كتبت – أسماء الحسيني

مدير تحرير صحيفة الأهرام

المتخصصة في الشئون الأفريقية

عصفت المحاولة الانقلابية الأخيرة الفاشلة في السودان، صباح الثلاثاء الماضي، بستائر كانت تخفي الكثير من الخلافات والاختلافات والصراعات والشكوك والتوجس بين عناصر المنظومة الانتقالية الحاكمة بجناحيها المدني والعسكري، وبدا ذلك في لغة الخطابات الحادة والهجوم المتبادل بين الطرفين، وتراجعت خطورة الحدث وهو الانقلاب الفاشل، وتقدمت عليه لغة إلقاء اللوم وتوزيع التهم من كل طرف على الآخر.

 الأمر الذي يطرح الكثير من التساؤلات والمخاوف حول هذه المحاولة الانقلابية الثالثة الفاشلة، التي سرعان ما اندلعت ثم انطفأت بشكل غير مفهوم، وطرحت العديد من التساؤلات التي لم تجد لها إجابات حتى الآن، والكثير من المخاوف من تداعيات هذه الخلافات على المشهد السياسي السوداني برمته.

أول هذه التساؤلات المطروحة هو عن كنه هذه المحاولة الانقلابية وماهية من قاموا بها، وهو ما يستوجب الإعلان بشفافية عن التحقيقات بشأنها، وهل ستكون هذه المحاولة الانقلابية الثالثة منذ سقوط نظام البشير هي آخر المحاولات الانقلابية، أم أن الصراع الدائر في المشهد السياسي السوداني سيخرج لنا انقلابًا جديدًا يُقصي كلا المكونين.

وهل ستستيقظ منظومة الحكم الانتقالي من سباتها، وتنحي أجنداتها وخلافاتها جانبًا، وتدرك أنها في مركب واحد، ويبادر كل طرف لمعالجة القصور داخله، والعمل لإكمال مهام المرحلة الانتقالية، والاستعداد للحكم الديمقراطي عبر صناديق الانتخاب بعد عامين من الآن… أم تقود كل هذه التناقضات والصراعات الشعب السوداني إلى الخروج مرة أخرى إلى الشارع لاستعادة ثورته، في ظل سخط واسع ومخاوف كبيرة من تمدد واتساع رقعة التمرد في شرق السودان، الذي قد يصل إلى حد الصراع الدموي في الإقليم، وهل ستنتقل العدوى لمناطق أخرى في غرب السودان وجنوبه، الأمر الذي لاح في إعلان تنظيم “الطوفان” -في غرب كردفان من عناصر قوات الدفاع الشعبي، أحد أذرع النظام المعزول- استيلاءه على آبار البترول، الأمر الذي يضع السودان في مواجهة سيناريوهات كارثية.

 أضف إلى ذلك مخاوف قوى سياسية سودانية في قوى الحرية والتغيير من انقلاب على السلطة المدنية تعد له قيادات عسكرية، لاستبدالها بقوى مدنية أخرى تابعة لها من عناصر النظام السابق وغيرها.  

 لم يكن ذلك الخلاف العميق والتراشق الحاد الذي تفجر في العلن مؤخرًا بين المكونَيْنِ المدني والعسكري في السلطة الانتقالية بالسودان عقب إحباط المحاولة الانقلابية هو الخلاف الأول من نوعه، والمؤكد أنه لن يكون الأخير، بالنظر لحجم الهوة الواسعة بين الطرفين وحجم الاستقطاب الداخلي والدعم الدولي والإقليمي لكلا الطرفين، وسعي كل طرف بإصرار للإطاحة بالطرف الآخر أو تحجيمه في أقل تقدير، فضلًا عن الصراع على المصالح والثروة وكراسي الحكم.

بدأت الخلافات والصراعات بين الطرفين منذ اللحظة الأولى لإسقاط نظام الرئيس السوداني المعزول عمر البشير في أبريل عام 2019، فقد رأت قوى مدنية عديدة شاركت في الثورة السودانية امتدادًا له في المجلس العسكري الذي خلفه، برئاسة الفريق أول عبدالفتاح البرهان، ونائبه الفريق أول محمد حمدان دقلو (حميدتي) قائد قوات الدعم السريع.

وظهرت منذ البداية خلافات ومناوشات عديدة بين أعضاء المجلس العسكري والثوار السودانيين والفريق المدني الذي جاء ممثلًا لهم في “قوى الحرية والتغيير”، إلى أن انتهى المطاف بالجميع للتوقيع على الوثيقة الدستورية بوساطة من إثيوبيا والاتحاد الأفريقي في أغسطس 2019 بشق الأنفس، بعد صعوبات وممانعات كثيرة من القوى الثورية، بسبب وقوع مجزرة القيادة العامة قبل ذلك بثلاثة أشهر، التي قتل فيها العشرات من الثوار،  ووجهوا فيها أصابع الاتهام لعناصر المجلس العسكري وقوات الدعم السريع.

 ولا تزال هذه الحادثة محل تحقيق حتى اليوم من قبل لجنة وطنية، وواحدة من أبرز التحديات التي تواجه العلاقة بين الطرفين، بالإضافة إلى خلافات على قضايا أخرى عديدة، أبرزها مطالبة المدنيين بتنفيذ الإصلاحات الأمنية والعسكرية، وتكوين جيش وطني موحد، وإلحاق المؤسسات والشركات الاقتصادية التابعة للجيش بالسلطة المدنية، وقد عزز الطلب الأخير إجازة الكونجرس الأمريكي في ديسمبر الماضي قانونًا يدعم الانتقال الديمقراطي في السودان، ويشدد الرقابة على الجيش وقوى الأمن والاستخبارات لتعزيز السيطرة المدنية على القوات العسكرية ومراقبة أموال الجيش والأجهزة الأمنية والعسكرية وأصولها وميزانيتها.

كما تبدّى الخلاف بين الطرفين في العديد من المواقف، حيث رفض مجلس الوزراء تشكيل مجلس شركاء الفترة الانتقالية بصلاحيات واسعة، كما كشف لقاء البرهان مع رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق بنيامين نتنياهو في مدينة عنتيبي الأوغندية عن حجم عدم الانسجام في الحكم الانتقالي في السودان، بعد التصريحات المتباينة لكل من رئيسي مجلسي السيادة والوزراء حول إطلاع الأول للأخير على اللقاء ونفي الأخير للأمر، كما اتضح التباين بين المكونين بشأن قضية تسليم البشير والمطلوبين للمحكمة الجنائية الدولية. 

وقد ظهرت روايتان مختلفتان للطرفين عقب الإعلان عن إحباط المحاولة الانقلابية الأخيرة الفاشلة، إذ اتهم رئيس الوزراء والحكومة السودانية فلول النظام السابق بالوقوف خلف المحاولة الانقلابية الفاشلة، أما مجلس السيادة فرفض أن ينسب الانقلاب إلى أي جهة.

 وبلغ الخلاف ذروته عقب الانقلاب، حيث وجه البرهان ونائبه حميدتي انتقادات حادة للمكون المدني في السلطة الانتقالية، وحمّلاه مسئولية التسبب في الانقلابات العسكرية الفاشلة، الناجمة عن إهماله للأوضاع المعيشية للمواطنين، والصراع حول كراسي الحكم وتقاسم المناصب.

 وأعلن البرهان في خطاب غاضب أن الجيش وصي على السودان، وأنه من أجهض المحاولة الانقلابية ، ولا رغبة لديه في الاستيلاء على السلطة، وأن الجيش لا يقبل أي تسلط عليه من أي جهة سياسية، وأن الحملة الممنهجة ضده لن تثنيه عن أهدافه.

كما عبّر البرهان عن مرارة شديدة للانتقادات التي توجه للمكون العسكري، ونفى أي صلة للجيش بأحداث الشرق، التي تصاعدت قبل أيام بإعلان المجلس الأعلى لنظارات قبيلة البجا بإغلاق الطرق القومية وموانئ السودان على البحر الأحمر، إذا لم تتم الاستجابة لمطالبهم بإلغاء مسار الشرق في اتفاقية جوبا للسلام التي قالوا أنها لا تعبر عن القوى الحقيقية في الإقليم.

 فضلًا عن مطالبهم بتنمية الإقليم، والتي تصاعدت مؤخرًا إلى تكوين حكومة كفاءات بديلًا لحكومة حمدوك، معلنين ثقتهم بالمكون العسكري، وملوحين بحق تقرير المصير إذا لم تتم الاستجابة لمطالبهم.

وقد حملت رموز من القوى المدنية المكون العسكري في الحكومة الانتقالية المسئولية عن التصعيد في شرق السودان، كما أثارت تصريحات البرهان وحميدتي غضبًا واسعًا في أوساط قوى الثورة السودانية وحكومتها المدنية وحاضنتها السياسية قوى الحرية والتغيير وأحزابها السياسية، وانبرى عديدون منهم في سجالات وشد وجذب مع تصريحات الفريق المناوئ من العسكريين.

وانتقد تحالف قوى الحرية والتغيير ووزراء في الحكومة وأعضاء مدنيون في مجلس السيادة تصريحات البرهان وحميدتي واعتبروها نكوصا عن التحول الديمقراطي، وضد أجندة الثورة، وقالوا إنها حفلت بالمغالطات والاتهامات التي لا أساس لها من الصحة، وتعد تهديدا مباشرا للمرحلة الانتقالية، وقالوا إنهم سيتصدون لها بكل قوة وصرامة.  

وسط كل هذا الشد والجذب والهرج والمرج في السودان، أبلغت القوى الدولية شركاء الحكم في الفترة الانتقالية رسائل حادة مفادها أن المجتمع الدولي لن يسمح بانهيار صيغة منظومة الحكم الانتقالي في السودان، ولن يسمح بأي انقلابات عسكرية، وأكدت الأمم المتحدة الرفض الدولي لتقويض المرحلة الانتقالية، وعبرت واشنطن عن التزامها بدعم العملية الانتقالية التي يقودها مدنيون، وحذرت من عواقب أي محاولة من العسكريين لتقويض روح الإعلان الدستوري.

فإلى أي مسار سيدفع كل ما سبق المشهد السياسي السوداني الذي تتربص به قوى عديدة في الداخل والخارج، لعل الإجابة على هذا السؤال ترتبط بالخيارات التي سيسلكها شركاء الفترة الانتقالية، وبمصداقية المواقف الدولية الداعمة للحكم الانتقالي، والأهم بردود أفعال الشعب السوداني، الذي دفع أثمانًا باهظة من أجل التخلص من نظام حكم غاشم حكمه ثلاثين عامًا.