كتب – د. محمد فؤاد رشوان

باحث في الشؤون السياسية الأفريقية

على الرغم من سعي إسرائيل الدائم نحو القارة الأفريقية، والتي روَّجت لوجودها داخل القارة بفكرة الآلام المشتركة التي عاشها الشعب اليهودي والشعوب الأفريقية من اضطهاد وتهجير وعبودية، وهو ما جعل إسرائيل لها أكبر تمثيل دبلوماسي في العالم داخل قارة أفريقيا؛ حيث إن حجم التمثيل الدبلوماسي لإسرائيل في أفريقيا يعادل تقريبًا نصف تمثيلها الدبلوماسي في العالم أجمع.

إلا أن الموقف العام لدول أفريقيا جنوب الصحراء يميل إلى دعم القضية الفلسطينية وذلك بعد إدراك الشعوب والحكومات الأفريقية أن الاحتلال الذي يعيش تحت نيره الشعب الفلسطيني من قبل إسرائيل يستدعي في الذاكرة الجمعية الأفريقية حالة الاستعمار والاضطهاد الطويل التي عاشتها الشعوب الأفريقية، إلا أن الدعم الأفريقي للحق الفلسطيني يشهد كثيرًا من حالات المد والجزر وفقًا للحالة الدولية وتقاطعات المصالح.

بيد أن موقف دولة جنوب أفريقيا يشهد حالة من الثبات المستمر والدعم المتواصل للقضية الفلسطينية منذ انتهاء نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا عام 1994، وحتى الأحداث الأخيرة التي شهدتها فلسطين بعد السابع من أكتوبر الماضي، والتي راح ضحيتها أكثر من عشرين ألف شهيد، وأضعاف ذلك الرقم من المصابين والجرحى.

وتسعى هذه الدراسة للإجابة على تساؤل رئيسي، وهو لماذا لجأت جنوب أفريقيا إلى محكمة العدل الدولية لوقف جرائم الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية التي تقوم بها إسرائيل في غزة منذ السابع من أكتوبر 2023؟ وللإجابة على هذا التساؤل لا بد من الإجابة على بعض الأسئلة الفرعية، منها: لماذا لم تلجأ جنوب أفريقيا إلى المحكمة الجنائية الدولية، وما هي العقبات التي تواجه طلبات الإحالة للتحقيق في المحكمة؟ وهل يقف ميثاق المحكمة عائقًا من أجل تحقيق العدالة الجنائية الدولية؟ وما دور الولايات المتحدة الأمريكية في عرقلة تلك العدالة؟

أولًا: علاقة جنوب أفريقيا وفلسطين

يظل عام 1948 راسخًا في ذاكرة كل من جنوب أفريقيا وفلسطين؛ ففي ذلك العام خلق الاستعمار البريطاني البيئة الملائمة لنظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا بحق السكان الأصليين، وإعلان دولة إسرائيل بعدما غادر المستعمر البريطاني المنطقة تاركًا إياها في حرب أهلية بين الإسرائيليين والفلسطينيين من سكان المنطقة، وهُجِّر خلالها مئات الآلاف من الفلسطينيين وأُجبروا على ترك منازلهم فيما عُرف بــ” النكبة” عام 1948.[1]

وكذلك فقد تشابهت وسائل نضال الفلسطينيين والجنوب أفريقيين بدءًا من العمليات الفدائية وانتهاء بالمفاوضات، فكما ادعى “جان ريبيك” وهو أول مستوطن تطأ قدماه أرض جنوب أفريقيا أنه اكتشف أرضًا خالية من السكان، ادعت الحركة الصهيونية أن فلسطين أرض بلا شعب، وكما ادعت الكنيسة الهولندية أن البيض المستعمرين هم “صفوة شعوب الأرض، وأن السود خُلقلوا عبيدًا لهم”، ادعت الصهيونية أن اليهود هم” شعب الله المختار”، وكما أطلق الغزاة الهولنديون على جنوب أفريقيا “عسكر الأمل الجميل” أطلق المستوطنون اليهود على فلسطين نشيد الأمل “هتكفا”.[2]

وبعد نضال استمر ستة عقود نجح المؤتمر الوطني الأفريقي في إسقاط نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا عام 1994، لكن قائد النضال الجنوب أفريقي نيلسون مانديلا اعتبر استقلال بلاده لم يكتمل لأن فلسطين لم تتحرر بعد، وقام بالاعتراف المنفرد بدول فلسطين عام 1995 وتبادل معها التمثيل الدبلوماسي، وقام بزيارة غزة في أكتوبر عام 1999 وهو ما رسخ للارتباط الوجداني بين القضيتين في روح الشعب الجنوب الأفريقي وحكامه حتى الآن. [3]

ويتبلور ذلك الموقف داخل جنوب أفريقيا على الرغم من وجود جالية نشطة من اليهود في  جنوب أفريقيا بدأ وجودها منذ عام 1452، عقب اكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح وتحالف التجار اليهود مع شركة الهند الشرقية التي كانت سببًا لوجود السكان البيض في جنوب أفريقيا، وتشير العديد من الوثائق إلى ظهور أسماء يهودية في سجلات المستوطنين الأوائل، ثم وفد المستعمرون اليهود وخاصة من ألمانيا والجزر البريطانية. [4]

ومن الجدير بالذكر أن معظم نشاط اليهود تركز في جنوب أفريقيا على مجالين أساسيين هما تجارة الألماس وتجارة السلاح، وهو ما أعطى قوة اقتصادية كبيرة للجالية اليهودية في جنوب أفريقيا والتي تقدر بحوالي ربع مليون نسمة، إلا أن هذا الزخم اليهودي وفاعليته في جنوب أفريقيا لم ينجح في التأثير في الضمير الشعبي فيها، وخاصة تجاه القضية الفلسطينية، والذي يعتبر المعاناه الفلسطينية من الاحتلال الإسرائيلي تماثل معاناتهم مع نظام الفصل العنصري.[5]

وقد اتخذت الحكومة في جنوب أفريقيا خطوات تصعيدية تجاه إسرائيل بسبب جرائم الحرب والإبادة الجماعية التي تمارسها إسرائيل في غزة منذ السابع من أكتوبر 2023، فمنذ اليوم الأول لعملية “طوفان الأقصى” دعت جنوب أفريقيا لوقف إطلاق النار بين الإسرائيليين والفلسطينيين معبرة عن استعدادها للوساطة بين الطرفين كما دعت لاغتنام الفرصة لإرساء السلام بدلًا من العنف كما دعت المجتمع الدولي للوقوف بفاعلية إلى جانب قراراته الدولية وتنظيم عملية سلام ذات مصداقية[6]، ثم أصدرت وزارة خارجيتها بيانًا رسميًا في 4 نوفمبر تضمَّن إدانتها استهداف المدنيين الفلسطينيين في قطاع غزة، واستهداف المستشفيات، وسيارات الإسعاف، والمدارس والمباني السكنية، كما دعا البيان إلى وقف فوري لإطلاق النار، ومن ثم قامت جنوب أفريقيا في 6 نوفمبر باستدعاء دبلوماسييها في إسرائيل للتشاور على خلفية الوضع الحالي، معلنة أن وجود السفير الإسرائيلي في جنوب أفريقيا غير مرغوب فيه، وأخيرًا زادت جنوب أفريقيا من موقفها تجاه إسرائيل بتقديم طلب إلى محكمة العدل الدولية تتهم فيها إسرائيل بارتكاب أعمال إبادة جماعية ضد المدنيين الفلسطينيين موضحة أن أفعال إسرائيل مصحوبة بالنية المحددة لتدمير فلسطينيي غزة كجزء من المجموعة القومية الفلسطينية. [7]

ثانيًا: اللجوء إلى محكمة العدل الدولية

 في التاسع والعشرين من ديسمبر 2023 رفعت جنوب أفريقيا دعوى أمام محكمة العدل الدولية بشأن انتهاكات إسرائيل المخالفة لالتزاماتها بموجب اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية المعاقبة عليها، وذلك بمقتضى المادة التاسعة من الاتفاقية، والتي تنص على أنه “تُعرض على محكمة العدل الدولية بناء على طلب أي من الأطراف المتنازعة، النزاعاتُ التي تنشأ بين الأطراف المتعاقدة بشأن تفسير أو تطبيق أو تنفيذ هذه الاتفاقية، بما في ذلك النزاعات المتصلة بمسؤولية دولة ما عن إبادة جماعية أو عن الأفعال الأخرى المذكورة في المادة الثالثة”، كما طلبت جنوب أفريقيا من المحكمة الإشارة إلى اتخاذ تدابير مؤقتة من أجل حماية الفلسطينيين في غزة من أي ضرر جسيم إضافي وغير قابل للإصلاح بموجب الاتفاقية ولضمان امتثال إسرائيل لالتزاماتها بموجب اتفاقية الإبادة الجماعية بعد المشاركة في الإبادة الجماعية ومنعها والمعاقبة عليها. [8]

وعلى صعيد آخر فقد رفضت إسرائيل الادعاء الجنوب أفريقي، بدعوى عدم استناده إلى أي أساس قانوني؛ حيث اتهمت جنوب أفريقيا بتعاونها مع جماعة إرهابية تدعو إلى تدمير إسرائيل، وأن شعب غزة ليس عدوًا لإسرائيل التي تبذل الجهود للحد من وقوع ضرر على المدنيين، معربة عن مثولها أمام المحكمة للطعن في الاتهامات التي قدمتها جنوب أفريقيا .[9]

وعمدت جنوب أفريقيا للجوء لمحكمة العدل الدولية باعتبارها من الدول الموقعة على اتفاقية الإبادة الجماعية، وأنه سيكون لها تأثير فوري يجبر إسرائيل على وقف هجومها الوحشي على المدنيين في غزة، وهنا فالقضية ليست قضية جنائية ضد أفراد يُزعم أنهم جناة، ولا تتعلق بالمحكمة الجنائية الدولية وما طالها من انتقادات لطبيعة عملها، والذي ربما يستمر لسنوات طويلة إذا لم يتم إعاقة عملها وفقًا لمعاهدة تأسيسها، كما سيتم توضيحه لاحقًا، وإنما هي قضية بين دولة ودولة من الدول الأعضاء في الأمم المتحدة التي تحكمها نصوص قانونية في ميثاق الأمم المتحدة والنظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية واتفاقية الإبادة الجماعية.

فالنظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية يخوِّل لها إصدار أمر بتدابير مؤقته لحماية حقوق الفلسطينيين، وهي أوامر ملزمة قانونًا للأطراف، ومن بين تلك التدابير وقف أعمال الإبادة وحماية المدنيين الفلسطينيين ومنع إسرائيل من استمرارها في الحرب، وكذلك منعها من القيود المفروضة على تنقل الفلسطينيين، وإزالة القيود المفروضة على وصول المساعدات الإنسانية وحظر الممارسات التي تحد من حقهم في الحصول على الرعاية الصحية والتعليم وسبل العيش، ويمكن للأمم المتحدة أن تتخذ خطوات لزيادة فاعلية أمر محكمة العدل الدولية، وبالتالي رفع التكلفة السياسية حال عدم امتثال إسرائيل لتك الأوامر.

فبموجب المادة 41 (2) من النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية، والتي تنص على أن ” يكون للمحكمة سلطة أن تبين، إذا رأت أن الظروف تتطلب ذلك، أي تدابير مؤقتة ينبغي اتخاذها للحفاظ على الحقوق الخاصة بأي من الطرفين، ريثما يتم اتخاذ القرار النهائي، يجب على الفور إبلاغ الأطراف ومجلس الأمن بالتدابير المقترحة” وبناء على ذلك  يتم إرسال أوامر المحكمة بالتدابير المؤقتة تلقائيًا إلى مجلس الأمن الدولي، وهو ما يشكل ضغطًا على محل الأمن لاتخاذ إجراءات ملموسة في فلسطين .[10]

حتى وإن نجحت إسرائيل في وقف الإجراءات في مجلس الأمن بفضل الفيتو الأمريكي فإن الأمر سيشكل ضغطًا كبيرًا على النظام الإسرائيلي أمام المجتمع الدولي، وخاصة مع تزايد المظاهرات الداعمة للموقف الفلسطيني والمنددة بالأعمال الإسرائيلية، وكشفت اللثام عن الوجه الحقيقي للاحتلال الإسرائيلي أمام الرأي العام العالمي، وكذلك كشفت الموقف الأمريكي المناهض للعدالة الدولية.

وقد أعلنت محكمة العدل الدولية أنها ستعقد جلستي استماع علنيتين يومي الخميس والجمعة الموافقين 11، 12 يناير 2024 في مقر المحكمة في لاهاي، وسيتم تخصيص الجلستين للاستماع لطلب جنوب أفريقيا، والذي يطلب من المحكمة الإشارة إلى تدابير مؤقتة من أجل “الحماية من أي ضرر جسيم وغير قابل للإصلاح لحقوق الشعب الفلسطيني بموجب اتفاقية الإبادة الجماعية” وضمان امتثال إسرائيل لالتزاماتها بموجب الاتفاقية بعدم الانخراط في الإبادة الجماعية، وستقدم جنوب أفريقيا مرافعتها الشفاهية يوم الخميس 11 يناير من الساعة 10 صباحًا، وحتى 12 ظهرًا فيما ستقدم إسرائيل مرافعتها الشفهية يوم الجمعة الموافق 12 يناير 2024 من الساعة 10 صباحًا إلى 12 ظهرًا .[11]

ومن الجدير بالذكر أن المحكمة سبق وحكمت في عام 2007 بوجود إبادة جماعية في مقاطعة سربرنيتسا في البوسنة والهرسك، وأن صربيا انتهكت واجبها في منع الإبادة الجماعية. كما قضت المحكمة بأن صربيا انتهكت واجبها في معاقبة الإبادة الجماعية بعدم تسليمها الجنرال الصربي – البوسني راتكو ملاديتش، أحد مهندسي الإبادة الجماعية في سربرنيتسا، إلى المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة لمحاكمته. قامت صربيا في النهاية بتسليم ملاديتش في محكمة يوغوسلافيا في 2011. [12]

ثالثًا: لماذا لم تلجأ جنوب أفريقيا إلى المحكمة الجنائية الدولية؟

تقوم إسرائيل حاليًا بأعمال الإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين، وهم مجموعة قومية كما تم سردها في اتفاقية منع الإبادة الجماعية في مادتها الثانية، والتي أعيدت بذات النص في المادة 6 من نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، وهي خمسة أعمال أساسية تحقق منها ثلاثة فيما تقوم به إسرائيل من أعمال، وهي: قتل أفراد من الجماعة القومية، إلحاق ضرر جسدي أو نفسي خطير بأفراد الجماعة، إخضاع المجموعة عمدًا لظروف معيشية يراد بها تدميرها المادي كليًا أو جزئيًا.

وعلى الرغم من كون تلك الجرائم تعاقب عليها المحكمة الجنائية، وفقًا لمبدأ المسؤولية الجنائية الدولية للفرد والذي ورد في المادة 25 من نظام روما والذي ينص على أن يكون للمحكمة اختصاص على الأسخاص الطبيعيين عملًا بهذا النظام الأساسي، الشخص الذي يرتكب جريمة تدخل في اختصاص المحكمة يكون مسؤولاً عنها بصفته الفردية وعرضة للعقاب وفقًا لهذا النظام الأساسي” [13]، وبناء على ذلك يمكن تحميل الأفراد الذين يرتكبون جرائم الحرب المسؤولية الجنائية عنها. ويمكن أيضاً تحميلهم المسؤولية الجنائية عن المساهمة في ارتكاب جرائم الحرب أو تسهيل ارتكابها أو المساعدة أو التحريض عليه. كما يمكن ملاحقتهم قضائيًّا بسبب التخطيط لارتكاب تلك الجرائم أو التحريض عليها. وفضلاً عن ذلك، يمكن تحميل المسؤولية الفردية للموظفين المدنيين والقادة العسكريين والجنود الذين يأمرون بارتكاب جرائم ضد الإنسانية أو يرتكبونها بأنفسهم، وهو ما يطال أغلب القادة الإسرائيليين.

إلا أن المحكمة قد وجدت أمامها العديد من العقبات التي تحول دون أداء الدور المنوط بها، فاعترضت سبيلها في تحقيق العدالة الدولية منها دور مجلس الأمن في إعاقة عمل المحكمة، وموقف الولايات المتحدة من وجود المحكمة ذاتها وعرقلة عملها.

  1.    دور مجلس الأمن في تعزيز الإفلات من العقاب

سعت الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن، لا سيما الولايات المتحدة الأمريكية، إلى ضمان دور مجلس الأمن في مسألة الادعاء أمام القضاء الدولي؛ حيث اقترحت منح مجلس الأمن سلطة الإحالة للمدعي العام للمحكمة للبدء في التحقيق كما عملت على إضافة سلطة الإرجاء إلى مجلس الأمن، الأمر الذي حول المحكمة الجنائية الدولية كأداة سياسية في يد الدول دائمة العضوية أمام باقي دول العالم ونتيجة لذلك فلم يقدم للمحاكمة أمامها سوى الدول الأفريقية والدول الضعيفة فقط دون غيرها؛ حيث نصت المادة 13 فقرة (ب) على العلاقة بين مجلس الأمن والمحكمة الجنائية والتي تجسد سلطات المجلس بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، والذي منح المجلس سلطات واسعة في مجال حفظ الأمن والسلم الدوليين وتأكيدًا على هذا الدور فقد أناط النظام الأساسي للمحكمة نظام الإحالة من قبل المجلس كآلية لتحريك الدعوى أمام المحكمة.

كما حدث في النزاع في دارفور بموجب قرار مجلس الأمن رقم 1593 الصادر بتاريخ 31 مارس  2005 وتوجيه الاتهام إلى الرئيس السوداني السابق عمر حسن البشير، وحالة ليبيا بموجب القرار الصادر من مجلس الأمن رقم 1970 بتاريخ 26 فبراير 2011 وتوجيه تهم ارتكاب جرائم ضد الإنسانية لسيف الإسلام القذافي.[14]

أما عن سلطة الإرجاء بمثابة منحة قُررت لجهة واحدة فقط وهي مجلس الأمن دون غيره في هيئة طلب يتولى تقديمة إلى المحكمة الجنائية الدولية بموجب المادة 16 من نظام روما الأساسي والذي تنص على “لا يجوز البدء أو المضي في تحقيق أو مقاضاة بموجب هذا النظام الأساسي لمدة اثني عشر شهرًا بناءً على طلب من مجلس الأمن إلى المحكمة بهذا المعنى يتضمنه قرار يصدر عن المجلس بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة, ويجوز للمجلس تجديد هذا الطلب بالشروط ذاتها”.

وبالتالي تعتبر هذه السلطة العائق أمام المحكمة والذي يمكنه إرجاء الدعوى في أي مرحلة كانت عليها من بداية التحقيق وأثناء التحقيق إلى إجراءات المحاكمة لمدة 12 شهرًا قابلة للتجديد وبدون سقف لهذه المدة، وبالتالي يمكن تجديدها لفترات طويلة جدًّا تضيع معها كافة الأدلة الدالة على الجريمة أو طمث آثار التحقيق وفقدان الشهود أو إحجامهم عن الإدلاء بشهادتهم مما يؤثر في سير التحقيقات. [15]

  1.    دور الولايات المتحدة الأمريكية في عرقلة مبدأ مكافحة الإفلات من العقاب

وقفت الولايات المتحدة الأمريكية بكل ما أوتيت من قوة من أجل عرقلة عمل المحكمة الجنائية الدولية ومحاربة الإفلات من العقاب، وتقليص دورها في تحقيق العدالة الدولية، فقد اعترضت اعتراضًا واضحًا على إنشاء المحكمة؛ حيث كانت من الدول السبع التي اعترضت على نظام روما الأساسي عام 1998، كما رفضت التوقيع على المعاهدة وعملت على استهداف اختصاصها التي وجدت من أجله.

كما سعت جاهدة إلى الالتفاف حول نظامها الأساسي وإفراغه من محتواه عن طريق انتهاج سياسة التفسير التعسفي لبعض قواعد المحكمة أو تشريع قوانين مخالفة لقواعد المحكمة ووفقًا لهذا الإجراء فقد وافق مجلس الأمن وبالإجماع على إعفاء الموطنين الأمريكيين لمدة 12 شهرًا من محاكمتهم أمام المحكمة الجنائية الدولية قابلة للتجديد بذات الإجراءات .[16]

ومن ناحية أخرى فقد عملت الولايات المتحدة على استغلال الثغرة الواردة في المادة 98 من نظام روما الأساسي، والتي تعيق المحكمة من أداء عملها؛ حيث تنص في فقرتها الأولى على أنه “لا يجوز للمحكمة أن توجه طلب تقديم أو مساعدة يقتضي من الدولة الموجه إليها الطلب أن تتصرف على نحو يتنافى مع التزاماتها بموجب القانون الدولي فيما يتعلق بحصانات الدولة أو الحصانة الدبلوماسية لشخص أو ممتلكات تابعة لدولة ثالثة، ما لم تستطع المحكمة أن تحصل أولاً على تعاون تلك الدولة الثالثة من أجل التنازل عن الحصانة”.

وبناء على ذلك فقد عملت أمريكا على توقيع اتفاقيات ثنائية تعرف باتفاقيات الحصانة  مع أكبر عدد من الدول حول العالم لمنع تسليم مواطنيها إلى المحكمة الجنائية أو متابعة رعاياها أمامها إلا بموافقتها، وقد وقعت الولايات المتحدة الأمريكية حوالي 100 اتفاقية ثنائية حتى عام 2005 مستخدمة كافة الإغراءات الاقتصادية والسياسية للدول من أجل حثها على التوقيع على تلك الاتفاقيات، وحال رفض الدول التوقيع على الاتفاقية فهي معرَّضة للتهديد الاقتصادي والسياسي، كما حدث مع بنين التي رفضت توقيع الاتفاقية فتم سحب منحة مالية تُقدر بنص مليون دولار عام 2004. [17]

خاتمة

لا شك أن إيجاد آلية قضائية عالمية دائمة ومستقلة لمحاكمة مرتكبي جرائم الحرب ومحاربة إفلاتهم من العقاب قد شكل دافعًا قويًا من أجل إنشاء المحكمة الجنائية الدولية باعتبارها أداة مستقلة لتنفيذ العدالة الجنائية الدولية، إلا أن الدول الكبرى وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية، كان لها دور فاعل في تهميش دورها وتغييب أثرها في تحقيق الهدف الذي أُنشئت لأجله.

فعملت على استغلال صلاحيات مجلس الأمن في إحالة القضايا إلى المحكمة الجنائبة الدولية إلى أداة سياسية في يد القوى الكبرى لاستغلالها ضد الأنظمة التي تخالف توجهاتها ومواقفها فباتت سلطة مجلس الأمن في الإحالة إلى المحكمة تمتاز بالازدواجية، وخير دليل على ذلك الجرائم التي ترتكبها إسرائيل في حق الشعب الفلسطيني.

لذا لجأت دول العالم إلى إجراءات أخرى من أجل الضغط على مجلس الأمن لتحقيق العدالة الدولية كما هو الحال في اللجوء إلى محكمة العدل الدولية للتنازع كدولة أمام دولة أخرى بحثًا عن إجراءات ناجزة لوقف الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب، وهو ما قامت به لأول مرة جامبيا في قضيتها ضد ميانمار، وهو ما قامت به دولة جنوب أفريقيا ضد إسرائيل في 29 ديسمبر الماضي.


[1] عطا المنان بخيت، أفريقيا بين دعم إسرائيل ودعم طوفان الأقصى، موقع الجزيرة بتاريخ 2/11/2023 على الرابط :

https://2u.pw/pYLoZJV

[2] رضا عمر، لماذا تدعم جنوب أفريقيا القضية الفلسطينية؟ 7 يوليو 2021  على الرابط

[3] محمد حسب الرسول، جنوب أفريقيا … عقود من الثبات في مناصرة فلسطين ، 20 نوفمبر 2023  على الرابط :

https://2u.pw/kfzHn9x

[4] جمال محمد مصطفى بداد، الجماعات اليهودية في جنوب أفريقيا تاريخها وموقفها من القضية الفلسطينية في ، مجلة الجامعة العربية الأمريكية للبحوث ( جنين، الجامعة العربية الأمريكية، العدد 1، المجلد الأول، فبراير 204 ) ص ص 59-61

[5] أماني الطويل، لماذا تساند جنوب أفريقيا الحق الفلسطيني في غزة؟ الأحد 22 أكتوبر 2023 على الرابط :

https://2u.pw/bAcQK7u

[6] جنوب أفريقيا تدعو لوقف إطلاق النار بين إسرائيل وفلسطين ،  7 أكتوبر 2023

https://arabic.rt.com/middle_east/1501541

[7] تطور الموقف الجنوب أفريقي من الحرب على غزة

[8] جنوب أفريقيا تقاضى إسرائيل في محكمة العدل الدولية بتهمة “الإبادة الجماعية” في غزة ، 29 ديسمبر 2023 على الرابط “

https://news.un.org/ar/story/2023/12/1127327

[9] محاكمة إسرائيل” في حربها على غزة تتصدر جلسات محكمة العدل الدولية، 7 يناير 2023 على الرابط “
https://2u.pw/EcrhOpw 

[10] الأمم المتحدة، النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية، مادة 41 ، للطلاع على النظام الأساسي انظر الرابط :

https://www.un.org/ar/about-us/un-charter/statute-of-the-international-court-of-justice

[11]جلستا استماع علنيتان في محكمة العدل الدولية حول دعوى جنوب أفريقيا ضد إسرائيل بخصوص غزة

https://news.un.org/ar/story/2024/01/1127407

[12] https://www.hrw.org/ar/news/2019/12/09/336347

[13] نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية على الرابط:

https://www.ohchr.org/ar/instruments-mechanisms/instruments/rome-statute-international-criminal-court

[14] بلقاسم محمد، الإحالة أمام المحكمة الجنائية الدولية كآلية لعدم الإفلات من العقاب، في مجلة البحوث والدراسات القانونية ( الجزائر، جامعة البلدية 2، العدد الثامن ، 2011) ص ص198 ، 199

[15] أسيا بن بوعزيز ، دور العدالة الجنائية الدولية في تفعيل مبدأ عدم الإفلات من العقاب، في مجلة الباحث للدراسات الأكاديمية (الجزائر، جامعة الحاج لخضر، باتنه1، العدد 1، مجلد 1،  ، 2014) ص 107

[16] نجيمة علاق، إعاقة دور المحكمة الجنائية الدولية في مكافحة الإفلات من العقاب، في مجلة المعيار،             ( الجزائر ، جامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإنسانية، المجلد 26 ، العدد 7 ، 2022) ص ص 291-292

[17] نفس المرجع،  ص 293