كتب – أحمد حسني وديع

صحفي وباحث في الشؤون السياسية الأفريقية

في السنوات القليلة الماضية، شهدت القارة الأفريقية تدافعًا نحو الانقلابات العسكرية، خاصة في دول الساحل الأفريقي، مالي وبوركينا فاسو والنيجر وغينيا، وجميعها يشهد مراحل انتقالية مضطربة، ما يثير تساؤلًا مهمًا حول العلاقة بين عدم احترافية الجيوش واضطراب الأوضاع، خاصة بعد تدخل الجيوش في العملية السياسية.  

 وثمة ملامح مشتركة بين أغلب هذه التجارب، أولها أن أبطال تلك الانقلابات من القيادات الوسطى في المؤسسات العسكرية وليسوا من كبار الرتب، وثانيها، أن هذه الدول، تمر منذ قبل الانقلابات بتحديات أمنية ضخمة، إما خطر الإرهاب والجريمة المنظمة، أو تمرد بعض الجماعات السياسية، بالإضافة إلى أزمات سياسية اقتصادية اجتماعية مستحكمة، أدت إلى انفجار الأوضاع وتدخل المؤسسات العسكرية في السلطة.

وهناك ملمح أهم، يتعلق بقوة هذه المؤسسات العسكرية واحترافيتها وكفاءتها تجاه ما يهدد بلادها من مخاطر كبيرة، فقد ثبت من خلال التجربة أن أغلب هذه البلدان تشهد اضطرابات أمنية يزيد فيها نشاط الجماعات المتطرفة، وهذه الاضطرابات أحد الأسباب القوية لما جرى من انقلابات.

ورغم أن العسكريين، الذين نفذوا انقلاباتهم، ركزوا في خطاباتهم على ضرورة استعادة الأمن، إلا أنه حتى الآن لم يطرح أحدهم خطة حقيقية لاستعادة بناء الجيش ومواجهة الاضطرابات الأمنية، بل ربما تزداد الأوضاع في بلادهم سوءا. ورغم أن دول مالي وبوركينا فاسو والنيجر، أعلنت في 6 مارس 2024 عن تشكيل قوة أمنية مشتركة لمواجهة التهديدات الأمنية في أراضيها، إلا أنها لم تكشف مزيدًا من التفاصيل حول حجم القوة أو صلاحياتها، وسط عدم ثقة في قدرة البلدان الثلاث على تخطي ما تغرق فيه من تحديات أمنية، دون إعادة بناء حقيقية لجيوشها. 

عدم الاحترافية.. عيوب تاريخية

الحديث عن أسباب عدم احترافية الجيوش في دول أفريقيا جنوب الصحراء كثيرة، يُحتم علينا العودة إلى التاريخ، فمكامن ضعف أغلب الجيوش الأفريقية بدأت منذ الإرهاصات الأولى لتأسيسها، ويمكننا التمييز بين مرحلتين مرت بهما الجيوش الأفريقية، تمثل المرحلة الأولى مرحلة ما قبل الاستعمار،  حيث تنوعت القوات العسكرية فيها بين جيوش نظامية دائمة لدى بعض الممالك، التي انخرطت في حروب مستمرة، وبين وحدات صغيرة لحماية قصر الملك والاستعداد المحتمل للمخاطر، في الممالك التي لم يكن لديها ميول حربية.

وفي المرحلة الثانية، خلال العهد الاستعماري، كانت أغلب الجيوش الأفريقية جيوشًا أسستها القوى الاستعمارية للدفاع عن مصالحها، كما حدث في قيام الأفارقة بالقتال على جبهات المعارك خلال الحربين العالميتين الأولى والثانية.

وقد زرع المستعمرون بذور التحيز العرقي في هذه الجيوش، حيث شكلت الأقليات العرقية الجزء الأكبر من القوات المسلحة الاستعمارية من أجل موازنة العرقيات الأقوى تاريخيًا، وقد كان لهذا التحيز العرقي الأولي تأثير كبير على تشكيل جيوش ما بعد الاستقلال.

 ولقد مرت الجيوش الأفريقية بتطورات فارقة منذ الاستقلال، إذ إنها في المراحل الأولى من بناء الدولة الحديثة كانت أشبه بقوات شرطية صغيرة العدد معنية أساسًا بحفظ الأمن الداخلي، لكنها يومًا بعد الآخر أضحت أكثر عددًا وعتادًا في مواجهة التحديات الخارجية المتزايدة.

ورغم أن الفرصة كانت سانحة أمام حكومات ما بعد الاستقلال لبناء جيوشًا أفريقية وطنية محترفة وقوية، من خلال إصلاح البنية وعمليات وطرق التجنيد الموروثة من العهد الاستعماري، إلا أن أغلب هذه الحكومات اختار الاستمرار فيما زرعه العهد الاستعماري من عيوب في بناء هذه الجيوش، وأولها التحيزات العرقية والتسييس وضعف القدرات، لتصبح هذه الجيوش أدوات في أيديها لإنشاء أنظمة غير ديمقراطية.

وهذا ما يُفسر لماذا تفتقر العديد من الدول الأفريقية لوجود جيوش قوية احترافية، قادرة على مواجهة التحديات الداخلية والخارجية حتى الآن، رغم مرور أكثر من 60 عامًا على الاستقلال عن الاستعمار الأوروبي.

التحديات الأمنية.. سنوات من الهزيمة

في العقدين الآخيرين، تواجه منطقة الساحل الأفريقي تهديدات أمنية معقدة، ما وضع الأمن الإقليمي للمنطقة على المحك، خاصة في ظل ضعف وترهل العديد من دول المنطقة، حتى باتت الخطوط الفاصلة بين الجماعات الإرهابية وعصابات الجريمة المنظمة وتجار السلاح والمخدرات وعصابات الإتجار بالبشر غير واضحة، ولم تعد المواجهات العسكرية مع هؤلاء تمثل حلولًا ناجعة، حتى بعد تدخل القوى الأجنبية بعمليات عسكرية ضد الجماعات الإرهابية، مثل العملية الفرنسية “برخان”.

وخلال الأعوام القليلة الماضية، أُعيد رسم خريطة المنطقة الجيوسياسية وتشكيلة القوات التي تضمن أمنها، لا سيما مع رحيل فرنسا وبزوغ أدوار قوى دولية أخرى مثل روسيا والولايات المتحدة الأمريكية. 

ورغم الجهود المحلية، التي تبذلها الحكومات ذاتها، والإقليمية في إطار الاتحاد الأفريقي، والدولية التي تشارك فيها القوى الكبرى، لم تتمكن القارة الأفريقية حتى الآن من بناء استراتيجيات قوية لمواجهة تلك التهديدات الأمنية، إلى درجة باتت معها مالي وبوركينا فاسو والنيجر من بين 11 دولة هشة في أفريقيا، بحسب تقرير صندوق السلام، وهو مركز فكر أمريكي، في 2021.

وفي تقريري مؤشر الإرهاب العالمي، الصادرين عن معهد الاقتصاد والسلام الدولي، لعامي 2023 و2024، احتلت القارة الأفريقية حيزًا كبيرًا، حيث ترتع فيها الجماعات الإرهابية بما يهدد ليس استقرار الدول الوطنية في القارة فقط، بل ربما يهدد وجودها أيضًا. ورصد التقريران جملة من الأسباب، التي تؤدي إلى انتشار الجماعات الإرهابية في دول عديدة بالقارة الأفريقية، من بينها فشل الأنظمة في احتواء الغضب الشعبي الناتج عن استحكام الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، مع انتهاج سياسات أمنية للفتك بالمعارضين، ما يدفع الشباب للبحث عن بديل للمعارضة السلمية فيكون التنظيمات الإرهابية، التي تضمن لهم أحوالًا معيشية أفضل.

ويشير التقريران إلى زيادة عدد الوفيات خلال عامي 2022 و2023 عن السنوات السبع السابقة عليهما بفعل نشاط واضح للجماعات الإرهابية، التي يتركز نشاطها في عدد صغير من البلدان، حيث سجلت نحو عشر دول ما يفوق 85% من إجمالي الوفيات الناتجة عن العمليات الإرهابية في القارة.

وحتى لا تظن أننا نلخص التحديات الأمنية في منطقة الساحل الأفريقي في خطر الجماعات الإرهابية فقط، لك أن تطلع على مؤشر الجريمة المنظمة في أفريقيا لعام 2023، الصادر مطلع هذا العام عن مشروع تعزيز استجابة أفريقيا للجريمة المنظمة عبر الوطنية (إناكت)، والذي يشير إلى ارتفاع معدلات الجريمة المنظمة في القارة منذ 2019، وطبقًا لوصف التقرير “زادت الجريمة المنظمة دون رادع منذ عام 2019، في ظل انتشار الأسواق غير المشروعة وتوسع نفوذ العناصر الإجرامية في ربوع القارة”.

 مالي وبوركينا والنيجر وغينيا .. صعوبة تشكيل جيوش محترفة

الجيوش غالية التكاليف، وتتطلب إنفاقًا ضخمًا، هذا من المعلوم بالضرورة، وهي ليست أسلحة وبشرًا فقط، لكن هناك ضلع ثالث يكمل المثلث المطلوب لبناء جيش قوي احترافي، وهو التعليم والتدريب العسكري، الذي يهدف بشكل أساسي إلى غرس جملة من القيم في نفوس العسكريين، لتوفير عدة مزايا، أهمها توفير الأمن بكفاءة أعلى على صعيد الوطن والمواطن، والتزام الضباط العسكريين بالحياد السياسي، وتوفير رؤية ورسالة ودور محددين بوضوح لكل المؤسسات الأمنية مع درجات استجابة أعلى لأولويات الأمن القومي، وتحقيق مزيد من الكفاءة في مواءمة الموارد  واستخدامها، وبالتأكيد احترام سيادة القانون وحقوق الإنسان والخضوع للمساءلة في حال الخطأ.

بالتأكيد هناك جيوش قوية في القارة وعلى درجة عالية من الاحترافية، ولديها تعليم عسكري متطور وإنفاق كبير، وتسهم بدور كبير في حفظ أمن واستقرار مجتمعاتها، منها على سبيل المثال لا الحصر، أقوى ثلاثة جيوش في القارة، المصري والجزائري والجنوب أفريقي، وفقًا لموقع “ميليتري أفريكا” العسكري، لكن جيوش الدول الأربعة، مالي وبوركينا فاسو والنيجر وغينيا، تعاني اختلالات هيكلية، أكثرها تأثيرًا، هو تراجع التعليم العسكري بها.

تمتلك القارة الأفريقية، وفقًا لمركز أفريقيا للدراسات الاستراتيجية، 118 كلية عسكرية، تتنوع بين كليات الحرب والأكاديميات العسكرية وكليات القادة والأركان، ولدى 42 دولة من أصل 54 دولة أفريقية أكاديميات عسكرية ولدى 26 دولة في القارة كلية قادة وأركان و18 دولة كليات حرب أو دفاع.

والدول الأربعة مالي وبوركينا فاسو والنيجر وغينيا، لديها 7 مؤسسات تعليم عسكري فقط، مقسمة إلى 4 أكاديميات عسكرية، وكليتي قيادة وأركان وكلية واحدة للدفاع والحرب، ما يشير بوضوح إلى تراجع التعليم العسكري في الدول الأربعة وهو أحد أسباب عدم امتلاك هذه الدول جيوشًا قوية.

ورغم أن الجيش المالي، الذي يحتل المرتبة الـ 110 عالميا، وفق ترتيب موقع “غلوبال فاير باور” لقدرات الجيوش لعام 2023، تلقى تدريبًا على يد القوات الأمريكية، وقوات تابعة لدول في الاتحاد الأوروبي، إلا أن مؤسسة “راند الأمريكية”، نشرت بحثًا أكد فيه الرائد سيمون بويلسون، المشارك في التدريب “سوء حالة التدريب على معدات الجيش المالي وعدم فاعلية الجهود الأمريكية لتصحيحها، وبالتالي فالتدريب لم يحقق المطلوب منه”.

ومن الأسباب ذلك الطبيعة الإثنية، التي بُني عليها الجيش وضعف الإنفاق عليه، حيث تزيد ميزانية الإنفاق الدفاع قليلا على النصف مليار دولار، بالإضافة إلى فشل جهود تعزيز الاندماج العرقي ووحدة الصف.

الحال أسوأ في جيش بوركينا فاسو، الذي يحتل المرتبة الـ 121 عالميًا، بقدرات إنفاق عسكري أقل من نصف مليار دولار، ومعدات قليلة وغير متطورة، ولا يختلف الحال في جيشي النيجر وغينيا كوناكري.

ختامًا: التحالف الأمني الجديد.. تحديات تنذر بالفشل

مع إعلان الانقلاب في النيجر، ورفض المجموعة الاقتصادية لغرب أفريقيا إيكواس له، أعلنت بوركينا فاسو ومالي دعمها لعسكريي النيجر، وسط الحديث عن حرب بين الدول الثلاثة وباقي دول الإيكواس، وقد أنتج التقارب بين الدول الثلاث عن الإعلان في 6 مارس 2024 عن تشكيل قوة أمنية مشتركة لمواجهة التهديدات الأمنية في أراضيها، إلا أنها لم تكشف مزيدًا من التفاصيل حول حجم القوة أو صلاحياتها.

وبالنظر إلى المعطيات السابقة عن فشل الدول الثلاث أمام التحديات الأمنية لديها طوال السنوات الماضية، وتراجع قدراتها العسكرية، يصبح التحالف الجديد مجردًا من أي مقومات للنجاح، إلى درجة يكون معها من الصعب أن يحقق نتائجًا أكثر من “التصريحات الإعلامية”.

ليس من السهل أن تنجح الدول الثلاث وهي ترزح تحت أزمات سياسية واقتصادية واجتماعية مستحكمة في تجاوز التحديات الأمنية، فحكومة مالي تخوض قتالًا على ثلاث جبهات، وبوركينا فاسو ثاني أكثر البلدان الأفريقية تأثرًا بالإرهاب وفق مؤشر الإرهاب العالمي، بينما تعاني النيجر من هجمات إرهابية متصاعدة، إذا نحن أمام دول هشة تعاني الإرهاق وأقرب إلى الفشل في ظل علاقات مقطوعة مع إيكواس ومتوترة مع الدول الأعضاء في المجموعة وهي الدول المجاورة لها في الإقليم، بالإضافة توترات سياسية واجتماعية متصاعدة.

وتعتبر حالات الدول الأربعة دليلًا واضحًا على وجود علاقة بين عدم احترافية الجيوش وزيادة الاضطرابات في المراحل الانتقالية، إذ إن حالة مالي دخلت عامها الرابع، وحالة بوركينا تجاوزت عامين، إلا أنه حتى الآن لا توجد رؤية واضحة على العبور من المرحلة الانتقالية، أما غينيا فالخلافات دبت بين السلطة الانتقالية العسكرية وبين المعارضة السياسية، ما ينذر بالكثير من الاضطرابات، في حين أن الوضع في النيجر لم يكشف عن كامل تفاصيله حتى الآن، وإن كان من غير المتوقع أن تختلف عن حليفاتها، إذ إن الظروف والملابسات متشابهة إلى حد بعيد.

وبالضد تضح الأشياء، فإذا نظرنا إلى الجيش في زيمبابوي، وهو أكثر احترافية من جيوش الدول الأربعة، وأكثر تماسكًا وقوة، فقد استطاع العبور بالمرحلة الانتقالية بعد الإطاحة بروبرت موجابي بأقل الخسائر. حيث وجد جيش زيمبابوي نفسه مضطرًا للتدخل لحل أزمة سياسية استحكمت بين موجابي وزوجته غريس موجابي من ناحية ونائبه المُقال إيمرسون منانغاغوا والجماهير الغاضبة في الشوارع احتجاجًا على تردى الأوضاع من ناحية أخرى.

 ولأن الجيش الزيمبابوي كأغلب جيوش أفريقيا قريب بشكل أو بآخر من السياسة فكان تدخله أمرًا منتظرًا، إذ قرر قادة الجيش في 14 نزفمبر 2017 عزل موجابي وتسليم السلطة لمنانغاغوا كمرحلة انتقالية، وبعدها أجريت انتخابات رئاسية تولي بموجبها منانغوا السلطة بشكل دستوري كرئيس منتخب، وهذا لم يستغرق أكثر من عامين، قضتهما زيمبابوي دون اضطرابات أو صراع سياسي.

لمزيد من التفاصيل انظر المصادر:

1- إميل وادراوغو، الارتقاء بالاحتراف العسكري في أفريقيا (واشنطن: مركز أفريقيا للدراسات الاستراتيجية، 2014).

2- إيزاك كاليدزي، مكافحة الإرهاب في أفريقيا.. تحديات تنتظر تحالف الانقلابيين، موقع دويتشه فيلا، ديسمبر 2023 .

2- حمدي عبدالرحمن، “الجيوش والسياسة في أفريقيا.. طبيعة الدور السياسي وتحديات التحول الديمقراطي”، في حمدي عبدالرحمن (محرر)، الجيوش والتحول الديمقراطي في أفريقيا (الدوحة: منتدى العلاقات العربية والدولية 2015).

3- ——، تحولات جيوسياسية.. تداعيات عدم الاستقرار وآفاق المستقبل في دول الساحل، موقع مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار، يناير 2024.

4- سكاي نيوز، أمام قوة “إيكواس”.. ما قدرات جيوش حلفاء النيجر؟، أغسطس 2023.

5- رامي عاشور، مستقبل الإرهاب في أفريقيا.. كأحد مظاهر الحروب الجديدة في العالم، مجلة السياسة والاقتصاد، المجلد 17، العدد 16، أكتوبر 2022.

6- عدلي سعداوي، مستقبل الأمن والاستقرار الإقليمي في أفريقيـــا، موقع مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار، يناير 2023.

7-  معهد الاقتصاد والسلام الدولي، مؤشر الإرهاب العالمي 2023، و2024.

8- مركز أفريقيا للدراسات الاستراتيجية، معاهد التعليم العسكري الاحترافي في أفريقيا، إبريل 2022.

9- ——–، تعميق ثقافة الاحترافية العسكرية داخل أفريقيا، يناير 2023.

10- مايكل شوركين وآخرون، معركة مالي التالية.. تحسين قدرات مكافحة الإرهاب، مؤسسة راند الأمريكية 2017.