عرض – د. فريدة بنداري

باحثة متخصصة في الشئون الأفريقية

 تأتي أهمية كتاب «أجهزة الاستخبارات الأفريقية: التحديات المبكرة في فترة ما بعد الاستعمار والفترة المعاصرة» –وهو كتاب مُحَرر للمؤلف Ryan Shaffer، صادر في 2021، عمل عليه عدد من الباحثين- في أنه يناقش تاريخ وتحولات أجهزة الاستخبارات الأفريقية، تدور مقدمة الكتاب حول دور أجهزة تلك الاستخبارات، التي تعاني من قلة التوثيق ضمن الدراسات الأمنية الأفريقية؛ ويعد الكتاب أول مجموعة بحثية يتم تحريرها لاستكشاف أجهزة الاستخبارات الأفريقية، ويسلط الضوء على التحديات التاريخية والمعاصرة، بما في ذلك النجاحات والإخفاقات، باتباع نهج واسع النطاق عبر مجموعة متنوعة من البلدان الأفريقية، وفي عصور مختلفة.

فقد تم تحليل مؤسسات أمنية أفريقية مختارة مع الاهتمام بالقضايا الاستعمارية والوطنية والمحلية، وكيف استجابت أجهزة الاستخبارات لتلك القضايا؛ إذ يعد نوع الاستجابة عنصرًا أساسيًّا للنجاح أو الإخفاق، وهي بدورها تؤثر على الاستقرار والشفافية والحوكمة وسيادة القانون والعلاقات الخارجية.

يستعرض الكتاب -في أحد عشر فصلًا- مجموعة متنوعة من البلدان، ويزود القراء بتاريخ من أجهزة الاستخبارات الأفريقية التي لم تُدْرَس من قبل بهذا السرد والتحليل، والكتاب يبحث في أهداف أجهزة الاستخبارات وعملياتها وقياداتها وشركائها الدوليين والأطر القانونية، كما تسلط الفصول الضوء على منهجيات ومصادر مختلفة لمزيد من البحث العلمي، حول أجهزة لاستخبارات الأفريقية، يقدم الجزء الأول من الكتاب معلومات مفصلة عن فترة ما بعد الاستعمار المبكرة، حيث تقدم الفصول الأربعة الأولى منظورًا مثيرًا للاهتمام حول أهم المذاهب القومية والحداثية في أفريقيا، استنادًا إلى الشخصيات البارزة والتي تمتلك القدرة على تنفيذ التنمية التي تقودها الدولة، ويوضح الكتاب كيف أصبحت أجهزة الاستخبارات في خدمة المصالح المحلية الشخصية أكثر من معالجة التهديدات الخارجية، وكذلك الدور الكبير الذي لعبه مبدأ عدم الانحياز الذي تبنته منظمة الوحدة الأفريقية في عام 1964، إضافة إلى مسألة تجميد حدود الدول في أفريقيا، كما يتناول الكتاب قضية التزامن بين ظهور أفريقيا ما بعد الاستعمار وتفاعلات المواجهة الأمريكية مع الاتحاد السوفيتي السابق خلال الحرب الباردة.

تحدث الفصل الأول عن وضع الاستخبارات في كينيا خلال عقد الاستقلال، وتناول مصطلح الفرع الخاص(SB) – Special Branch – يوضح الكتاب كيف استمرت الهياكل الاستعمارية في تشكيل أجهزة الاستخبارات المستقلة حديثًا، و يستخدم عادةً لتحديد الوحدات المسؤولة عن مسائل الأمن القومي والاستخباراتي في الدولة، وعادة ما تكتسب وحدة الفرع الخاص طبيعة سياسية أو حساسة، وتقوم بإجراء التحقيقات لحماية الدولة من تهديدات التخريب المتصورة، لا سيما الإرهاب والأنشطة السياسية المتطرفة الأخرى. عام 1926 أنشئ قسم تحقيقات جنائية في كينيا عمل به المستعمرون وقتذاك، وضم فرعًا خاصًّا مسؤولًا عن الاستخبارات.وفي فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية حتى عام 1963، توسعت أنشطةً (الفرع الخاص) من جمع المعلومات الاستخبارية عن الأنشطة الإجرامية إلى التحقيق مع المواطنين المطالبين بالاستقلال والحركة النقابية، ليس هذا فقط وإنما توسعت أنشطته لمكافحة تمرد حركة Mau Mau  وتمت إعادة تنظيمها بعد إخفاقات الاستخبارات في فشلها، وعليه ورثت حكومة ما بعد الاستقلال عقليةً استخباراتيةً تستخدم القوة لضمان الامتثال، وبعد عام 1965 أصبحت الشرطة وأجهزة الاستخبارات مسيسةً ومرتبطةً بالأفراد، وبحلول عام 1982 أصبحت قوة الشرطة (بما في ذلك الفرع الخاص SB) أداةً للقمع، تنتهك القانون بنحوٍ منهجي متجاهلة للدستور..

يتناول الفصل الثاني تقريرًا عن تنزانيا، وأوضح فيه كيف كانت المملكة المتحدة تمثل الراعي المهيمن للمساعدة الأمنية الخارجية لتنزانيا، لذا أصبحت الهياكل والممارسات والعادات الرسمية لأمن الدولة تأخذ طابعًا بريطانيًّا فُرض منذ الاحتلال البريطاني لها وحتى بعد الحرب العالمية الثانية، تغيرت حاليًا المعادلة على نحو ما، إذ باتت تحتفظ المملكة المتحدة بشراكة في عملية مكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة مع جهاز الاستخبارات والأمن التنزاني (TISS) وقوات الشرطة، كذلك طورت بريطانيا وإسرائيل وجمهورية الصين المعلومات الاستخباراتية والعلاقات الأمنية مع أجزاء مختلفة من قطاع الأمن في تنزانيا في هذا السياق.

يستكشف هذا الفصل أيضًا موروثات ما بعد الاستعمار البريطاني في تنزانيا ومدى بقاء المملكة المتحدة راعيًا مهيمنا للمساعدة الأمنية في مواجهة التحول السياسي.

ويُعَدّ الفصل الذي كتبه Simon Graham؛ من الفصول القوية بشكل خاص في إظهار عملية توظيف أجهزة الاستخبارات المحلية من قبل القادة السياسيين من تنجانيقا وزنجبار واستغلالها في المنافسات الدولية لتعزيز مطالبهم بقيادة تنزانيا الموحدة.

في حين يقدم الفصل الثالث من الكتاب رؤى مهمةً حول كيفية استخدام الأنظمة الأفريقية لكل من موزمبيق وأنجولا، آلية التنافس وقت الحرب الباردة لأغراض محلية، رغم عقيدة عدم الانحياز الرسمية، لذلك يقدم هذا الفصل وصفًا تفصيليًّا لما أسماه كريستوفر كلافام “سياسات بقاء الدولة” في أفريقيا، إذ تم تسليط الضوء على كيفية قيام النخب الأفريقية بتشكيل البيئة الدولية، مع استخدامها في نفس الوقت من أجل بقاء أنظمتهم السياسية من خلال توظيف المؤسسات الأمنية عموما والاستخباراتية على نحو الخصوص.

وجاء الفصل الرابع ليركز على أزمات الدولة الأفريقية في مرحلة ما بعد الاستعمار، إذ يناقش الفصل حملة مكافحة التمرد التي شنتها روديسيا (زيمبابوي) بين عامي 1965 و1980، وكان الغرض منها هو تحليل الدروس المستفادة من الصراع الروديسي وتقيم أهمية هذه الدروس لكل من التدريب والعقيدة منخفضة الحدة في مجال الصراع وحركات التمرد التي كانت تحدث في ذلك الوقت في الولايات المتحدة. كما ركز البحث على أبرز النقاط المشتركة بين معظم حركات التمرد والمتمثلة في:

1- تنظيم قوات الأمن وما يصاحب ذلك من قضايا التحكم والسيطرة والاتصالات.

2- التدابير المضادة لقمع الإرهاب الحضري.

3- التهدئة والأمن في المناطق الريفية.

4- جمع المعلومات الاستخبارية ومقارنتها ونشرها.

وأن التحدي الأكبر الذي يواجه الجيش الأمريكي في تطوير عقيدة نزاع منخفضة الشدة وموثوق بها اليوم هو التغلب على الحواجز المؤسسية التي تمنع التغيير والتكيف.

وفي الفصل السادس مثلت دراسة “الاستخبارات والقوة السياسية في النظم التراثية الجديدة: النظرية والأدلة من ليبيريا” للباحثين  Benjamin J. Spatz and Alex Bollfrassنقطةً معاكسةً فهي تسلط الضوء على بيروقراطية أجهزة الاستخبارات عبر الزمن والاستقلال النسبي لهذه الأجهزة عندما يتعلق الأمر بحماية الدولة.

وإذا كان على المرء أن يسلط الضوء على شيء واحد، فإنه سيكون حول التجزئة المتزايدة للأجهزة الأمنية في أفريقيا وإنشاء وكالات متوازية ومتداخلة.. على سبيل المثال جهاز الأمن والاستخبارات الوطني في السودان (الفصل السابع) وقت نظام البشير، الذي يعد نموذجًا لكونه جهاز قائم على خدمة نظام الإنقاذ للرئيس البشير حتى عام 2019، وما تؤكده حالة السودان أيضًا هو تنظيم الفوضى لإثارة عدم اليقين وخلق الشعور بوجود الدولة وهو أمر لم يتعمق فيه الكتاب بما يكفي للأسف.

كما نجح جهاز الاستخبارات السوداني في خلق حالة من التوتر بين المواطنين ليشعروا أن أجهزة الاستخبارات موجودةً في كل مكان، وأن القدرة التكنولوجية الفعلية لجهاز الأمن والاستخبارات لم يتم استكشافها، وقد يمثل هذا تطورًا مثيرًا للاهتمام لفهم العلاقات بين الدولة والمجتمع في أفريقيا بقدر أفضل؛ حيث يمكن أن يبدو الشعور بوجود الدولة أكثر أهمية من وجودها الفعلي.

وفي الفصل الثامن المعنون “أجهزة الاستخبارات المدنية في بوتسوانا: الموروثات الاستعمارية والتسييس لمديرية الاستخبارات والأمن” كموضوع للدراسة العلمية، تم إيلاء علاقة الاستخبارات المدنية اهتمامًا أقل نسبيًّا مقارنة بنظيرتها العسكرية، ويناقش هذا الفصل صحة تهديدات الأمن القومي في بوتسوانا، وما إذا كانت تبرر إنشاء مديرية أجهزة الاستخبارات والأمن (DISS)، التي كانت مثيرةً للجدل منذ إنشائها عام 2008، حيث اتهمت دائرة الأمن الداخلي بارتكاب العديد من انتهاكات حقوق الإنسان وتسييس دائرة الأمن الداخلي، وأن تهديدات الأمن القومي لبتسوانا نوعان حقيقيةً ومتخيلةً؛ وأن التهديدات المحلية للأمن القومي قد انتقلت من الفئة المفاهيمية المتخيلة إلى فئة الحقيقية. ويناقش هذا الفصل سببية التهديدات الخارجية لإنشاء وكالة استخبارات مدنية، ويخلص إلى أن بوتسوانا تواجه عددًا كبيرًا من التهديدات الأمنية الخارجية -التقليدية وغير التقليدية- التي تبرر إنشاء واستمرار نظام الأمن الداخلي.

وفي الفصل التاسع الخاص “المعرفة قوةً، لكن القوة تفسد: إعادة تقييم دور الاستخبارات في الحروب السياسة والمجتمع في جنوب أفريقيا: 1965- 2020″، يناقش الفصل كيف كان أثر الحرب الباردة في جنوب أفريقيا، وموقف العلاقات مع مختلف القوى العالمية الأخرى، إذ جاء التعاون الاستخباراتي محددٌ ومؤثرًا على تلك العلاقات والاهتمامات الإقليمية لجنوب أفريقيا، وفي مقدمتها أنشطتها في جنوب غرب أفريقيا (ناميبيا) وعلاقتها مع روديسيا خلال عام 1980، كما يناقش هذا الفصل القواعد التشريعية وأسس الحوكمة المختلفة والهياكل الاستخباراتية في جنوب أفريقيا -في جميع الفترات- والتأثيرات التي تحدثها أنشطتها مثل محاكمة ريفونيا أو لجنة الحقيقة والمصالحة.

وفي الفصل الحادي عشر والأخير، يناقش الباحث كيف حققت جنوب أفريقيا تحولًا ملحوظًا في منظومتها الاستخباراتية، ما جعل منها أداةً عسكريةً للقمع والرقابة الداخلية فترة حكم نظام الفصل العنصري، وتُظهر الدراسة أن إصلاح قطاع الاستخبارات هو عنصر أساسي في عملية التحول الديمقراطي، وأن إصلاح الاستخبارات يجب أن يبدأ مبكرًا وليس لاحقًا في التقدم الشامل للإرساء الديمقراطي، لذا سعت إلى بناء مؤسسة استخباراتية بقيادة مدنية أكثر شفافية وخضوعًا للمساءلة ديمقراطيًّا، كما يتضمن هذا الفصل ثلاثة مواضيع عامة:

1- إنشاء جهاز استخبارات عسكري في زمن الحرب في جنوب أفريقيا.

2- إنشاء العديد من جهات الاتصال البريطانية في جنوب أفريقيا.

3- تقييم علاقة العمل بين الوكالات الجنوب أفريقية والبريطانية.

في النهاية: رغم مناقشة الكتاب لموضوع أجهزة الاستخبارات الأفريقية من خلال فصوله المتعددة، إلا أن هذه الوحدة الموضوعية لم تؤثر في استقلالية كل فصل عن الآخر في موضوعه، لذا كان لكل فصل أهميته الخاصة، كذلك يؤخذ عليه أنه لم يقدم لنا إطارًا تحليليًّا أوسع، يمكن أن يشكل قاعدةً للتعامل نظريًّا مع هذه الأجهزة.

في هذا السياق، لا تعد الفصول المختلفة دراسة حالات في حد ذاتها، ولكنها بالأحرى غايات في حد ذاتها، ولا يخفي محرر الكتاب الدكتور ريان شافير هذه النوايا، حيث يؤكد في مقدمته أن “المساهمات محدودة للغاية وأن البلدان متنوعةٌ للغاية بحيث لا يمكنها تطوير نظرية”. ومع ذلك إذا ثبت أن مجرد الوصف كمهمة منهجية ذا قيمة كبيرة، فذلك لأنه لا يزال يقدم حججًا حول العالم لسوء الحظ، لا يستنتج الكتاب منها الحقائق التجريبية التفصيلية، بل يزود القارئ بروايات مختلفة لأجهزة الاستخبارات عبر القارة الأفريقية، مع عدم وجود نية للتعميم أو المساهمة في الأدبيات المتعلقة بتشكيل الدولة أو العلاقات المدنية العسكرية أو تنامي ظاهرة الاستبداد في أفريقيا.

وختامًا: يتضح لنا أن دراسات الاستخبارات والأمن التي تدرس القارة الأفريقية لا يزال أمامها الكثير، وهو ما حاول هذا الكتاب متعدد الفترات معالجته بمحاولة سدّ الفجوة في الأدبيات الأكاديمية من خلال تركيزه على الأجهزة الأمنية الاستخبارات الأفريقية باستخدام المنظور التاريخي والأخلاقي والخطابي والجنساني والسياسيّ والتقني.