فرقة “أولاد الأرض” إيمانًا بأهمية رسالتها، ومن أهم أغنيات الفرقة: “بينا يلا بينا نحرر أراضينا” و”غني يا سمسية لرصاص البندقية” و”يا عم حمزة” و”نشيد الجبهة” و”يا إسماعيلية” و”راية النصر”، وللمقاومة العربية كتب: “اشتد يا فتح.. اضرب واشتد هد عدو عروبتك هد.. حول الزيتون قنابل وازرع بيارتك مناجل.. سجل بالدم سطور المجد”.

وبخلاف الأشعار والغناء كانت لكابت غزالي تجارب أخرى مع المقاومة منها “سينما الخندق” التي كان يعرض خلالها أفلامًا لبث الحماس وروح الصمود في النفوس في الخنادق عبر جهاز سينما 16 مللي من السفارة الصينية.

اعتقل كابتن غزالي في 7 مارس 1973 بسبب خلافه مع نظام السادات وتحددت إقامته في بنها التي أمضى فيها نحو عام، ثم عاد بعد ذلك إلى السويس، وفي عام 2006، تم إنتاج فيلم تسجيلي عن مسيرته باسم “ابن الأرض”، وتوفي كابتن غزالي يوم 2 أبريل عام 2017 عن 89 عامًا، ليترك وراءه حياة عامرة بالنضال والمقاومة.