كتبت – د/ إيمان عبدالعظيم سيد أحمد
مدرس العلوم السياسية بكلية الدراسات الأفريقية العليا – جامعة القاهرة
أقرت الولايات المتحدة الأمريكية بفشل الفترة الانتقالية في تشاد، ولهذا قام الاتحاد الأفريقي بدور الوساطة لإقناع الحركات السياسية والعسكرية التي لم توقع على اتفاقية الدوحة من أجل المشاركة في الحوار الوطني الشامل، ووسط جهود إقليمية ودولية افتتح رئيس المجلس العسكري أعمال الحوار الوطني في إنجمينا رغم رفض العديد من الأحزاب والجماعات المسلحة المشاركة، وبهذا بدأت تشاد مرحلة ما بعد الفترة الانتقالية، وما يتبع ذلك من تساؤلات عديدة عن هذه المرحلة (تطوراتها، مساراتها).
أولًا: تطورات المشهد التشادي بعد الفترة الانتقالية
رغم نظر قوى المعارضة التشادية إلى الحوار الوطني -الذي عقد بين 20 أغسطس و8 أكتوبر 2022- إلى أنه فرصة لوضع حدٍّ لسنوات من الإقصاء عن الحياة السياسية ومحاولة لإعادة توازن القوى داخل المؤسسات، وتقييد الدور السياسي للجيش وتعزيز السيطرة على العمل الحكومي، إلا أنهم وضعوا مسألة إصلاح الدستور وتنظيم الانتخابات المستقبلية على رأس أولوياتهم، فعَيَّن محمد ديبي شخصيات مؤثرة لتنظيم الحوار الوطني، منها وزير المصالحة الوطنية الشيخ ابن عمر، ووزير الخارجية الأسبق علي عبدالرحمن حجاز وهو مثقف مشهور من جماعة الزغاوة الذي يعمل كمستشار للمجلس العسكري للمصالحة والحوار. في أغسطس عين المجلس العسكري لجنة تنظيم حوار مؤلفة من 70 ممثلًا وتضم أعضاءً من الحزب الحاكم وقادة معارضة سابقين ومبعوثين من المجتمع المدني، كما عين لجنة أخرى -رأسها كوني وادب زعيم متمردين سابق- أخرى مؤلفة من 28 عضوًا لضمان إجراء مفاوضات موازية مع الجماعات المتمردة التي تمثل تحديًا يرتبط بمسألة نزع السلاح كشرط مسبق للحوار.
ولكن فشل الحوار الوطني في الوصول إلى اتفاق سلام شامل خاصة في ظل وجود مجموعتين مسلحتين تمثلان إشكالية بشكل خاص وهما FACT , UFR. فرغم الإجماع المجتمعي في البلاد على عدم تمديد الفترة الانتقالية، إلا أنه تم تمديد المجلس العسكري الانتقالي لمدة عامين، والحفاظ على زعيمه محمد ديبي كرئيس للدولة، وسمح له بالترشح للرئاسة في الانتخابات المقبلة، ورغم تشكيل حكومة الوحدة الوطنية في 14 أكتوبر، وتولي معارض تشادي عتيد الحكومة الانتقالية الجديدة كنتيجة لحوار وطني ممتد، إلا أن ردود الفعل على تشكيل هذه الحكومة كانت رافضة لها إلى حد اندلاع مظاهرات في 20 أكتوبر أسفرت عن وفيات وإصابات واعتقالات وإعلان حالة الطوارئ.
ثانيًا: تفسير المشهد التشادي بعد الفترة الانتقالية: يوجد العديد من العوامل المفسرة لتطورات الأوضاع في تشاد بعد الفترة الانتقالية، من بينها:
التفاعلات الداخلية: رغم الجهود التي بذلتها فرنسا والاتحاد الأفريقي، إلا أن الحوار الوطني التشادي في الدوحة وإنجمينا لم ينجح في تمرير الفترة الانتقالية بسلام. وسعى الحوار في الدوحة لتهيئة البيئة السياسية لضمان نجاح الحوار الشامل في إنجمينا. وتضمّن مؤتمر إنجمينا للحوار الوطني 20 بندًا، أبرزها الإصلاح الجذري للجيش، ومراجعة ميثاق الفترة الانتقالية، مع عدم جواز ترشح أعضاء الأجهزة الانتقالية في أول انتخابات، حيث يتم تتويج هذه الإجراءات بتشكيل حكومة مصالحة وطنية بعد اختتام مؤتمر إنجمينا، ولكن أسفر حوار إنجمينا عن ترشح محمد ديبي للانتخابات بعد الفترة الانتقالية ما أغضب المعارضة التشادية التي قدمت العديد من التنازلات السياسية، منها عدم مساءلة ديبي الابن عن الانقلاب العسكري الذي قام به بعد مقتل والده أو فتح ملفات فترة حكم والده، وذلك مع تكريمه بشكل لائق يضمن له مكانة اجتماعية مرموقة. وفي هذا السياق لا يبدو أن مطالب المعارضة بـ”تغيير” الجيش التشادي وضمان تأسيس جيش وطني، كانت مقبولة نظرًا لأنها تسعى لأن يكون الجيش تعبيرًا عن الوزن النسبي لكل المكونات الإثنية والاجتماعية التشادية من دون سيادة لجماعة الزغاوة المسيطرة حاليًّا.
التفاعلات الدولية: تملك تشاد أهمية خاصة للاستراتيجية الفرنسية في الساحل الأفريقي؛ حيث تعد إنجمينا مقرًّا للقيادة المركزية لعمليات فرنسا في الساحل لمكافحة الإرهاب، ما يفسر الدعم الواسع الذي يحظى به النظام القائم في إنجمينا، حيث تدخلت باريس مرات عدة لإنقاذ نظام إدريس ديبي من السقوط، الأمر الذي يستمر حاليًّا مع ديبي الابن، ولذلك اتجهت باريس إلى دعم نقل السلطة للابن بشكل غير دستوري. في هذا السياق ربما يكون من اللافت للانتباه المظاهرات التي شهدتها العاصمة إنجمينا وعدة مدن أخرى في 14 مايو 2022، التي تم فيها اتهام باريس بدعم المجلس العسكري الانتقالي الحاكم، برئاسة محمد ديبي، وهي الاحتجاجات التي نظمتها تنسيقية منصة المجتمع المدني “واكيت تاما”، فضلًا عن مشاركة عدد من النقابات والجمعيات والأحزاب المعارضة وكذا طلاب المدارس والجامعات، وكان من اللافت أن المتظاهرين رفعوا العلم الروسي، وحرقوا العلم الفرنسي، وهو المشهد الذي تكرر في احتجاجات أكتوبر رغم الإعلان عن تشكيل الحكومة الانتقالية.
ثالثًا: مسارات المشهد التشادي بعد الفترة الانتقالية: قد تتجه الأوضاع في تشاد إلى مسارين:
مسار أزمة تشادية ممتدة: يعد فشل الحوار الوطني مقدمة لأزمة تشادية ممتدة وعدم استقرار سياسي. القمع العنيف لمظاهرة 20 أكتوبر للمطالبة بنتيجة الانتقال غيّر الوضع تمامًا نحو تأجيج التوترات، والتي قد تنذر بمزيد من الاحتجاجات ضد الحكومة. وهناك مخاوف من تصاعد التوترات الإثنية، خاصة في ظل نشر التشاديين خطابًا مثيرًا للانقسام على الشبكات الاجتماعية، يوجد بعض الجماعات المتمردة التشادية المختلفة في ليبيا وبعض قادتها هم جزء من عائلة ديبي، التي تشكل تهديدًا أخطر لحكم ديبي من خصومه المدنيين. ولا تملك تشاد فرصة كبيرة لتحقيق الاستقرار في الفترة المقبلة، حيث:
– لا تزال مهددة على حدودها. في 30 مايو 2022 هاجمت قوات من جمهورية أفريقيا الوسطى برفقة مرتزقة روس موقعًا للجيش التشادي في أثناء مطاردتهم للمتمردين في أفريقيا الوسطى الذين عبروا الحدود، ما أثار التوتر مجددًا بين البلدين. وفي منطقة بحيرة تشاد قتل متمردو بوكو حرام في 4 أغسطس 2022 حوالي 26 جنديًّا تشاديًّا، وأصدر محمد ديبي أمرًا بسحب نصف القوات التشادية التابعة لقوات الساحل البالغ عددها 1200 رجل من منطقة حدود مالي والنيجر وبوركينا فاسو في إطار انسحاب تكتيكي. ولا يزال المتمردون الموجودون في ليبيا نشطين ويمكنهم إعادة دخول البلاد وشن هجوم جديد بالإضافة إلى أن السودان المجاور يمر بمرحلة انتقالية. ما يعني أن استمرار الحركات المسلحة في مناوأة ديبي الابن سيناريو قائم، حيث تتوافر لها إمكانية التمويل والتسليح عبر علاقات وميادين مفتوحة في كل من السودان وليبيا وأفريقيا الوسطى، فضلًا عما قد يُشكّله أي دعم روسي من إمكانية في تحقيق هذه الحركات لهدفها الرئيسي وهو إزاحة ديبي الابن.
– تواجه مرحلة ما بعد الفترة الانتقالية العديد من التحديات المتنوعة، ما بين تحديات أمنية وتحديات سياسية وقانونية. ولكن أصبح سوء الحكم وعدم المساواة الاجتماعية أمرًا لا يُطاق بالنسبة للعديد من التشاديين. ويعد سوء الإدارة والتفاوتات الاجتماعية إرثًا منذ 30 عامًا من نظام ديبي، فضلًا عن الفساد الذي تورطت فيه النخبة الحاكمة ونقص فرص الشباب، وانقطاع التيار الكهربائي المتكرر والفيضانات بالعاصمة. وبلغت هذه التوترات السياسية والاجتماعية ذروتها في 20 أكتوبر. وفي 19 أكتوبر دعت منظمات المجتمع المدني إلى تعبئة دائمة ضد الحكومة الانتقالية. ورغم تنديد الحكومة بمحاولة التمرد المسلح وحظر المظاهرات، إلا أنه في اليوم التالي نزل آلاف التشاديين إلى الشوارع، ولا يزال الوضع متوترًا للغاية في جميع أنحاء البلاد. ولهذا يشكل عامل الفقر محركًا رئيسيًّا للاحتجاجات، ووقودًا لا ينضب للحركات المسلحة، حيث تتمتع تشاد بثروات نفطية كبيرة، غير أن الأوضاع المعيشية تعاني تدهورًا حادًّا، ما يعزز معتقدات الشباب التشادي بأن فقر الشعب هو بسبب استغلال فرنسا لثرواتهم.
– يلعب انقسام النخبة الحاكمة بين كل من باريس وموسكو دورًا في عدم الاستقرار التشادي؛ حيث تواجه فرنسا موقفًا صعبًا في تشاد، ذلك أن تيمان إرديمي، ابن عم رئيس المجلس العسكري الحاكم، محمد إدريس، طلب دعمًا مباشرًا من قِبَل عناصر شركة فاجنر الروسية في فبراير 2022، وذلك للتخلص من نظام ديبي الابن حليف فرنسا.
مسار انفراجة في المشهد التشادي: رغم الوضع الأمني السيئ لا يزال الجيش التشادي من أقوى جيوش المنطقة؛ ما يدعم الاستقرار السياسي وبقاء النظام. ولعل الشراكة الاستراتيجية التي يمثلها الجيش التشادي لكل من فرنسا والدول الغربية في جهود محاربة الإرهاب في منطقة الساحل تؤكد هذا الاتجاه. ويمثل ذلك لحظة محورية لمحمد ديبي، لمنع المزيد من العنف وإدانة الاستخدام المفرط للقوة وتعيين لجنة تحقيق مستقلة لتسليط الضوء على أحداث 20 أكتوبر. فبدلًا من قمع المجتمع المدني والمعارضة، ينبغي عليه تخفيف حدة التوترات من خلال إعادة النظر في الانتخابات المحلية والالتزام بنقل السلطة إلى المدنيين في مرحلة ما بعد الفترة الانتقالية. يجب على الاتحاد الأفريقي والأوروبي وفرنسا والولايات المتحدة جعل دعمهم مشروطًا بمواصلة الانتقال وتنفيذ الإجراءات التي تضمن الشمول والتمثيل. ولا يزال هناك متسع من الوقت أمام محمد ديبي لتصحيح هذا الانجراف المقلق وإعادة تشاد إلى مسار انتقال حقيقي نحو حكم أكثر ديمقراطية.
وإجمالًا، فإن مرحلة ما بعد الفترة الانتقالية بحاجة إلى تجنب المزيد من التدهور الأمني مستقبلًا بالإضافة إلى المتطلبات القانونية لدعم الحكم الدستوري في تشاد، ويرتبط عدم الاستقرار السياسي التشادي بذات الحالة في دول جوارها المباشر، وهى ليبيا والسودان. ويشكل جوارها من الغرب تحديًا رئيسيًّا، مع اتساع حجم وتأثير التنظيمات الجهادية المسلحة الممارسة للإرهاب في هذه المنطقة، ما يفرض ضغوطًا كبيرة على حالة الاستقرار الإقليمي.