بقلم – د. نرمين توفيق باحثة في الشئون الأفريقية

استطاعت تركيا أن تجد لنفسها مكانا في القارة الأفريقية رغم حداثة تواجدها بها، غير أن هذا التواجد يسير بخطى منظمة وسريعة، ويعكس أنها وعت من خلاله أهمية أفريقيا والدور الذي يمكن أن تلعبه دولها في دعم السياسة الخارجية التركية وما تسعى له من فرض نفوذها في عدد من الدول.

بدايات التوجه التركي نحو أفريقيا

ظلت غائبة في السياسة الخارجية لدولة تركيا على مدار سنوات طويلة، وفي نهاية ثمانينيات من القرن العشرين وضع مجموعة من الدبلوماسيين الذين خدموا في أفريقيا استراتيجية “الانفتاح على أفريقيا”، ولم يتم التحرك على أرض الواقع بشكل فاعل حتى عام 2005، فلم تكن هناك سفارة تركية واحدة تعمل في بلدان جنوب الصحراء الكبرى، سوى في جمهورية جنوب أفريقيا في عام 1997 ، وحينما بدأ الاتراك يشعرون بأهمية القارة الأفريقية وضعوا استراتيجية مدروسة للتحرك في القارة، حيث أعلنت تركيا أن عام 2005 هو “عام أفريقيا”، وقد أجرى أردوغان 30 رحلة إلى 23 بلدا أفريقيا منذ زيارته الأولى إلى إثيوبيا وجمهورية جنوب أفريقيا عندما كان رئيسا للوزراء في نفس العام، وكانت زيارته الأخيرة في يناير 2017 إلى تنزانيا وموزمبيق ومدغشقر، وسار الرئيس التركي السابق، عبد الله غُل، على هذا النهج، فبعد زيارته كينيا وتنزانيا في عام 2009، أصبح أول زعيم تركي يزور أفريقيا. [1]

وفي عام 2008، أعلن الاتحاد الأفريقي منح تركيا صفة الشريك الاستراتيجي للاتحاد، وأن تتعهد بتحويل مبلغ مليون دولار سنويا لنشاطها. وحصلت على صفة مراقب في جميع المنظمات دون الإقليمية الأفريقية (الجماعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا، والجماعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا، والجماعة الإنمائية للجنوب الأفريقي، والسوق المشتركة لدول شرق وجنوب أفريقيا “الكوميسا”، وغيرها) وأصبحت عضوا في بنك التنمية الأفريقي من خارج أفريقيا  في عام 2008، وصار لتركيا سبع سفارات في عام 2009، ثم وزاد عدد السفارات في عام 2015 إلى 34 سفارة، إلى جانب قنصلية عامة في جمهورية أرض الصومال غير المعترف بها. ووفقا للرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، فإن الهدف النهائي لتركيا هو أن يكون لها سفارات في جميع العواصم الأفريقية.

العلاقات الاقتصادية هي الأساس

أبدت الحكومة التركية ورجال الأعمال اهتماما باحتياطيات السوق الأفريقية التي لم يلتفت إليها من قبل. في بادئ الأمر انصب الاهتمام نحو بلدان شمال أفريقيا الأقرب إلى تركيا جغرافيا وثقافيا وتاريخيا ودينيا. وقد نمت الصادرات التركية إلى هذه المنطقة من 3 مليارات دولار في عام 2004 إلى 13 مليار دولار في عام 2015. وفي وقت لاحق توجه الاهتمام إلى دول جنوب الصحراء الكبرى، ففي عام 2015 بلغ حجم الصادرات التركية 4 مليار دولار مقابل 750 مليون دولار في عام 2004. وأكبر عملاء تركيا هم جنوب أفريقيا وجمهورية أفريقيا الوسطى، ونيجيريا، وإثيوبيا، وغانا، وكوت ديفوار.

في نوفمبر 2016 استضافت أنقرة أول منتدى أعمال أفريقي- تركي حضره 3000 مشارك، من بينهم 2000 يمثلون المجتمع الاقتصادي لـ45 دولة أفريقية. ووقعت عشرات العقود مع جمهورية جنوب افريقيا ونيجيريا وكينيا وغانا وزامبيا وتنزانيا ودول أخرى، وكان لهذا الحدث دلالات حيث عقد بعد فترة وجيزة من محاولة الانقلاب في تركيا، مما يشير إلى أن أفريقيا تقف على قمة أولويات تركيا من ناحية الاقتصاد والسياسة الخارجية، والملاحظ أن محور خطاب أردوغان في المنتدى كان سياسيا، وليس اقتصاديا.. وتكررت في الخطاب عبارة المصالح المتطابقة لأفريقيا وتركيا في مجال حماية الهوية الوطنية التي تتعرض للتهديد من العولمة الغربية، والقيم الثقافية المفروضة، وهذا يعد مؤشرا على التوجه التركي في الاستفادة من الدول الأفريقية لدعم السياسة التركية.[2]

الصومال نموذجا

يمكن عرض نموذج واقعي استطاعت تركيا أن تحقق من خلاله نجاحا ملحوظا يعد مؤشرا على سياستها الخارجية تجاه القارة الأفريقية وهو الصومال التي يعتبرها البعض بوابة تركيا الاستراتيجية إلى عمق القارة، وأنها ستكون بمثابة الذراع العسكري لها أيضا في إفريقيا بالقريب العاجل.

وتعود أهمية الصومال بالنسبة لتركيا لما تحظى به من موقع استراتيجي على البحر الأحمر ومضيق باب المندب، كما أنها تشرف على خليج عدن، والمدخل الجنوبي للبحر الأحمر الذي يعد واحدًا من أهم طرق التجارة العالمية، كما تؤكد التقارير وجود مخزون واعد من النفط والغاز الطبيعي في الصومال. وكذلك تجاور الصومال دولة إثيوبيا الحبيسة ذات الأهمية الكبيرة خاصة فيما يتعلق بالمياه ومنابع نهر النيل ولهذا اهتمت تركيا كثيرا بالصومال، حيث كان أردوغان أول رئيس وزراء تركي يزور الصومال خلال عقدين وكان ذلك في 2011 وعاد ليزورها في يناير 2015.[3]

ويقول الباحث بريندون كانون في مقال له عن تقييم التجربة التركية في الصومال والدروس المستفادة منها، إن عمل تركيا مع الصومال, التي يراها الكثيرون نموذجًا للدولة الفاشلة, جدير بالملاحظة على نحو خاص بسبب النجاحات التي حققها، وأن أنقرة اتبعت نهج عالي التنسيق باستخدام أدوات القوة الخشنة والناعمة تحت تصرفها ويمكن تكراره في أماكن أخرى في القارة. يساعدها على ذلك أن الآراء الأفريقية عن تركيا, إما ناشئة أو إيجابية, وخاصة بالنظر إلى مثال دور تركيا في الصومال، على عكس المدركات المتعلقة بكل من الصين والولايات المتحدة في أفريقيا. بالإضافة إلى هذا, يتطلع الكثير من القادة الأفارقة حاليًا لبدائل من الشركاء السياسيين والاقتصاديين. إذا تبنت تركيا نفس النهج الأحادي عالي التنسيق بالمخاطرة مثلما فعلت في الصومال وبصورة أقل في مناطق متنوعة مثل كينيا ونيجيريا وإثيوبيا, ربما تصبح تركيا ليس مجرد قوة صاعدة في أفريقيا وإنما قوة أساسية.

إن تداعيات هذا – لكل من تركيا وأفريقيا – بعيدة المدى قد تغير موقف تركيا من كونه إنساني واقتصادي إلى شريك دبلوماسي قوي للدول الأفريقية. هذا السيناريو سيشهد تعاونًا مع تركيا في التنمية المالية, والأمنية والدبلوماسية داخل وخارج دولهم وأفريقيا, وبذلك تتجاوز الشركاء الآخرين الذين يأتي عملهم في أكثر الأحيان بأعباء مالية أو سياسية سلبية. [4]

وهناك عدة أسباب ساعدت تركيا على النجاح في الصومال منها:

  1. التوقيت: أصبحت تركيا مشاركة في الصومال في أواخر 2011 عندما انحسر تهديد الإرهاب تحديدًا في مقديشيو، إضافة لهذا أعادت المجاعة الصومال إلى العناوين الرئيسية الدولية, وجرى انتخاب حكومة فيدرالية جديدة – وهي الأولى منذ عقدين – قبل دخول تركيا مباشرة. لا يمكن تجاهل أهمية التوقيت عند تقييم وضع قوة تركيا الصاعدة ودورها الإيجابي في الصومال.
  2. القدرة على المخاطرة: افترضت بعض الدراسات حول دور تركيا أن الصومال كانت جاهزة للاستفادة منها، لكن العكس كان صحيحًا. كانت الصومال مغمورة بالجهات الفاعلة الدولية والإقليمية, مما جعل نجاح تركيا مذهلًا أكثر، إنه دليل على الطبيعة المفككة, والتنافسية وغير الفعالة للعمل الذي قام به المئات من أصحاب المصالح في الصومال على مدار الربع قرن الماضي لدرجة أن تركيا وجدت أرضًا خصبة لمشروعات التنمية, والمصالح التجارية, والمبادرات التعليمية, والاتفاقات العسكرية، واحتاج هذا لرغبة كبيرة في المخاطرة مع إدراك أن المشروعات الخطرة تقدم عائدات كبيرة إذا تمت إدارتها بطريقة صحيحة.
  3. القوة الناعمة: إن براجماتية تركيا في الصومال تقودها إلى السعي وراء أهداف المصلحة الذاتية مثل المكانة التي تليق بقوة صاعدة في نفس الوقت مع تعزيز مصالحها التجارية. وقادت تركيا أيضًا إلى نشر مجموعة كبيرة من أساليب القوة الناعمة, من الفرص التعليمية إلى الإخاء الدبلوماسي إلى الإجراءات الإنسانية.
  4. غياب العراقيل: طرح ماضي تركيا العثماني وهويتها الإسلامية كمتغيرات رئيسية تحرك عمل تركيا مع الصومال وشرق أفريقيا، ويعزز ذلك غياب الماضي الاستعماري والإمبريالي أو لعب دور في مكائد الحرب الباردة داخل القارة. بالإضافة إلى هذا, على الصعيد الاقتصادي, تتجنب تركيا شيئًا يستاء منه الكثير من الأفارقة وهو العراقيل الرأسمالية للسوق الحرة التي تهدف لتأمين أفضل اتفاقية بغض النظر عن التكلفة، لقد مهد هذا الطريق لتركيا لكي تقتنص عقودًا مربحة مُنحت مبدئيًا للصينيين في تنزانيا, وإثيوبيا ورواندا, وكانت أيضًا بمثابة ميزة في الصومال فيما يخص عقود البنية التحتية مثل ميناء مقديشيو والمطار.
  5. العمل الأحادي الجانب: أحد الموضوعات المتكررة التي تناقلتها المؤسسات الفكرية والباحثون فيما يتعلق بتواجد تركيا في الصومال هو الحاجة لتنسيق جهودها مع الجهات الفاعلة الدولية والإقليمية الأخرى. بحسب هذا المنطق, التنسيق والتعاون هما السبيلان الوحيدان لضمان نجاح تركيا الشامل والمتواصل في الصومال, فبسبب المصالح المتضاربة للمجتمع الدولي في الصومال أُهدرت على سياسات تعارض بعضها البعض. إن تعدد الجهات الفاعلة التي تفتقر للرؤية المترابطة أو التنسيق الظاهري تسبب في ضرر للصومال أكثر من أي شيء آخر، ومن الذكاء سياسيًا واقتصاديًا أن تعمل تركيا بطريقة أحادية وعالية التنسيق وتخصص لنفسها دائرة نفوذ في الصومال وغيرها من الدول الأفريقية عن طريق استغلال الأوضاع الراهنة, وقد ساعدت تركيا نفسها وكذلك الصومال في بعض القضايا عن طريق عدم ربط إجراءاتها وسياساتها في الصومال, مثلا, بأهداف بعثة الإتحاد الأفريقي في الصومال والأمم المتحدة, أو الأهداف الأمنية الأمريكية, أو أهداف الإتحاد الأوروبي أو أهداف مجلس التعاون الخليجي, استطاعت تركيا ليس فقط تحقيق نجاحات كبيرة على الصعيدين الدبلوماسي والدولي وإنما فعلت ذلك لإنها عملت ببراعة, بتنسيق كبير من أنقرة, وبدون القيود التي تأتي مع التحالفات عديمة الفائدة والوعود الكاذبة.[5]

القاعدة التركية العسكرية في الصومال

شهدت العلاقات الصومالية التركية تطور جديد مع القاعدة العسكرية التي افتتحتها تركيا في الصومال على خليج عدن وتشتمل القاعدة على ثلاث مدارس عسكرية، ومخازن للأسلحة والذخيرة، وذلك على مساحة تبلغ 400 دونم بتكلفة 50 مليون دولار، وأكدت القوات المسلحة التركية، أن هذه القاعدة هي أكبر قاعدة عسكرية لها خارج حدودها.

وبالطبع فإن وجود قاعدة تركية في هذه المنطقة الاستراتيجية الهامة القريبة من البحر الأحمر وعلى ممرات التجارة العالمية يمثل تهديدا للأمن القومي المصري والعربي، فهي تساعد تركيا على التواجد في هذه المنطقة الاستراتيجية عسكريا بذريعة مكافحة الإرهاب.

ويمكن القول أن نجاح أو فشل هذه القاعدة يتوقف بقدر كبير على تقبل الداخل الصومالي لها، فالمعروف أن الصوماليين يرفضون أي تواجد عسكري أجنبي على أرضهم، وقد تتعرض هذه القوات إلى هجمات إرهابية من حركة شباب المجاهدين الصومالية، غير أن الصورة التي ترسمها تركيا حول تواجدها في الصومال في أنها لا تسعى لأي مطامع ولا تهدف إلا لمساعدة الصوماليين قد تساعدها على تقبل جنودها.

ختاما: ترى تركيا أن قوة علاقاتها مع الصومال وغيرها من الدول الأفريقية عاملا لحصولها على مزيد من التأييد لسياستها على الصعيدين الدولي والإقليمي لدعم مشروعها الخاص وفرصة جيدة لتحقيق المكاسب الاقتصادية، وعلى جامعة الدول العربية أن يكون لها دور فاعل في دعم الصومال التي تُعد أحد الأعضاء بها ضد تدخل الأطراف الأخرى التي تضر بأمن المنطقة.

المراجع


[1] أليكسي بوجولافيسكي، تركيا تنتشر في أفريقيا اقتصاديا وسياسيا، ترجمة وكالة ترك برس، تاريخ النشر 29 مايو 2017

http://www.turkpress.co/node/34981

[2] المرجع السابق.

[3] الصومال .. بوابة تركيا الاستراتيجية في أفريقيا، تاريخ النشر 27 إبريل 2017

http://www.thenewkhalij.org/node/66202

[4] Brendon J. Cannon, Turkey in Africa: Lessons from Somalia, published on Feb., 2017

[5]  Idem.