كتب- محمود أحمد قاسم

يقولون إن القرآن الكريم نزل في الحجاز، لكنه قُرئ في مصر، لذلك تمكن المصريون من تأسيس ما عُرف بـ”دولة التلاوة المصرية”، التي امتد أثرها، ولا زال ممتدًا إلى كل بقاع الأرض، خاصة أفريقيا جنوب الصحراء، التي يدين أبناؤها بكثير من الولاء للمدرسة المصرية في التلاوة، فهم على هداها يسيرون حتى الآن.

ولمدرسة التلاوة المصرية أعلام وسادات، من أبرزهم صاحب الصوت الندي الشجي، شيخ عموم المقارئ المصرية، القارئ الشيخ محمود خليل الحصري، وهو أول من وثق القرآن الكريم صوتًا في العالم، وأحد مؤسسي إذاعة القرآن الكريم، ولسنوات طويلة ظلت الإذاعة تفتتح برامجها بصوته المميز دون سواه. شيخ إذا قرأ، تحوّلت إليه الأسماع، وأنصتت إليه القلوب، وخشعت مع تلاوته الجوارح. ويعتبر الشيخ الحصري أحد أكثر القراء المصريين الذين أثروا في أفريقيا، ويمتد أثره حتى الآن، رغم رحيله قبل نحو 44 عامًا.

في لقاء تلفزيوني مع فضائية تي آر تي عربي، قبل أيام قليلة، كشف الشيخ محمد الهادي توري، أحد تلاميذ الشيخ الحصري في السنغال عن قيمة القارئ المصري في أفريقيا قائلًا إن “جدي وهو يطوف العالم اشترى تسجيلات الشيخ الحصري للقرآن الكريم بروايات متعددة، ووزعها في السنغال، وأوصى وهو على فراش الموت ألا ننفك أبدًا عن وجهة الشيخ الحصري، فكل قراءة في المعهد غير قراءته جريمة لا تغتفر”. وهو ما يوضح قيمة الحصري وقدر طريقته في التلاوة التي نشرها تلاميذه في أفريقيا حتى الآن.

نشأة الشيخ الحصري ورحلته مع كتاب الله

وُلد الشيخ الحصري في قرية شبرا النملة، بمحافظة الغربية، دلتا مصر، وبدأ رحلته مع القرآن قبل أن يكمل عامه الرابع، حيث ألحقه والده بـ”الكُتاب”، فأتم حفظ القرآن وهو في الثامنة من عمره، وفي سن الثانية عشرة انضم إلى المعهد الديني في طنطا، ثم واصل تعلمه للقراءات العشر في الأزهر الشريف.

وبعد نيله شهادة علم القراءات، تفرغ الشيخ الحصري لدراسة علوم القرآن الكريم مستفيدًا من صوته المتميز وأدائه المتقن.

وفي عام 1944م، تقدم إلى الإذاعة المصرية بطلب للعمل كقارئ للقرآن الكريم، وبعد اجتيازه مسابقة قوية، حصل على العمل وبدأ أول بث مباشر له على الهواء في 16 نوفمبر 1944م، واستمرت تلاوات الشيخ الحصري على أثير إذاعة القرآن المصرية لمدة عشر سنوات، نال خلالها شهرة واسعة ومحبة كبيرة من المستمعين في جميع أنحاء العالم.

وللحصري رحلة طويلة مع القرآن الكريم، تولي فيها مناصب كثيرة كقارئ في أكبر وأهم المساجد، على رأسها مسجدا أحمد البدوي في طنطا والحسين في القاهرة.

كان الشيخ الحصري – رحمه الله – رائدًا في العديد من المجالات، فهو أول من سجل المصحف الصوتي المرتل بالعديد من الروايات، كما سجل المصحف المعلِّم في 1969م، والمصحف المفسر في 1973م؛ ولم تقتصر جهوده على تعليم كتاب الله تعالى وتحفيظه وإيصال معانيه للقلوب، بل له العديد من المؤلفات التي تمكن خلالها من نقل علمه لطلاب العلم وحفظة كتاب الله تعالى، أهمها: أحكام قراءة القرآن الكريم، و قراءة ورش عن نافع المدني، إلى جانب كتابه عظيم النفع “النهج الجديد في علم التجويد”.

مدرسة التلاوة المصرية وأفريقيا

لا يمكننا الحديث عن تأثير الشيخ الحصري في أفريقيا وقراء القرآن الأفارقة دون الحديث عن مدرسة التلاوة المصرية التي يُعدّ الحصري أبرز قرائها وواحد من مؤسسيها، تلك المدرسة التي يرجع تاريخها إلى فترة الستينيات من القرن الماضي، وكان السبب وراء ظهورها هو اكتشاف نسخة محرّفة من القرآن الكريم في بعض الدول الأفريقية.

 وقد أدى هذا الاكتشاف إلى قيام عظماء القراءة في مصر بتأسيس “إذاعة القرآن الكريم” في 25 مارس 1964م، بهدف نشر القرآن الكريم وتعليم قراءته وتجويده بشكل صحيح، تلك الإذاعة التي ترعرع في أكنافها الجيل الذهبي من القراء، فمن خلال هذه الإذاعة، ظهر جيل من القراء المتميزين الذين اشتهروا بأصواتهم العذبة وإتقانهم لتلاوة القرآن الكريم. وقد أثر هؤلاء القراء بشكل كبير في العالم الإسلامي، وأسسوا لما يُعرف اليوم باسم “مدرسة التلاوة المصرية”.

تُعدّ المدرسة المصرية لتلاوة القرآن الكريم منارة للإسلام وواحة للآذان المتعطشة للتمتّع بكلام الله سبحانه وتعالى. وتتميز هذه المدرسة بعراقتها وأصالتها، وبفضل تأثيرها الكبير في القارة الأفريقية وفي العالم أجمع، قيل إن القرآن نزل في مكة، وقُرئ في مصر. وتُشكل المدرسة المصرية جزءًا لا يتجزّأ من التراث المصري، وتتميز بوجود عدد كبير من القراء أصحاب الأصوات المميزة الذين أُطلق عليهم لقب “قراء الجيل الذهبي في مصر”. ومن أشهر هؤلاء القراء: الشيخ محمود خليل الحصري، الذي أسّس المعالم الأساسية للمدرسة المصرية في تلاوة كتاب الله، وستظل هذه المدرسة منبرًا لصوت الإسلام وواحة للآذان المتعطشة للتمتّع بكلام الله سبحانه وتعالى.

الحصري.. تأثير ممتد في القارة السمراء

ما زال الشيخ الحصري مؤثرًا في بلدان أفريقيا حتى وقتنا هذا، وقد أكدت ذلك “ياسمين الحصري”، ابنة القارئ الشيخ محمود خليل الحصري -رحمه الله-، وذلك خلال حلقة برنامج “مع الناس”، المذاع على فضائية “الناس”، إذ قالت: “كثير منهم جاء إلى قبر الشيخ حبًّا في تعلم القران، ووجدت واحدة من إندونيسيا كانت تدرس في الأزهر، وكانت تعتقد أن الشيخ ما زال على قيد الحياة وتريد لقاءه، إلا أنها فوجئت بوفاته، وكثيرون من دول العالم من روسيا والمغرب وأفريقيا قالوا لي الشيخ انتقل إلى رحمة الله لكنه ما زال يحفّظنا عبر المصحف المعلم”.

لقد ظل الشيخ الحصري يُعلِم الناس تلاوة كتاب الله تعالى وما زال، ففي السنغال، انتشرت مدارس تحفيظ القرآن الكريم على طريقة الشيخ الحصري، حيث يجلس الشيخ وأمامه طلاب العلم يحفظون كتاب الله تعالى على طريقة الشيخ الحصري، ومن أشهر دور تحفيظ القرآن على طريقة الشيخ الحصري في دولة السنغال، محظرة الميسر، وهي دور تحفيظ قرآن للفتيات، وفيها يقوم مجموعة من الفتيات بتقليد تلاوة الشيخ الحصري بشكل رائع، وفي بوركينا فاسو، انتشر مقطع فيديو على اليوتيوب يُظهر أطفال مدرسة قرآنية في بوركينا فاسو يُقلدون تلاوة الشيخ الحصري في صلاة التراويح. ويُعدّ المصحف المعلم للحصري دليلًا ومرشدًا لآلاف المعلمين في أفريقيا والعالم أجمع في تحفيظ كتاب الله تعالى([1]).

وفي العديد من الدول الأفريقية، يجلس الطلاب في المسجد ويقوم الشيخ بقراءة الآيات المراد تحفيظها من كتاب الله تعالى على طلابه مقلدًا الشيخ الحصري([2])، فيحفظ الطلاب آيات الذكر الحكيم، وتتشبع آذانهم بذاك الصوت الندي.

تلاميذ الحصري من القراء الأفارقة

نتيجة لتأثير الشيخ الحصري الكبير في أفريقيا، أصبح لدينا الآن آلاف الأطفال والشباب الأفارقة ممن يتلون القرآن الكريم على طريقة الشيخ محمود خليل الحصري([3])، ومن أبرز القراء الأفارقة، الذين ساروا على نهجه، الشيخ القارئ محمد الهادي بن عبدالعزيز توري، أحد أشهر قراء دولة السنغال، وقد وُلد في مدينة سين لويس في السّنغال، وبدأ حفظ القرآن الكريم منذ الصغر على يدي خاله، حيث تمكن من حفظ القرآن برواية ورش، ليشرع بذلك في تعلم علم القراءة حتى حصل على إجازة في القراءات العشر الصغرى. وقد حصل على العديد من الجوائز القرآنية الوطنية والدولية.

 يرجع افتتان الهادي توري بالشيخ الحصري إلى فترة الصغر، عندما تعلم القرآن الكريم وحفظه بطريقة الحصري، حيث أثر هذا الأمر في نفسيته لأن الشيخ الحصري كان صاحب حضور كبير في أفريقيا، وله تأثير قوي على عموم المقارئ الأفريقية، خاصة في السنغال، والآن يفتخر هذا القارئ الشاب بتقليده للحصري وقراءة القرآن الكريم بطريقته ونبرة صوته(4).

وليس القارئ الهادي توري وحده من افتتن بالشيخ الحصري، بل هناك أيضًا الطالب السنغالي محمد سار، الذي لم يتجاوز الـ 12 سنة، واشتهر بتقليده الرائع للشيخ الحصري. وقد نال محمد شهرة واسعة على الإنترنت لمقاطع الفيديو التي ينشرها وهو يتلو القرآن الكريم بصوت يشبه صوت الشيخ الحصري بشكل مذهل([5])، وقد أثار تقليده للشيخ الحصري إعجاب الكثير من الناس حول العالم، خاصةً في العالم العربي وأفريقيا. وأشاد العديد من القراء والمختصين بتلاوة محمد سار، مؤكدين على قدرته المميزة على تقليد نغمات الشيخ الحصري وأسلوبه في التلاوة.

يُعدّ محمد سار نموذجًا ملهمًا للشباب المسلم في أفريقيا والعالم العربي، حيث يُظهر قدرة الشباب على حفظ القرآن الكريم وتلاوته بأصوات جميلة.

إن انتشار ظاهرة إعجاب أطفال أفريقيا بالشيخ الحصري، وقيام العديد من الأطفال بتقليد تلاوة الشيخ الحصري بأصواتهم الجميلة، يُعدّ دليلًا على تأثير الشيخ الحصري – رحمه الله – في القارة الأفريقية، إذ له عظيم الأثر في قراء ومقارئ بلدان القارة السمراء على حدٍ سواء، ويرجع ذلك إلى جمال صوت الشيخ الحصري، الذي يتميز بجمال وروعة لا مثيل لها، مما يجذب الكثير من الناس، خاصةً الأطفال، كذلك سهولة تقليد تلاوة الشيخ الحصري، ولا ننسى المدارس القرآنية التي تلعب دورًا هامًا في نشر تلاوة الشيخ الحصري بين أطفال أفريقيا، حيث يتم تعليم الأطفال كيفية تلاوة القرآن الكريم على طريقة الشيخ الحصري.

وفاة الشيخ الحصري

عاش الشيخ الحصري طيلة حياته حريصًا على خدمة القرآن الكريم والإسلام حتى في أواخر أيامه، حيث قام بتشييد مسجد ومعهد ديني ومدرسة تحفيظ بمسقط رأسه قرية شبرا النملة. وفي خاتمة حياته، أوصى بثلث أمواله لخدمة القرآن الكريم و حُفَّاظه، والإنفاق في كافة وجوه البر. وفي مساء يوم الإثنين 16 محرم سنة 1401 هـ الموافق 24 نوفمبر 1980، بعد صلاة العشاء، توفي الشيخ الحصري بعد رحلة طويلة مع كتاب الله الكريم امتدت ما يقرب من خمسة وخمسين عامًا، فرحمة الله الشيخ الحصري رحمة واسعة.


[1] https://www.youtube.com/watch?v=C2S2cS5V1-8

[2] https://www.youtube.com/watch?v=v80hDgDfvWA & https://www.youtube.com/watch?v=q1pilyyfjUw.

[3] https://twitter.com/pharos_research/status/1611793655265886208?s=20.

[4] https://www.facebook.com/story.php?story_fbid=1827192407719349&id=100012858211477&mibextid=w8EBqM.

[5] https://www.youtube.com/watch?v=SobJoI7Z05c.