كتب – محمد الدابولي

الباحث المتخصص في السياسات الأفريقية

في زيارة هي الأولي من نوعها منذ تفجر القتال بين قوات جبهة تحرير التيجراي والميليشيات المتحالفة معها وبين الجيش الإثيوبي والميليشيات الأمهرية المتحالفة معه في أكتوبر/ نوفمبر 2021، حطت طائرة رئيس الوزراء الإثيوبي أبي أحمد رحالها في مدينة أبوظبي في زيارة رسمية له إلى دولة الإمارات العربية المتحدة.

تأتي زيارة «أبي أحمد» إلى الإمارات في ظل سياقات محلية وإقليمية ملبدة بالغيوم فداخليا لا تزال الحرب الأهلية تدور رحاها، وإن كانت بشكل أقل عما كانت عليه في نوفمبر الماضي، وإقليميا تتشابك إثيوبيا مع مصالح كل من مصر والسودان، فلا تزال أزمة الوصول إلى اتفاق ملزم يُرشد عملية ملء خزان سد النهضة نقطة الخلاف بين جميع الأطراف، كما أن الأزمة الحدودية بين السودان وإثيوبيا حول إقليم الفشقة مستمرة إلى اليوم، وفي الفترة الأخيرة تجددت العديد من المناوشات بين الجيش السوداني والميليشيات الإثيوبية التي تبغي السيطرة على الإقليم السوداني.

لذا يسود ترقب حذر في العديد من الأوساط السياسية حول نتائج تلك الزيارة، خاصة أنها أتت بعد يومين فقط من زيارة الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي إلى الإمارات في إشارة إلى إمكانية تدخل أبوظبي كوسيط دولي لحلحلة أزمة سد النهضة، وأيضا قبل يوم من زيارة الرئيس الإسرائيلي “إسحق هرتسوغ” إلى أبوظبي، والذي تلعب حكومته أدوارا مريبة في منطقة القرن الأفريقي منذ أمد بعيد، إذ يشار إلى السياسيات الإسرائيلية في إثيوبيا والقرن الأفريقي على أنها من مهددات المصالح القومية المصرية والعربية.

زيارة أبي أحمد للإمارات يغلب عليها ظاهريا الطابع التعاوني في مجالات التبادل الاقتصادي والتجاري، كما جاء في البيانات السياسية الصادرة من الطرفين، إلا أنه في الحقيقة تتشابك تلك الزيارة مع العديد من السياقات الداخلية والإقليمية والدولية سيتم تفصيلها لاحقًا، وتحمل أيضا ملامح السياسة الإقليمية خلال الفترة المقبلة وتحديدًا الشهور الخمسة القادمة.

سياقات مختلفة

أتت الزيارة في ظل انسداد أفق المفاوضات السياسية بين كل من إثيوبيا من جانب، ومصر والسودان من جانب آخر، فيما يتعلق بأزمة الوصول إلى اتفاق ملزم خاص بسد النهضة، فعلى مدار السنون الماضية لجأ الجانب الإثيوبي إلى تسويف المفاوضات وإخراجها من مضمونها بتعنته الشديد والمضي قدما في إجراءات بناء السد وتحقيق الملء الأول والثاني لبحيرة سد النهضة دون النظر لمسألة الأضرار التي قد تقع على دولتي المصب مصر والسودان.

وحاليًا اتخذت أديس أبابا العديد من الإجراءات التي من شأنها تحقيق الملء الثالث لسد النهضة، ففي 13 يناير الماضي قررت وزارة الري الإثيوبية بالتعاون مع ولاية بني شنقول قرارات بإزالة 17 ألف هكتار من الغابات خلال شهر فبراير المقبل لأجل إتمام عملية الملء الثالث، وبداية توليد الكهرباء من السد، وجديرا بالذكر أن المضي قدما في تعلية السد وإتمام عملية ملء السد من شأنها تعريض السد للعديد من الأخطارـ خاصة وأن الدراسات الفنية حول سلامة السد لم تكتمل بعد.

وتأتي عملية الملء الثالث (دون التوصل إلى اتفاق مع جميع الأطراف) لتضع دولتي المصب مصر والسودان أمام خيارات محدودة، فكلا الدولتين معرضتان لنفاد صبرهما أمام هذا التعنت الإثيوبي وتبقى جميع الخيارات متاحة أمامهما؛ إذ عززت كل من القاهرة والخرطوم خلال الفترة الماضية سبل التعاون المشترك بينهما في العديد من المجالات الأمنية والعسكرية؛ مثل إبرام العديد من المناورات المشتركة، مثل مناورات حماة النيل في السودان، واشتراك السودان في مناورات درع العرب.

كما أتت الزيارة في ظل توتر الأوضاع الحدودية بين إثيوبيا والسودان واستمرار الاعتداءات الأمهرية على إقليم الفشقة السوداني، فخلال السنة الماضية تجددت المناوشات بين الجيش السوداني وميليشيا الشفتا الإثيوبية التي تمارس اعتداءات متكررة بحق المزارعين السودانيين وتسعى إلى تمكين قومية الأمهرا من الأراضي السودانية.

كما تأتي الزيارة في ظل الحرب الأهلية الدائرة في البلاد بين قوات جبهة تحرير التيجراي ومناصريها وبين قوات الجيش الإثيوبي المدعومة من ميليشيات الأمهرا، إذ تسعى جماعة الأمهرا إلى استعادة إرثها التاريخي في حكم البلاد وإزاحة جماعة التيجراي من جميع مفاصل الدولة بعدما كانت مسيطرة عليها إبان حكمي الراحل ميليس زيناوي والسابق ديسالين، وجدير بالذكر أن الحرب التيجرانية عملت على تعرية النظام الإثيوبي بقيادة أبي أحمد أمام المجتمع الدولي؛ إذ أصبح النظام في حالة عزلة دولية، كما بات أبي أحمد شخصية سياسية دولية غير مرغوب فيها، فبعد أن توسم المجتمع الدولي به خيرا في صيف 2018، حينما وضع حدا للحرب مع إريتريا وإقرار السلام بين الدولتين ما أهله وقتها لينال جائزة نوبل للسلام.

لكن يبدو أن التقييم الدولي لشخصية أبي أحمد كان متعجلًا للغاية؛ فهو فعلا أقر السلام مع إريتريا ليس لتحقيق غاية الأمن والسلم، ولكن من أجل إغلاق جبهة قتالية وفتح جبهة أخرى داخلية ضد خصومه من جماعتي التيجراي والأورومو، الأمر الذي وضع العديد من المؤسسات الدولية والقوى الدولية في حرج شديد، خاصة بعد تلقيه جائزة نوبل للسلام.

ونقطة أخيرة ينبغي الإشارة إليها، وهي أن الزيارة أتت في ظل متغير إقليمي جديد متمثل في  هجمات الحوثي الأخيرة على مطار أبوظبي الدولي في 17 يناير 2022، وهو ما يعني زيادة الحرص الإماراتي على أمن منطقة خليج عدن والقرن الأفريقي، ويبدو أن أبي أحمد تلقف هذا المتغير الجديد لأجل طرح إثيوبيا من جديد كحامية (شرطي المنطقة) للقرن الأفريقي وخليج عدن وتسويق نفسه أمام المجتمع الدولي والإمارات بأنه قادر على تقديم العون والمساعدة في ضبط أمن وسلامة منطقة خليج عدن.

ماذا يريد أبي أحمد؟

بعد استعراض السياقات السابقة لزيارة أبي أحمد للإمارات يمكن القول: إن أبي أحمد حدد العديد من الأهداف والغايات التي يسعى لتحقيقها من خلال تلك الزيارة، وهي كالتالي:

  • استمرار الحلقة المفرغة في مفاوضات سد النهضة: على مدار عشر سنوات تقريبا استغلت أديس أبابا مفاوضات سد النهضة في توفير الوقت اللازم لها لبناء السد وتحقيق الملء الأول والثاني له متلاعبة في ذلك الوقت بالعديد من الوساطات الدولية التي دخلت على خط الأزمة، مثل وساطة وزارة الخزانة الأمريكية في عهد الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، ولاحقا وساطة الاتحاد الأفريقي في ظل قيادة دولة جنوب السودان، لذا قد تسعى إثيوبيا إلى استغلال الإمارات كوسيط بينها وبين مصر والسودان من أجل اكتساب مزيد من الوقت ريثما يتم الملء الثالث للسد ثم تنقلب على تلك الوساطة مثلما حدث مع الوساطة الأمريكية والأفريقية في السابق، فالمفاوض الإثيوبي درج على استغلال الوساطات الدولية لأجل تسويف الأمور وإقرار وجهة النظر الإثيوبية.
  • تثبيط الهمة السودانية: منذ الإطاحة بحكم نظام الرئيس المخلوع “عمر البشير” تطلع المجتمع السوداني وكذلك القيادة السودانية إلى استعادة الحقوق السودانية المنهوبة والدفاع عن مصالح البلاد، ويأتي في مقدمتها طرد المستوطنين الإثيوبيين من أراضي الفشقة وإيقاف الاعتداءات الإثيوبية على الأراضي السودانية وخلال الفترة الماضية تقدم الجيش السوداني في أراضي الفشقة مهددا عصابات الاستغلال الإثيوبي، وهو ما أغضب الجانب الإثيوبي الذي يحاول من حين لآخر تثبيط الهمة السودانية في استعادة الحقوق المنهوبة، وقد يلجأ مستقبلا إلى استغلال التقارب الإماراتي السوداني في تحقيق وساطة إماراتية في موضوع الفشقة لضمان أقل الخسائر المتاحة له في إقليم الفشقة.
  • استعادة الشرعية المفقودة: بعد تراجع قوات جبهة تحرير التيجراي في ديسمبر الماضي وإبعادها عن العاصمة أديس أبابا وإقليم العفر وحصر القتال مرة أخرى في جبال التيجراي، يسعى “أبي أحمد” إلى استعادة شرعيته السياسية المفقودة على المستوى الداخلي والخارجي، فداخليا باتت الدولة مثقلة بالأعباء المالية على خلفية الدمار الذي سببته الحرب الأخيرة لذا يسعى جاهدا إلى جذب الاستثمارات الإماراتية التي من شأنها تعويض قدر ليس بالقليل من تلك الخسائر، وهو ما يعيد تعزيز شرعيته داخليا مرة أخرى، أما خارجيًّا فنتيجة الفظائع المرتكبة في حرب التيجراي بات النظام الإثيوبي في وضع عزلة دولية لذا سعى أبي أحمد إلى كسر تلك العزلة واستعادة المزيد من الوضع الإقليمي لبلاده.

وأخيرا.. يمكن القول: إن “أبي أحمد” يحاول الخروج من أزمته الداخلية، ويسعى من وراء هذه الزيارة إلى استعادة شيء ما من الدور الإقليمي لبلاده الذي تأثر في الفترة السابقة نتيجة حرب التيجراي، كما أنها جاءت في وقت حساس في ظل رغبة الإمارات في استعادة أمن منطقة خليج عدن خاصة بعد الهجمات الصاروخية التي أطلقتها جماعة الحوثي مؤخرا على مطار أبوظبي، وهو ما يعني دورا ملموسا لأديس أبابا في تحقيق تلك الغاية، وقد تحاول أديس أبابا جر أبوظبي لمسألة الوساطة في مسألة سد النهضة واكتساب مزيد من الوقت، لكن تلك المكاسب تظل رهينة تطور الأوضاع الداخلية في البلاد؛ فالنظام الإثيوبي لم يحسم حتى الآن الحرب الدائرة في بلاده، وقبل أشهر قليلة كانت قوى جبهة تحرير التيجراي على وشك اجتياح أديس أبابا وخلع أبي أحمد الذي يظل حتى الآن رهانا غير رابح في تحقيق السلم والأمن في منطقة القرن الأفريقي وخليج عدن وحوض نهر النيل، كما سيتطلب الأمر الحفاظ على المطالب المصرية السودانية في حقوقهم من مياه النيل وعدم الإضرار بها.. وستسظهر الأشهر القادمة مدى جدية الموقف الإثيوبي، وما إن كان آبي أحمد سيستجيب للوساطات والمفوضات أم سيستمر في تعنته وتصدير أزماته الداخلية والهروب منها بتصعيد مشكلة أزمة السد.