كتبت – أماني ربيع

“أظن أنني عشت حياة جميلة، لم أتمن شيئًا لا أستطيع بلوغه، دنوت من كل شيء أردته، لأنني عملت من أجله..”

كيف يمتزج الشجن بالحماسة في نسيج رهيف، الإجابة نجدها في أنغام موسيقى لويس أرمسترونج، التي استطاعت أن ترسم حكايات معاناة السود في أمريكا، آلامهم وأحلامهم الضائعة، عبر إيقاعاته التي حولت ركام الأوجاع إلى أمل وبهجة، فرقص العالم كله تحية لهذا الموسيقار للملك.. ملك موسيقى الجاز.

ربما يندهش البعض، لماذا نتحدث عن شخص أمريكي المولد والجنسية، وليس أفريقيا، لكن دروس الرقيق الذين جاءوا في رحلات الجحيم إلى العالم الجديد ليختلط القطن الأبيض في مزارع الإقطاعيين بدمائهم، علمتنا أن أفريقيا لم تغادر قط أجساد وأرواح الأفارقة حتى لو تركوها، مرّروا حكاياتهم وذكرياتهم، وحوّلوا حنينهم إلى القارة السمراء إلى إيقاعات وموسيقى وفن اعترف العالم كله بأصالته، ولم تنفصل أفريقيا قط عن هؤلاء، فعاشت في لونهم وملامحهم، وفي معاناتهم التي ما زالت مستمرة حتى هذا اليوم، لذا فرؤية أرمستورنج وهو ينفخ الروح في آلة الترومبيت وهو منسجم كليًّا مع الإيقاع بجسده وعينيه اللتين اشتعلتا بالحماسة، بينما قدماه تدقان الأرض، تجعلنا نتذكر الأفارقة من القبائل التقليدية في رقصاتهم ونسمع صدى موسيقاهم في أنغام الفتى الأسود الذي كان أحد رواد الموسيقى السوداء الحديثة.

لا علاقة له بالسياسة، لكنه فتح الطريق أمام ذوي البشرة السوداء في أمريكا، ليعبروا عن ذواتهم بالفن، واستطاع أن يحول الصورة المأخوذة عنهم بأنهم لا يصلحون للريادة في أي مجال، ومكانهم خدمة السيد الأبيض فحسب، وأصبح مصدر فخر وإعزاز لبني جلدته، وألهبت موسيقاه الكفاح الأسود ضد العنصرية ومن أجل الحصول على حقوقهم كمواطنين في بلد ينعت نفسه دومًا بوطن الحرية

ولد أرمسترونج في حي السود بنيو أورليانز يوم 4 أغسطس عام 1901، كانت نشأنه في أجواء عائلية الأم والجدة والأقارب، مجتمع يعيش على الهامش لكنه مترابط لأبعد حد، ومرتبط بجذوره التي يزرعها كل جيل في الجيل الذي يليه، كان هذا الحي هو المدرسة الحقيقية التي تعلم فيها الطفل الصغير كيف يلتقط الأنغام، لم تكن طفولته سهلة، فقد عمل خلال دراسته الابتدائية وحصل عبر ادخار السنتات القليلة التي كان يتقاضاها على أول آلة موسيقية في حياته.

تخلى الوالد عن الأسرة، وذهب الطفل إلى ملجأ خاص بالأطفال السود، هناك تعلم أن الحياة ليست وردية، تخلت عنه الطفولة مبكرًا، وعرف أن لون بشرته سيحمله دومًا ذنبًا لا يد له فيه.

كانت طفولته كما ذكرنا عبارة عن “صعلكة” في الشوارع، التي سار فيها هائمًا، وفي إحدى المرات اعتقلته السلطات بسبب إطلاق عيار ناري خلال احتفالات رأس السنة، كانت العقوبة 18 عشر شهرًا، وربما كانت هي الفرصة الأهم في حياته، حيث تعلم خلالها العزف على الترومبيت والكورنيت، تلا ذلك انضمامه إلى فرقة “”Waifs Home الموسيقية.

وفي كتاب مذكراته، تحدث أرمسترونج عن تلك الفترة وقال: “ربما يعود الفضل في نجاحي بشكل كامل إلى تلك الفترة التي ألقي فيها القبض عليّ، لقد منحتني تلك الفترة الفرصة لترك الركض في الشوارع بلاهدف، وأن أبدأ في تعلم شيء ما، هو الموسيقى”.

اختار آلة الترومبيت، لم يحاول تقليد أحد، وظل يسعى لصنع ألحانه الخاصة، رفض القديم وأراد بث روح جديدة في الموسيقى، وكأنما كانت هذه الأنغام متنفسه الذي يخرجه من عالم قاتم لآخر فسيح، معلم شاب ساعده اسمه جو أوليفر، وضمه لفرقته الموسيقية الصغيرة، ليعزف للمرة الأولى بشكل علني عام 1917.

مسيرته المهنية بدأت مع هذه الفرقة، وبعد عزفه أصبح أرمسترونج الرجل الثاني في الفرقة، والعازف الأكثر شعبية في نيو أورليانز، ولحبه للتجوال قام بالعزف لمدة عامين في الفرقة الموسيقية لباخرة “ديكسي بل” التي كانت تقوم برحلات سياحية في نهر المسيسيبي، وهي فترة أثْرت خبرته الموسيقية بشكل كبير.

وفي عام 1922 عاد للعمل مع أوليفر، وذهبا إلى شيكاغو، ليصنعا ثنائيًّا مدهشًا في تاريخ الجاز، وحمل أسلوبهم طابعًا مميزًا، عبر تكنيك تبديل الصوت خلال الأداء، ليصبحا من رواد موسيقى الجاز.

ومن نيو أورليانز إلى شيكاغو ثم نيويورك حيث انضم إلى فرقة فليتشر هيندرسون، وخلال كل هذا الوقت، كان أسلوبه الخاص ينضج أكثر فأكثر، بعد ذلك كون أرمسترونج فرقته الموسيقية الخاصة “هوت فايف”، عام 1927، وهي مكونة من 5 عازفين، ثم تحولت إلى “هوت سفن”، بعد انضمام عازفين آخرين، وبدأ في تسجيل الأسطوانات، وارتجال مقاطع لفظية بلا معنى لكنها تبعث الروح في الإيقاع وتجعله أقوى، وهو نفس الأسلوب الذي استخدمه خلال عزف الترومبيت ليصبح أشهر من عزف على تلك الآلة في التاريخ.

ظل الفقر والمعاناة لصيقين بذهن وقلب أرمسترونج دائمًا، حتى بعد شهرته وثرائه، وحتى في البدايات، عندما كانت الحياة عسيرة، تبنى طفلًا معاقًا، رعاه واهتم به حتى النهاية، ورغم استقرار أحواله المادية واعتراف المجتمع الأمريكي بموهبته الكبيرة، كان من أشد المناصرين لحركة الحقوق المدنية في أمريكا، وقام بدعم مارتن لوثر كينج في كفاحه ضد العنصرية، ومن أجل حقوق ذوي البشرة السمراء.

وبعد رفض التحاق الطلاب السود بإحدى مدارس أركنساس الثانوية، انفعل بشدة، وصرخ: فلتذهب الحكومة إلى الجحيم، ونعت الرئيس الأمريكي وقتها أيزنهاور، بالجبن، لعجزه عن التدخل في الأمر، ثم أعلن رفضه للعزف في جولة موسيقية لموسيقيين أمريكيين في الاتحاد السوفييتي، لتحسين العلاقات بين البلدين.

رفض العازف الأسمر النقد، واعتبر أحكام النقاد نوعًا من الوصاية على الفن، وتحداهم دائمًا، وقال إنه يعيش ما يعزفه، ولن يسمح لأي شخص أن يخبره كيف يعزف، أو ماذا يغني.

كان أرمسترونج يدرك جيدًا أهميته في التاريخ الموسيقى، تحدث في مذكراته عن حياته ومصدر إلهامه، سجل أشرطة كاسيت لكواليس أعماله، صنف كل شيء بحيث لا يترك المجال لشخص يحكي قصته، أراد أن يحكي هو عن نفسه ويقدمها للعالم دون حواجز.

ومن أشهر الأغنيات التي غناها أرمسترونج، أغنية “لا أحد يعرف المتاعب التي رأيتها”، وهي تنتمي للموسيقى الروحانية المستقاة من معاناة الرقيق في أمريكا، كانوا يملؤون أوقاتهم بالأغنيات خلال فترات العبودية، التي انتشرت مع عام 1867، وقام الكثيرون بغنائها، لكنها اشتهرت على نطاق واسع بصوت لويس أرمسترونج.

ويمكن تخمين موضوعها عن آلام الرقيق التي لا يدري أحد عنها شيئًا فهم على هامش العالم، لا يقيم لهم السيد الأبيض وزنًا، لم يجدو العزاء سوى في النظر إلى السماء ورفع عقيرتهم بالغناء، كنوع من المناجاة مع الله، يحلمون أن تكون الجنة نهاية كل هذا الألم الذي يعيشونه.

وقام أرمسترونج بزيارة شهيرة إلى مصر، وثقتها مجموعة من الصور منها صورة له يعزف على الترومبيت تحت سفح الأهرامات، تناولت الصحف الأجنبية تلك الزيارة باهتمام، وهي الزيارة التي قام بها ضمن جولة تحت رعاية الحكومة الأمريكية للترويج لصورة أمريكا الديمواقرطية، وتم اختيار ارمسترونج، لجذوره الأفريقية، وموسيقاه التي تنفتح عن العالم، وتعبر عن وجه الحرية في أمريكا.

انبعثت مقطوعاته الموسيقية وأغانيه من الراديو، وظهرت على شاشتي التلفزيون والسينما، وخرجت من المسارح، كان سماع صوته أو موسيقاه في أمريكا يشبه طقسًا يوميًّا، فهو في كل مكان، وظل حتى آخر حياته يتبرع على عرش المبيعات، حتى مع ظهور شباب مجنون هم “البيتلز”.

اعتبر المستمعون صوته وأغانيه رمزًا للفرح والبهجة، وكانت أسماء أغنياته تحمل عناوين رائعة، مثل أغنية يا له من عالم جميل، “what a wonderful world” ، وهي الأغنية التي أصبحت عنوانًا لسيرته الذاتية.

اشتهر بعزفه للأطفال الصغار في الشوارع، نفس الشوارع الفقيرة التي كان يجوبها هو نفسه وقت أن كان طفلًا لا يملك في جعبته سوى الأحلام، وظلت موسيقاه تتردد بعد موته، وكأنه لم يغب أبدًا.

وبعد مسيرة طويلة، كللت بالنجاح في جميع مراحلها، باغتت سكتة قلبية العازف الشهير خلال نومه قبل احتفاله بعيد ميلاده السبعين في السادس من يونيو عام 1971.