حسام عيد – محل اقتصادي

في الوقت الذي يزيد فيه التفاوت في الدخل بجميع أنحاء العالم، وبلوغه حد الأزمة، أخذت قارة أفريقيا على عاتقها المواجهة بحلول لا تكفي فحسب الحد من الفقر والمجاعات في دولها، بل تهدف إلى تأمين متطلبات الأمن الغذائي لدول العالم أجمع.

الحل الذي دللت على نجاعته الاقتصادية منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة “فاو”، وتسهم باستمرار في دعمه، يكمن في النموذج التعاوني، والذي يشتمل على جوانب التنمية المستدامة في جوهرها، فضلًا عن كونه قائمًا على القيم والمبادئ الأخلاقية.

ووفقًا للأمم المتحدة فمن المتوقع أن تبلغ قيمة الأعمال التجارية الزراعية في أفريقيا تريليون دولار بحلول عام 2030، ويبدو ذلك منطقيًا نظرًا لكون أفريقيا تمتلك 60% من الأراضي الصالحة للزراعة في العالم، كما تحتوي على سوق محلي ضخم، وعمالة وفيرة ومناخ ملائم في معظم المناطق.

وتوفر التعاونيات في جميع القطاعات أكثر من 100 مليون وظيفة في جميع أنحاء العالم، أي أكثر من الشركات المتعددة الجنسيات بنسبة 20%.

وفي عام 2008، كانت أفضل 300 تعاونية مسؤولة عن إجمالي مبيعات قيمته 1.1 تريليون دولار أمريكي، وهذا يعادل حجم عاشر أكبر اقتصاد في العالم، أي كندا، ويعادل تقريبا حجم اقتصاد إسبانيا.

التعاونيات.. نموذج للنمو المستدام

التعاونيات؛ هي رابطات ومؤسسات، يستطيع المواطنون من خلالها تحسين حياتهم فعلاً، فيما يساهمون في النهوض بمجتمعهم وأمتهم اقتصاديًا واجتماعيًا وثقافيًا وسياسيًا. وبات من المُسلَم به أنها واحدة من الأطراف المؤثرة المتميزة والرئيسية في الشؤون الوطنية والدولية، بحسب منظمة الأمم المتحدة.

وتتسم الحركة التعاونية بقدر كبير من الديمقراطية، وبأنها مستقلة محليًا ولكنها متكاملة دوليًا، وبأنها شكل من أشكال تنظيم الرابطات والمؤسسات يعتمد المواطنون أنفسهم، من خلاله، على العون الذاتي وعلى مسؤوليتهم الذاتية في تحقيق غايات لا تشمل أهدافًا اقتصادية فحسب ولكن تشمل أيضا أهدافًا اجتماعية وبيئية، من قبيل القضاء على الفقر، وكفالة العمالة المنتجة وتشجيع الاندماج الاجتماعي، مما يعود بالنفع على الاقتصاد المحلي.

ولإن التعاونيات ترتكز على المحور الإنساني وليس المحور المادي ، فإنها لا تعمد ولا تُسرع مسألة تكدس رأس المال، بل إنها تعمد إلى توزيع الثروة توزيعًا أعدل.

وعلى الرغم من تركيز التعاونيات على المجتمع المحلي، فإنها تتطلع كذلك إلى تعميم منافع نموذجها الاقتصادي والاجتماعي بين شعوب العالم.

تغيير مسار الاقتصاد الكيني

كينيا؛ واحدة من أكثر البلدان المتقدمة في شرق أفريقيا بمعدل نمو 5.6%، وتعتمد بشكل رئيسي على قطاع الزراعة، حيث يمثل 30% من اقتصادها وذلك وفقًا لإحصاءات الربع الثاني لعام 2019 والصادرة عن البنك الدولي.

كما يمثل قطاع الزراعة 65% من صادرات كينيا، وفي مقدمتها الشاي الأسود الذي يستحوذ على 40% من جملة الصادرات، فكينيا هي أكبر مصدر له بالعالم. فيما يوفر القطاع أكثر من 70% من الوظائف في قطاع العمل غير الرسمي في المناطق الريفية، والتي تتنوع بين تصنيع الأغذية والري والبنية التحتية التكنولوجية والنقل.

وفي كينيا، تتقاسم التعاونيات حصص السوق كما يلي: 70% من القهوة،76 % من الألبان، و90% من نبات “عاقر قرحا” و95% من القطن.

وتعود بداياتها إلى منتصف التسعينيات، حينما أصدرت الحكومة الكينية سلسلة من التدابير الإصلاحية الاقتصادية لتحقيق الاستقرار واستعادة النمو المستدام، بعدما كان النمو السنوي لا يتعد 1.5% فقط بين عامي 1997 و2002، والذي كان أقل من نسبة نمو عدد السكان المقدر بـ2.5% سنويًا، إلى أن ساهمت بشكل رئيس في حدوث انتعاشة قوية جعلت من كينيا الاقتصاد السابع على مستوى القارة السمراء بحجم 89.6 مليار دولار وفقًا لإحصاءات صندوق النقد الدولي عن عام 2018.

ويستمد 63% من السكان في كينيا مصادر رزقهم من التعاونيات، حيث يعمل حوالي 250 ألف بها.. وارتفع حجم التداول عبر التعاونيات من 10.9 مليار شيلن كيني إلى 30 مليار شلن كيني (288 مليون دولار).

دعم النهضة في رواندا

وفي رواندا، حدثت ثورة في زراعة وتصدير الشاي والبن اللذين يشكلان أساس الاقتصاد الرواندي، مع ظهور التعاونيات الزراعية التي كانت بمنزلة حل لمشكلة إيجاد فرص عمل للناجين من الإبادة. عززتها الحكومة بتوفير قروض ميسرة للمزارعين، لتظهر النتائج بعد سنوات فقط، حيث ارتفع إنتاج القهوة من 30 ألف طن إلى 15 مليون طن بعد تنفيذ هذه الخطة.

وكانت التعاونيات الزراعية حلاً لمشكلة إيجاد فرص عمل في مناطق مختلفة في البلاد، وتستفيد منها مجموعات السكان الأكثر فقرًا في تلك المناطق، فيقوم السكان بقطف أوراق الشاي ووضعها بكميات كبيرة في غرف خاصة معروفة، ليتم فيما بعد نقلها إلى المصانع عبر سيارات نقل كبيرة، وتمر بمراحل صناعة الشاي بأنواعه المختلفة قبل تصديره.

وتعتبر منطقة روليندو في رواندا، وهي أرض التلال الألف، نموذجًا لطريقة أكثر تكاملًا لدعم التنمية المحلية والتكثيف المستدام للزراعة؛ إذ تنتهج نهجًا شاملًا في استخدام الموارد الطبيعية على نحو مستدام مع زيادة دخل المزارعين، وخلق سبل عيش أكثر مرونة وتحسين نوعية النظم الغذائية للناس.

وبمساعدة منظمة الأغذية والزراعة “فاو” وشركائها، فونيروا (صندوق استثماري للمبادرات الخضراء في رواندا) وتعاونيات مزارعي الخضراوات والزهور، أنشأت منطقة روليندو 4815 فرصة عمل جديدة، وخصصت 1830 هكتارًا من الأراضي لإنتاج الفاكهة والزراعة الحراجية، واستخدمت تسعة أحواض مائية كبرنامج للاستزراع السمكي وللري، وصمّمت 1950 هكتارًا من المصطبّات التدرّجية. وتأمل المنظمة في تكرار هذا النموذج الناجح لبرامجها في مناطق أخرى في أفريقيا وفي العالم.

ولأن نجاح روليندو يعدّ نموذجاً يُحتذى به في المنطقة، فهو ينطوي على دروس عديدة قد تستفيد منها بلدان أخرى في أفريقيا وفي جميع أنحاء العالم.

وتعد رواند من أسرع الاقتصادات الإفريقية والعالمية نموًا في 2019 بمعدل 8.4%، وتتصدر الزراعة الطفرة الكبيرة في قطاعاتها الاقتصادية المختلفة، كما تطمح رواندا لتصبح دولة ذات دخل متوسط عام 2035، ثم دخل مرتفع بحلول عام 2050، من خلال رؤية تقوم على العديد من الإستراتيجيات القطاعية المفصلة التي كانت المحرك الرئيسي للنمو في العقد الأخير.

تحويل كوت ديفوار لاقتصاد ديناميكي

أما في كوت ديفوار (ساحل العاج) فقد أصبحت البلد الأكثر ديناميكية في قارة أفريقيا تضم اليوم حوالى مئتي تعاونية تجمع أكثر من 120 ألف جهة منتجة للـ”الكاكاو” والذي يعرف عالميًا بالتجارة المنصفة.

وتقدم تعاونية “كايات”، الشريك العاجي لمنظمة “فير ترايد” البريطانية الداعمة لمبادئ التجارة المنصفة، دعمًا لأكثر من ألفي عضو في منطقة أدزوبيه -تبعد 100 كلم عن العاصمة الاقتصادية أبيدجان- تلقوا تدريبًا على “الممارسات الزراعية السليمة”، من تخصيب الأراضي إلى الحصاد مرورا بالتخمير، وهي مرحلة مهمة تعطي للشوكولا مذاقه.

وتستفيد التعاونية سنويًا من منحة بقيمة 200 مليون فرنك أفريقي (حوالى 355 ألف دولار) من صناع الشوكولا يذهب 25% منها مباشرة إلى المزارعين.

ويمثل الكاكاو “الذهب البني” 10% من إجمالي الناتج المحلي في ساحل العاج و40% من إيرادات التصدير فضلًا عن مداخيل مباشرة وغير مباشرة لحوالى خمسة ملايين شخص من إجمالي السكان.

اليوم، تمكنت دول إفريقية عدة من تحويل التعاونيات الزراعية من ظاهرة هامشية إلى بيئة عمل لائقة ونموذج للتنمية المستدامة.

فوفقا لتقديرات حديثة صادرة عن “فاو”، تُعد التعاونيات في كل أنحاء العالم المصدر الرئيسي للتوظيف أو الكسب لأكثر من 279 مليون شخص، أي ما يقرب من 10% من إجمال عدد السكان العاملين حول العالم.

وإلى جانب هذه الأرقام، أكدت دراسات مختلفة أن الوظاف التعاونية؛ هي أكثر استدامة مع مرور الوقت وتحمل أهداف سامية للبشرية.