كتبت –  أسماء حمدي

تقضي العائلات اليائسة في القرى التي دمرتها الفيضانات في جنوب السودان، ساعات في البحث عن زنابق الماء لتتناولها بعد أن أدى صيف آخر من الأمطار الغزيرة إلى تفاقم الوضع المتردي بالفعل.

أزمة إنسانية

بعد ثلاث سنوات من الفيضانات، أصبح الناس بدون طعام ولا أرض لزراعتها، حيث غرقت الحقول في مياه الفيضانات في العام الماضي، واكتظت الأراضي المرتفعة بالجوعى، فيما سرعان ما أصبح أزمة إنسانية.

لا تزال فانجاك، وهي واحدة من أكثر المقاطعات تضرراً من بين 31 مقاطعة دمرتها الفيضانات، تفقد قوتها بسبب ارتفاع منسوب المياه، لكن المجتمعات النازحة على طول ضفاف نهر النيل الأبيض ليس لديها مكان تذهب إليه للهروب من ارتفاع منسوب المياه.

«لقد طردتنا مياه الفيضان من منزلنا والآن نتجه إلى فانجاك القديمة للبحث عن مكان للنوم الليلة، لكن لا أعرف أي مكان آخر يمكننا الذهاب»،  هكذا بدأت نيادوت جاتكوث، وهي امرأة تهاجر مع أقاربها إلى منطقة السوق المركزية في فانجاك القديمة، إحدى المناطق القليلة المرتفعة على الأرض، وتضيف: «إذا كان الأمر كذلك، فسنصنع جزيرة عشبية صغيرة وننام فوق الماء».

في العام الماضي، ترك الناس وراءهم منازلهم الطينية المنهارة وناموا في العراء تحت الأشجار وفي المباني المدرسية المهجورة، ولكن عام 2021 غمرت المياه العديد من هذه المناطق أيضًا، حيث نزح ما يقدر بنحو 1.7 مليون شخص داخل جنوب السودان، وزادت الهجرة هذا العام، حيث أجبر الناس على البحث عن أماكن أعلى مرتين على الأقل في الأشهر القليلة الماضية، وعبر آخرون الحدود إلى السودان.

وتقول الأمم المتحدة: إن أكثر من 780 ألف شخص تضرروا من الفيضانات حتى الآن، ومن المتوقع أن يرتفع هذا العدد في الأشهر المقبلة، وفي مقاطعات مثل فانجاك، كان من المتوقع أن يقفز عدد الأشخاص المتضررين من الفيضانات من 75٪ إلى ما يقرب من 100٪ بحلول نهاية أكتوبر، وفقًا لمنظمة العمل ضد الجوع، وفي الوقت نفسه، فإن البلاد ككل بها 8 ملايين شخص محتاج.

لم يتمكن الناس من زراعة الأرض في العديد من المناطق منذ عام 2020، كما فقد العديد محاصيلهم وماشيتهم بسبب الأمراض التي تسببها رعي الحيوانات في الحقول التي غمرتها المياه، وأصبح الناس يعتمدون على الحليب واللحوم التي توفرها الماشية لسد الفجوات في أوقات الحاجة، كما يتدافع الناس للعثور على الطعام، وفي غياب شباك الصيد أو الزوارق، تعتمد عائلات بأكملها على جمع زنابق الماء بالعشرات لطحنها للحصول على وجبة صغيرة في اليوم.

انعدام الأمن الغذائي

«لم نعتد على جمع زنابق الماء ولكن مياه الفيضان تجبرنا على ذلك”، تقول بول كيك، وهي أم لسبعة أطفال تعيش في أرض مرتفعة في باجوير، يمكننا قضاء ما يقرب من خمس ساعات في البحث عنها في الماء، ولكن عندما تأكل زنابق الماء، تشعر وكأنك لم تأكل».

قال علماء في المنطقة، إن الأثر التراكمي لفقدان المحاصيل ونفوق الماشية والفيضانات أدى إلى انهيار سبل العيش التقليدية، كما أن زنابق الماء والأسماك ليست مصادر غذاء مستدامة على المدى الطويل، لأن الوصول إلى الأطعمة البرية سينخفض ​​في موسم الأمطار، خاصة للأسر الفقيرة التي ليس لديها زوارق، مما يؤدي مرة أخرى إلى انعدام الأمن الغذائي الحاد.

على الرغم من الجهود التي بُذلت استعدادًا لفيضانات هذا العام، فقد أعاق توزيع الغذاء الإنساني بسبب عدم كفاية التمويل، لقد تأخرت عمليات التوزيع وقطعت الحصص الغذائية لإعطاء الأولوية لمن هم في أمس الحاجة إليها على حساب المجتمعات الأخرى، ويواجه ما يقدر بنحو 2.5 مليون شخص انعدام الأمن الغذائي الحاد، ويعتبر أكثر من 100.000 شخص على وشك المجاعة.

وفي حديث لصحيفة «الجارديان» البريطانية، تقول نياديانج جاك، وهي أم هاجرت إلى مناطق مرتفعة على أمل الزراعة هذا العام: «اعتدنا أن نزرع الذرة والذرة الرفيعة في نفس الوقت، لذلك عندما تنتهي الذرة يمكننا جني الذرة الرفيعة”. حان الوقت الآن لحصاد الذرة الرفيعة ولكننا لم نتمكن من زراعتها، لقد زرعت الذرة بجوار منزلي ولكن عندما جاء الفيضان الثاني دمرها ولم أتمكن حتى من حصادها، الآن نحن جوعى».

أصبحت المزيد من المجتمعات معزولة الآن بسبب الفيضانات، بينما يتعرض السفر إلى مناطق أخرى لخطر الهجمات أو نهب الإمدادات الغذائية، ويتزامن تزايد العنف ضد العاملين في المجال الإنساني، والذي أدى إلى مقتل أربعة أشخاص هذا العام، مع ارتفاع أسعار المواد الغذائية.

 في سبتمبر 2020، كان سعر 3.5 كجم من مسحوق الذرة الرفيعة، وهو غذاء أساسي في البلاد، حوالي 800 جنيه جنوب سوداني (حوالي 4.50 جنيه استرليني)، لكنه ارتفع هذا العام بنسبة 60٪ إلى 1300 جنيه سوداني، ومن المرجح أن يستمر هذا الاتجاه، حيث من المتوقع أن ينكمش اقتصاد جنوب السودان بنسبة 4 ٪ في عام 2021، وفقًا للبنك الدولي.

الأسوأ منذ 6 عقود

يعد جنوب السودان من أكثر دول العالم عرضة للانهيار المناخي، وفقًا لمؤشر المناخ العالمي، كما أدى انعدام الأمن الغذائي والصراع وتراجع حقوق الإنسان والمشاكل المالية التي تفاقمت بسبب كورونا إلى تآكل قدرتها على التعامل مع الأحداث المناخية القاسية المتكررة مثل الفيضانات.

 توقع تقرير حديث صادر عن الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ (IPCC)، أن هطول الأمطار الغزيرة التي تسببت في ثلاث فيضانات متتالية ستزداد سوءًا في جنوب السودان والمنطقة الأوسع إذا استمرت درجات الحرارة العالمية في الارتفاع.

يشير العلماء الذين يعملون حاليًا على الفيضانات في مقاطعة فانجاك، إلى أن الشدة غير المتناسبة للفيضانات لا تنتج فقط عن هطول الأمطار كما يتضح من الفيضانات غير العادية في يناير 2021 التي حدثت خارج موسم الأمطار. 

وعلى الرغم من حدوث الفيضانات كل عام خلال موسم الأمطار من مايو إلى أكتوبر، يقول العلماء إن الفيضانات الأخيرة في مقاطعة فانجاك كانت استثنائية من حيث الكثافة والمدى الجغرافي والمدة، وهي الأسوأ منذ 6 عقود.

في المدن والقرى النائية في الولايات الأكثر تضررًا، تكون الحياة رهيبة، لا توجد كهرباء في فنجاك القديمة، كما لا توجد مياه صالحة للشرب، لقد لوثت المياه القذرة الآبار، ويطبخ الناس بنفس مياه الفيضانات التي يلعب فيها الأطفال وترعى الحيوانات.

يقول ديفيد دينغ -وهو أعمى تقوده حفيدته أنجلينا في فنجاك القديمة عبر مياه الفيضان- «إنه صراع حقيقي أن أكون هنا مع هذه المياه، هناك الكثير من الأمراض حولها، هذا الطفل وأنا نعاني من سعال، وكل هذا بسبب الماء».

منذ العام الماضي، اختفت قرى بأكملها تحت الماء، وفي مكانها تطفو جزر صغيرة مصنوعة من العشب الجاف، حيث ينام العشرات من الناس في العراء، مما أدى إلى ارتفاع حالات لدغات الثعابين بشكل كبير.

يتم دفع الأطفال باستمرار بعيدًا عن المدارس بسبب زحف المياه، وفي العديد من المناطق النائية من البلاد، كان الأطفال محرومين من التعليم لمدة عامين بسبب الوباء والفيضانات، حيث لا تزال المنازل غارقة، وتقوم المجتمعات بإخراج المياه كل ساعة وإصلاح السدود الطينية التي تنكسر يوميًا تقريبًا.

نيابيني يل، وهي أم لطفلين فقدت منزلها أيضا، وتمثل محنة المجتمعات التي تعيش على خط المواجهة في أزمة المناخ، تقول: «لقد سئمت من بناء السدود طوال الوقت وتصريف المياه طوال الوقت، لذلك عندما اندفعت المياه تلك الليلة لم أستطع فعل أي شيء كان الظلام دامسا، وكنت أنا وأولادي وحدنا في المنزل، لذلك عدنا للنوم، كنا ننام على السرير حتى عندما كانت المياه تتدفق إلى المنزل».