كتبت – د. أماني الطويل
مدير البرنامج الأفريقي بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

بعد مخاض صعب بدأ اتفاق سلام جنوب السودان يأخذ طريقه للتنفيذ علي الأرض، بعد حرب أهلية إمتدت خمس سنوات، ورغم هذه الخطوة التي تم تعطيلها لأكثر من عام ونصف تقريبا تسود المخاوف بشأن مدي قدرة هذا الإتفاق علي الصمود، وخصوصا أنه لم يكن من المأمول أن يعيش جنوب السودان حربا أهلية بين بنيه الذين حاربوا عقودا طويلة من أجل إستقلاهم عن شمال السودان، وحصلوا عليه بالفعل مطلع عام ٢٠١١، ولكن عوامل الإنقسام القبلي، وظهور البترول وإتجاهات الفساد داخل حكومة جنوب السودان، كلها كانت عوامل لعبت أدورا دافعة نحو حرب جديدة، ولكن هذه المرة بين أبناء جنوب السودان أنفسهم.

ولايبدو  لنا إمكانية لفهم تعقيدات الموقف السياسي والقبلي في جنوب السودان بمعزل عن تاريخه الطويل في الحرب الأهلية التي ميزت تاريخ السودان الكبير في الفترة المعاصرة، حيث  امتدت هذه الحرب من ١٩٥٥ حتي عام ٢٠٠٥،  بقترة انقطاع واحدة بين ١٩٧٢، و١٩٨٣، وقد ساهمت هذه الحرب الطويلة في بلورة التفاعلات والديناميات الراهنة  بين مكونات جنوب السودان نفسه علي المستويين القبلي والسياسي، كما هي الرافد الرئيس للتفاعلات الراهنة بين دولتي السودان حاليا.

في هذا السياق نعرض نبذة عن تلك الحرب وتطوراتها وانعكاسها علي مكونات جنوب السودان، ومن ثم ننتقل إلي تحديات بناء السلم الأهلي في السودان، ومدي قدرة النخب الجنوب سودانية علي تجاوز عوامل الإنقسام الداخلية خصوصا مع ظهور عامل الثروة النفطية، وأخيرا دور العامل الخارجي، في ترتيبات السلام الراهنة ومدي قدرته علي الإستمرار كعامل ضامن للإستقرار في جنوب السودان.

المحور الأول. حرب الشمال والجنوب لماذا ؟

لعب الاستعمار البريطاني دورا أساسيا في تعويق الإندماج الوطني السوداني، وبالتالي في تعقيد مشكلة الجنوب،  فإضافة لواقع السودان التعددي عرقياً ودينياً ساهمت سياسة بريطانيا الانفصالية بجنوب السودان في إعاقة الاندماج الوطني على نحو سلمي بإقدامها على إصدار قانون المناطق المغلقة عام 1922م([i]) وهو مايعني منع الحركة الطبيعية للبشر بين شمال وجنوب السودان، وضرورة الحصول علي إذن من السكرتير الإداري البريطاني لدخول الشماليين إلي جنوب السودان إضافة إلى قرار استبعاد استخدام اللغة العربية الذي صدر عام 1928م  حين نظمت الجمعية التبشيرية في المديرية (الاستوائية) مؤتمراً قرر استخدام اللغة الإنجليزية و7 لغات جنوبية رئيسية كوسيلة للتعليم في الجنوب .

وعلى الرغم من أن الباحثين السودانيين الجنوبيين يرون أن أسباب لجوء بريطانيا إلى سياسة الفصل هذه تتعلق بمخاوف الإدارة من ثورة في الجنوب ضد بريطانيا في ضوء اغتيال السيرلى ستاك على يد حركة اللواء الأبيض التي ينتمي بعض قادتها للجنوب([ii]) إضافة إلى المخاوف المتعلقة بإمكانية تغلغل النفوذ الديني للسيدين «عبد الرحمن المهدي» و«على الميرغني» في الجنوب عن طريق التجار،  إلا أن الثابت أن قانون المناطق المغلقة سابق على حركة اللواء الأبيض 1924م، كما أن هناك اتفاقاً عاماً على وجود توجهات بريطانية لإلحاق الجنوب السوداني بمستعمرات شرق أفريقيا حتى منتصف الأربعينيات،  حيث قال دوجلاس نيوبولد السكرتير الإداري عام 1944م “إن السياسة المقررة لدى الحكومة هي أن تعمل على أساس أن أهل الجنوب هم حقيقة أفارقة وزنوج” وواجبنا نحوهم هو أن نسرع عندهم بالتنمية , ليرتبط مصيرهم مستقبلاً مع شمال السودان  أو شرق أفريقيا , أو يرتبط جزئياً هنا وجزئياً هناك”.

 وقد أهملت الإدارة البريطانية «الجنوب» وتأخرت في تدشين تنمية اقتصادية اجتماعية به تلاحق مستوى التطور في الشمال،  فلم تنشئ إلا مدرسة ثانوية واحدة  في (رمبيك) عام 1948م , كما أنشأت مشروع زراعي له جناح تجاري في المديرية الاستوائية عام 1950م  لانتاج القطن، من هنا كان لسياسات الفصل العنصري وضعف التنمية تأثيراً سلبياً للغاية على عملية الاندماج الوطني السوداني.

وفى عام 1947م حدث انقلاب في التوجهات البريطانية إزاء جنوب السودان حيث اُتخذ قرار بأن يبقى السودان موحداً ولا يلحق بأوغندا،  وفي هذا السياق رتبت بريطانيا عقد مؤتمر جوبا في يونيو من نفس العام  والذي حشدت له الإدارة البريطانية كل إمكانياتها لإقناع الجنوبيين بتأييد فكرة إنشاء مجلس استشاري للجنوب، حيث حقق هذا المؤتمر عدة إيجابيات منها اعتراف غالبية زعماء الجنوب بمبدأ الوحدة بين شطري السودان، ونبذ فكرة ضمه إلى أوغندا([iii])، ولكن هذا المؤتمر  لم ينه مخاوف الجنوبيين تماماً من سيطرة الشماليين، حيث أكدوا أن الجنوب يحتاج إلى ضمانات للحفاظ على ذاتيته والحفاظ على الفوارق الثقافية والتاريخية بين الشمال والجنوب، وذلك في ضوء ما لمسوه من توجهات بريطانية لما اعتبروه تخلياً عن الجنوب لصالح الشمال([iv])

كما أقدمت بريطانيا على التلاعب بورقة هوية جنوب السودان في المفاوضات المصرية البريطانية  الخاصة بمستقبل السودان، حيث ورد في  ملحق مذكرة قدمها السفير البريطانية في 8 يوليو 1951م “أنه بالنظر إلى الفروق الواسعة بين السودانيين في الثقافة والجنس والدين والتطور السياسي فإن إجراء الوصول للحكم الذاتي الكامل يقضي تعاون مصر والمملكة المتحدة مع السودانيين”، وقد ردت مصر على هذه المذكرة في جلسة 6 يوليو 1951م بالقول إن هذه الفروقات لا تستند إلى أساس ولكنها نتيجة سياسات بريطانيا في السودان والتي تهدف إلى عزل جنوبه عن شماله([v]).

وقد بدأت بريطانيا في توظيف الجنوب في المعادلة السياسية بالشمال وفي العلاقة مع مصر منذ مؤتمر جوبا حتى استقلال السودان , كما لعبت أدواراً فيه عبر دول أفريقية بعد الاستقلال , وتحت مزاعم عدم تأهل الجنوب للحكم الذاتي ،قاومت بريطانيا التوجه المصري في الحفاظ على وحدة السودان الذي برز في مفاوضات اتفاقية الحكم الذاتي .

وكانت المطالب البريطانية بخلق سلطات استثنائية للحاكم العام البريطاني في جلسة 24 نوفمبر 1952م مؤسسة على المادة رقم 100 من المشروع البريطاني للحكم الذاتي في السودان، وذلك بمزاعم تأهيل الجنوب للتوافق مع الشمال المتقدم عنه حضارياً كخطوة تمهيدية نحو وحدة السودان إضافة لحماية الجنوب من اضطرابات متوقعة.([vi])

وقد شرع الإداريون البريطانيون في تأليب الجنوبيين في أعقاب التوقيع على اتفاقية الحكم الذاتي مباشرة بين مصر والسودان في 4 فبراير 1954 حيث صرح الحاكم العـام روبرت هاو في نداء وجهه لأبناء الجنوب أن تلك الاتفاقية قد أغفلت حقوقهم التي ينبغي أن يطالبوا بها متبعين في ذلك الطرق الدستورية([vii]

ولم يكتف البريطانيون بذلك ولكنهم أيضاً كثفوا حرب الدعاية ضد المصريين في المعركة المفتوحة بين الطرفين حول مستقبل السودان، وإثارة نقاط المخاوف التاريخية والمشاعر المجروحة لدى الجنوبيين،  وذلك بالتركيز على عناصر الاسترقاق والمطامع المصرية في المياه، حيث أشاعوا أنه سيتم استعبادهم وتصديرهم إلى القاهرة في حالة نجاح الحزب الاتحادي ووحدته مع مصر , وأن محمد نجيب سوف يغزو السودان ويحرمهم من زراعة القطن لصالح المصريين النهمين([viii])

وكان الحصاد النهائي لذلك هو ما عـَـبـّـر عنه جمال عبد الناصر للسفير البريطاني في القاهرة رالف ستيفنسون بوجود نشاط مخابراتي بريطاني يستهدف فصل الجنوب بالتعاون مع جنوبيين([ix]).

إنطلاقا من هذه الخلفية التاريخية نستطيع أن نفهم لماذا اندلعت شرارة الحرب الأهلية قبل إعلان إستقلال السودان ذاته عن الإستعمار البريطاني إذ كانت منطقة توريت في جنوب السودان موضع شرارة الحرب الطويلة في 18 أغسطس 1955م، حيث شكلت الإحباطات الجنوبية الناتجة عن عدم الحصول على وظائف في إطار لجنةسودنة الوظائف – التي لم تعط للجنوبيين سوى أربعة وظائف من مجموع 800 وظيفة – والتعامل بعنف مع الحالات الاحتجاجية أسباباً منطقية لهذا التمرد.

وخلال حكم الفريق عبود ١٩٥٨-١٩٦٤ تصاعدت حركات التمرد من قـِـبَـل الجنوبيين، وتم الإعلان عن تكوين قوات الأنانيا الجنوبية المسلحة في فبراير 1962م بقيادة كل من جوزيف لاجو ووليم دينج، حيث استمر الجنوب في إنتاج حركات تمرد علي المركز، فجاءت «أنانيا ٢» والتي عقد معها الرئيس السوداني الأسبق جعفر نميري اتفاقية للسلام عام ١٩٧٢، سميت اتفاقية أديس أبابا وهي الإتفاقية التي انهارت عام ١٩٨٣ علي خلفية ثلاث عوامل هي :-

  • فشل عملية  دمج مقاتلي الأنيانيا في القوات المسلحة السودانية، وذلك بمعارضة من جانب المقاتلين الجنوبيين خاصة في عام 1975 عندما رفض عدد من أفراد الأنيانيا تنفيذ أوامر نقلهم إلى الشمال وقاموا باطلاق النار على القوات التي جاءت لتحل محلهم، مما أدى إلى مصرع قائدها وعدد من الجنود، وهرب عدد من مقاتلي الأنيانيا في اعقاب الحادث بأسلحتهم إلى الغابات في الجنوب وكانوا النواة الأولى التي تشكلت منها حركة التمرد في الحرب الأهلية السودانية الثانية.
  • ظهور البترول في الجنوب، في منطقة بانتيو بولاية الوحدة في أعالي النيل بجنوب السودان من قبل شركة شيفرن الأمريكية عام 1979، حيث طرأت مشكلة حول قرار بناء مصفاة النفط في مدينة كوستي بالشمال، وذلك عندما طالب النواب الجنوبيين بمجلس الشعب (البرلمان) بأن يكون مقر المصفاة في بانيتو نفسها فقررت الحكومة بناء خط انابيب إلى مدينة بورتسودان على ساحل البحر الأحمر، حيث توجد مصفاة ، ويمكن تصدير النفط .وهو ماآثار مشاعر الجنوبيين ضد الشمال لأنهم أحق بثروتهم النفطية .
  • هيمنة قبيلة الدينكا علي مقدرات الجنوب السياسية والإقتصادية بإعتبارها القبيلة ذات الوزن الديمغرافي الأكبر، في حساسية مستمرة حتي اللحظة الراهنة .

 انطلاقا من هذه المنصة برز تمرد جون جارانج عام ١٩٨٣، وهو الضابط الذي يحمل رتبة عقيد في القوات المسلحة السودانية، وخاض حربا مريرة طوال أكثر من عقدين، تحت مظلة مشروع سياسي أسماه السودان الجديد، وإذا كان جارنج قد فشل في تحقيق مشروعه بسبب حادث اغتيال في أغسطس ٢٠٠٥ مازالت أسبابه وفاعليه غير معروفين، فإنه نجح في الوصول إلي محطة إتفاق سلام نيفاشا عام ٢٠٠٥، وهو الإتفاق الذي تمت بلورته في الولايات المتحدة الأمريكية بمركز الدراسات الإستراتيجية الأمريكية محددا في إطار دولة وحدة بنظامين،ولكن بنود إتفاقية السلام قد صممت في النهاية ليقر حقا للجنوبيين في تقرير مصير هم.

وقد مارست واشنطن ضغوطاعلي نظام البشير للسماح بأن يكون إنقسام السودان ممكنا، وهو مجهود لم يكن لينجح عام ٢٠١١لولا أن الجنوبيين كان لهم توجهات إستقلالية فعلية ،نتيجة خذلان تاريخي من الشمال.

المحور الثاني. تحديات بناء السلم الأهلي في جنوب السودان:

لعل المقدمة التاريخية الطويلة نسبيا في هذه الدراسة قد علمتنا ثلاثة أمور هي :

 أ- أن عملية إدماج القوات المتحاربة في جنوب السودان كانت عقبة في إستمرار اتفاقية أديس أبابا ١٩٧٢، وهي ذات العملية الفاشلة حتي اللحظة الراهنة في إتفاقية سلام جنوب السودان المعقودة عام ٢٠١٥، وتم تنشيطها في ٢٠١٨،حيث لاتعتد غالبا القوات المتحاربة بمسألة الخسائر البشرية المترتبة علي الحرب ولعل هذا مايفسر عدم تفعيل إتفاق السلام علي مدي أكثر من عام رغم خسائر بشرية للحرب الجنوب سودانية تتجاوز ٣٤٠ أالف شخص، وهجرة مليونية للسكان إالي دول الجوار، وإعلان جنوب السودان منطقة مجاعة من جانب الأمم المتحدة.

ب- أن ظهور البترول في مناطق قبيلة النوير القبيلة الثانية من حيث الوزن السكاني في جنوب السودان كان سبب التقسيم بين الجنوبين فبينما كان الجنوب كله متوحدا ضد الشمال عام ١٩٧٢ بسبب مايعتقد أن أحقية مطلقة لهم في هذه الثروة، فإن النويير يمارسون نفس المنطق ضد أشقاءهم الدينكا حاليا، في ضوء مركزية مسألة البترول في الذهنية الجنوب سودانية التي شاهدتها بنفسي عام ٢٠٠٦ في زيارة إلي جوبا حيث واجهتني لافتة تقول “ البترول لنا،الأرض لنا” حيث تقدمت قيمة الثروة علي قيمة الوطن، ولعل ذلك مايفسر لنا أن صراع النخب السودانية الذي تم  في ديسمبر عام ٢٠١٣، بين كل من رئيس جنوب السودان ونائبه حيث أتهم الأول الثاني بمحاولة تدبير إنقلاب ضده ،وسرعان ما أمتد رأسيا ليتطور إلي صراع قبلي وحرب أهلية بين قبيلتي الدينكا والنوير حيث ينتمي للأولي رئيس البلاد سلفا كير،وينتمي للثانية نائبه رياك مشار، وكان البترول أيضا عاملا في إقدام سلفا كير علي تقسيم الجنوب إالي ٣٢ ولاية، وهو ماعطل تكوين الحكومة الإنتقالية، وكان سببا في تحفظ رياك مشار قبل إستلامه مهام منصبه كنائب للرئيس مؤخرا، حيث لجأ سلفا كير وهو يتراجع عن التقسيم الإداري الضخم للجنوب وعودته إلي ١٠ ولايات خلال الشهر الحالي إلي إعلان ثلاث مناطق مناطق إدارية أحدها منطقة إنتاج نفط” الروينج” التي شهدت أعنف المعارك أثناء الحرب بين الطرفين .

ج- دور قبيلة الدينكا في تجاهل الشركاء القبليين

أقدم رئيس الدولة  سلفا كير في مطلع ٢٠١٣ علي إزاحة قيادات عسكرية من الجيش الشعبي منتمية الي قبيلة النوير ، كما أقدم علي إزاحة نائبه الأول رياك مشار المنتمي لنفس القبيلة بعد تعبير الأخير عن رغبته في خوض الإنتخابات الرئاسية عام ٢٠١٥ منافسا لكير، أما الخطوة الأخيرة التي أقدم عليها الرئيس المنتمي لقبيلة الدينكا ذات الأغلبية السكانية فهي تقسيم إداري جديد للدولة علي أسس قبلية وذلك في أعقاب عقد إتفاق السلام في سبتمبر٢٠١٥ ، وذلك بإصدار أمرًا رئاسيًّا يقضي بإعادة تقسيم جنوب السودان إلى 28 ولاية بدلًا عن العشر التي كانت موجودة، مبررًا الخطوة بأنها ترمي لمنح الولايات المزيد من الصلاحيات في الحكم، مما يمكن أن يساعد في عملية التنمية، وهي الخطوة التي رفضتها المعارضة المسلحة باعتبارها انتهاكًا لاتفاق السلام الموقع بينها والحكومة.في أعسطس ٢٠١٥ بعد عشرين شهرا من الصراع المسلح ،وقالت المعارضة أنه أعطي ميزات تفضيلة لقبيلة الدينكا في مناطق إنتاج النفط . وأعتبر رياك مشار المنتمي لقبيلة النوير والمعارض الرئيس  لسلفا كير ونائبه السابق أن إعادة تقسيم الدولة إداريا يصيب إتفاق السلام  الموقع في أغسطس ٢٠١٥ في مقتل ، وطبقا لذلك تعطلت عودة مشار الي جوبا لإستئناف تولي موقعه كنائب للرئيس ، كما تعطل تكوين الحكومة الإنتقالية فعليا.

وقد ساهمت هذه العوامل الثلاث في إندلاع الصراع الذي أفضي الي صراع قبلى وقتل على الهوية فى مدن بانتيو وملكال وغيرها من مدن جنوب السودان، وقد تطور هذا الصراع القبلي ليكون متعدد المستويات بتكوين ماسمي بالجيش الابيض الممثل القبلي لقبيلة النوير ، وهو ماأسفر عن تعقيد الصراع وإنهيار إتفاقات وقف إطلاق النار التي كان أولها في ٢٣ يناير ٢٠١٤

وقد تخللت الصراع في دورته الأولي مذبحة بانتيو التى قتل فيها مدنيين فى مسجد وكنيسة  ومستشفى كانوا يحاولون عدم التورط فى الصراع الدائر بينما كانت االإذاعات المحلية تبث الكراهية والتحريض على القتل. وهو أمر كان له إنعكسات مدمرة  ومهددة بمزيد من الإنقسام خصوصا مع إنحدار الصراع المسلح الي مستوي التصفية العرقية.

علي المستوي الإٍقتصادي أنتجت تفاعلات الصراع المسلح توقف بعض محطات إنتاج النفط عن العمل، حيث أحكمت قوات رياك مشار نائب رئيس الجمهورية في دولة جنوب السودان  سيطرتها على بعض المدن النفطية المهمة. حيث أنخفض إنتاج النفط من 480 الف برميل الى 160 الف برميل فقط  يوميا .

من ناحية أخرى، فإن اتخاذ المدن النفطية مسرحاً للمواجهات العسكرية، في مسعى من المتمردين للضغط على حكومة جنوب السودان ، من شأنه أن التأثير المباشر علي الأوضاع الاقتصادية للبلاد، بالنظر لكون النفط يمثل مصدر الدخل القومي الرئيسي لجنوب السودان.

وعلي الصعيد الإنساني أشارت تقديرات الأمن الغذائي التي نفذتها منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة “FAO” في جنوب السودان إلى أن الصراع والتشرد السكاني وتدمير الأسواق وانقطاع سبل المعيشة، تمخض عنها تدهور أوضاع الأمن الغذائي بمعدل ينذر بالخطر  وثمة احتمال كبير لمزيد من تفاقم الحالة ، حيث حذرت منظمة “فاو” من أن ثلث سكان جنوب السودان يواجهون مستويات طوارئ من انعدام الأمن الغذائي، بينما تبدو بعض مناطق البلاد في خطر كبير من وقوع مجاعات كبري  .

أما الأمم المتحدة فأفادت بحالة إكتظاظ شديد يعاني منها  اللاجئون في مركز دزيابي للعبور في شمال أوغندا، بالإضافة إلى مشاكل تتعلق بالنظافة، والغذاء، ونقص المياه، وفق ما تشير إليه مفوضية شئون اللاجئين بالأمم المتحدة، بلغ عدد اللاجئين في إثيوبيا أكثر من 20 ألفاً، ونحو 9الاف في كينيا ، ومايزيد عن ٨٠ الفا في السودان الشمالي  . ويشار إلى أن اللاجئين في تلك الدول يواجهون أيضا مشكلات مماثلة تتعلق بتوفر المياه النظيفة، والصرف الصحي، والصحة، والإيواء، والتعليم.

المحور الثالث  : دور العامل الخارجي في إتفاقات وتنفيذ إتفاق السلام

يمكن القول أن المجتمع الدولي قد مارس أدورا متنوعة لبلورة ودعم إتفاق للسلام في جنوب السودان وذلك علي ثلاث مراحل مرحلة عقد إتفاق السلام نفسه في أغسطس ٢٠١٥، ثم مرحلة تنشيط هذا الإتفاق وتعديله  في سبتمبر ٢٠١٨ بالخرطوم ، وذلك بعد أن تم إستئناف الصراع المسلح بين الطرفين في يوليو ٢٠١٦، وأخيرا مرحلة تكوين الحكومة الإنتقالية الممتدة لثلاث سنوات والتي بدأت في فبراير ٢٠٢٠

أ- مرحلة سلام ٢٠١٥

تقدمت الهيئة الحكومية لمكافحة الجفاف والتصحر في شرق إفريقيا “ الإيجاد بمشروع إتفاق سلام دعمته الصين والإتحاد الإفريقي وأعضاء الترويكا النرويج وبريطانيا والولايات المتحدة ، وقد إستغرق الوصول لهذا الإتفاق عددا من الجولات التفاوضية ،تمت في أيس أبابا من يناير ٢٠١٤ وحتي أعسطس ٢٠١٥حول أربعة سيناريوهات دارت حول حكومة إنتقالية تشرف علي إنتخابات ووضع دستور حاكم للعلاقات السياسية في مرحلة حرجة من تاريخ الدولة الوليدة أما السيناريوهات الأخرى والأكثر خطرا  فدار بشأنها حوارا فى واشنطن وهو المتعلق بإمكانية فرض وصاية  دولية على جنوب السودان إذا مافشلت جهود وساطة منظمة إيجاد لأحلال السلام ,وربما تكون أداتها الرئيسية قوات أفريكوم التابعة للولايات المتحدة الأمريكية ويبدو أن طرح سيناريو الوصاية الدولية دفع الرئيس سلفا كير إبان الدورة الأولي من الصراع ٢٠١٣- ٢٠١٥ الى الإفراج عن أربعة من كبار معارضيه مع منعهم من مغادرة البلاد أبرزهم باجان أموم الأمين العام السابق للحزب الحاكم  وكان هؤلاء هم الدفعة الآخيرة المفرج عنها بعد الأفراج عن سبعة آخرين فى وقت سابق من كبار القادة كان قد ألقى القبض عليهم فى ديسمبر 2013 على خلفية إتهامهم بمولاة رياك مشار فى محاولة إنقلابية كما وصفتها حكومة جنوب السودان . كما ساهم التلويح أيضا بالوصاية الدولية في الدورة الثانية من الصراع ٢٠١٦ في إرغام سلفا كير رئيس جنوب السودان علي التوقيع علي إتفاق السلام الذي رعته الإيجاد ولكن بتأخير خمسة أيام عن توقيع رياك مشار نائبه الأول ،وقد تبلور هذا الإتفاق في : .

أولا : إجراءت إنهاء الصراع

١- وقف إطلاق النار

إنهاء القتال فورًا، مع وقف إطلاق نار دائم بعد 72 ساعة من توقيع الاتفاق، ولدى القوات المسلحة 30 يومًا للاجتماع لـ”الفصل والتجمع والالتحاق”، أو البقاء في الثكنات، مع أسلحتهم محفوظة في المستودعات، مع مراجعة الإجراءات الأمنية قبيل التوحيد النهائي للقوات.

٢- خروج القوات الأجنبية

على جميع القوات الاجنبية المشاركة في الحرب، القوات الأوغندية التي تدعم كير، أن تغادر في غضون 45 يومًا. وذلك بعد نزع أسلحتها بما في ذلك المتمردين من دارفور ومناطق جبال النوبة، وإعادتهم إلى بلادهم.

 3ـ يمنع اقتراب أي جنود لمسافة 25 كيلومترًا من العاصمة جوبا، ويمكن للحرس الرئاسي، وقوات الشرطة وحرس المنشات فقط البقاء في المدينة.

4-إطلاق سراح الجنود الأطفال وأسرى الحرب، والسماح لعمال الإغاثة بحرية الدخول.

ثانيا : إجراءت التوافق السياسي

١- النائب الأول للرئيس

يعطي الاتفاق المتمردين منصب “النائب الأول للرئيس”، إضافة إلى منصب نائب الرئيس الحالي، ما يعني عودة مشار إلى المنصب الذي أقيل منه في يوليو العام 2013، قبل 6 أشهر من بداية الحرب، وعلى الموقعين أيضًا أن يتحملوا مسؤولية الحرب، وأن يقدموا اعتذارًا غير مشروط لعشرات الآلاف الذين قتلوا في الصراع الذي تخلله ارتكاب فظائع من الجانبين.

٢: حكومة انتقالية

تشكيل حكومة وحدة وطنية انتقالية بعد 90 يومًا من توقيع الاتفاق، تستمر مدة 30 شهرًا. يجب إجراء الانتخابات قبل 60 يومًا انتهاء الفترة، ما يعني أنه إذا وقع كير على الاتفاق، فإن الانتخابات ستكون مطلع العام 2018

٣-: تقاسم السلطة

تحصل الحكومة على 53% من المناصب الوزارية، فيما يحصل المتمردون على 33%، والمناصب المتبقية تكون للأحزاب الأخرى. كما تحصل الحكومة على 85% من المناصب الوزارية في 7 من أصل 10 ولايات، لكن في ولايات جونقلي والوحدة وأعالي النيل، ستحصل الحكومة على 46% من المناصب مقابل 40% للمتمردين.

ثالثا: محكمة جرائم الحرب

يتم تشكيل لجنة لتقصي الحقائق والمصالحة والمعالجة للتحقيق في “جميع جوانب انتهاكات حقوق الإنسان”.كما سيتم تشكيل “محكمة مختلطة” بالتعاون مع الاتحاد الإفريقي، للتحقيق في جرائم إبادة جماعية محتملة، والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب، والمتهمون بارتكاب هذه الجرائم لن يكونوا ضمن الحكومة الانتقالية.وأيضا ينص الاتفاق على أن أحدًا لن يعفى من المسؤولية الجنائية بسبب صفته الرسمية كمسؤول حكومي، أو مسؤول منتخب”.

وقد نجح هذا الإتفاق في وقف إطلاق النار ووقف الأعمال العدائية ، ولكنه لم يوقف  المرواغات السياسية التي جمدت عمليا إتفاق السلام  ،وتسببت في إندلاع الدورة الثانية من أعمال العنف المسلح في يوليو ٢٠١٦. وقد كان أكثر البنود إثارة للنزاع في الإتفاق هو بند تقييد عدد القوات المسلحة التي يمكن لكل طرف الاحتفاظ بها في جوبا، ونسب إلى محللين قولهم إن الطرفين تجاهلا تنفيذ الاتفاق وبدآ منذ التوقيع عليه التحضير لحرب جديدة.

النتائج المباشرة لتعثر إتفاق السلام الي حد أن بند تكوين الحكومة الإنتقالية إستغرق ٨ أشهر كاملة ، تبلورت في تكثيف الضغط علي جوبا عبر قرار مجلس الأمن رقم ٢٣٠٤ الذي  أقر دعم القوات الأممية بجنوب السودان بأربعة آلاف عنصر جديد، مع إمكانية إستخدام هذه القوات للقوة ضد أي جهة تنتوي القيام بعمل مسلح ،أو تدبير هجوم علي القوات الأممية ، وهو أمر آِثار جدلا واسعا عند التصويت عليه وتسبب في إمتناع  أربعة أعضاء عن التصويت هم روسيا والصين ومصر وفنزويلا.وترتب علي ذلك مقاومة من جانب جوبا ضد القرار

ب- دعم إتفاقية للسلام المنشط :

إندلعت الحرب مرة أخري في جنوب السودان في يوليو ٢٠١٦ بسبب قرارات رئيس البلاد الإدارية في إعتماد تقسيم جديد، حيث هرب نائب الرئيس رياك مشار ،ونظرا لما يحتله جنوب السودان من  أهمية خاصة لدي الولايات المتحدة الأمريكية ،لإعتبارات وجود الشركات الصينية في المنطقة وما تمثله من تحدى لنظيرتها الأمريكية التي تهتم بفرص الاستثمار في هذه الدولة البكر، ولكن إبرام حكومة جنوب السودان عقودًا طويلة الأجل  مع بكين، قطعت على واشنطن الطريق إلى قطاع النفط الحيوي في الجنوب ووفرت للصينين 5% من إحتياجاتهم النفطية طبقا لآخر إحصاءات متاحة وهو مايجعل الصراع فى جنوب السودان مهددا للمصالح الأمريكية بإمتياز. وطبقا لهذه المعطيات فإن فرض عقوبات على قادة سودانيين قد تغل يدهم فى التعاون مع الصين. وقد وجدت الولايات المتحدة مع إستمرار الصراع في جنوب السودان فرصة لطرح فكرة الوصاية الدولية علي جنوب السودان خصوصا بعد إندلاع دورة الصراع الثانية في يوليو .

٢٠١٦،فأقترح برينستون ليمان المبعوث الأمريكي للسودان ٢٠١١-٢٠١٣ في معهد السلام بواشنطن ذا العلاقات العضوية بكونجرس ووكالة المخابرات أن تفرض علي السودان وصاية دولية من جانب الأمم المتحدة طبقا لنموذجي تيمور الشرقية ، وكوسوفو وهو الإقتراح الذي سانده كنوبف مدير مركز إفريقيا للدراسات الإستراتيجية وهو معهد بحثي تابع لوزارة الدفاع الأمريكية وتم بلورة هذا الإقتراح في عدد من الإجراءات هي :

  • استقطاب تأييد الأغلبية من الأجهزة الأمنية الجنوبية والمجموعات المسلحة الكبيرة والجماهير القبلية لصالح الإدارة الأممية/ الأفريقية.   
    • إنشاء وحدة مراقبة لجنوب السودان تحت إدارة الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي ووضع عهدة عائدات نفط البلاد تحت سيطرتها.
      • إعادة هيكلة قوات حفظ السلام الأممية لتشمل قدرات الإنفاذ المعززة لإنفاذ الأمن.

وللتعجيل برحيل سلفاكير ومشار عن السلطة، يجب على الولايات المتحدة والضامنين الإقليميين والدوليين الآخرين لاتفاقية السلام الحالية أن يمنحوهما الحصانة من الملاحقة القضائية وملاذاً آمناً في الخارج.

كما حث الإقتراح الاتحاد الأفريقي أن يتحرك سريعاً لإنشاء محكمة مختلطة لجنوب السودان وأخيراً يجب على الولايات المتحدة والمملكة المتحدة والدول الأخرى ذات الميول المشتركة، أن تقوم بتنفيذ عقوبات عقود وقائية على صفقات الأعمال التجارية التي يقوم بتوقيعها النظام الحالي بما يجعل هذه العقود غير قابلة للتنفيذ في محاكم الولايات المتحدة والمملكة المتحدة.

يمكن للمبادرة الدبلوماسية أيضاً أن تقنع جيش جنوب السودان والأجهزة الأمنية القومية الأخرى بأن الإدارة الأممية/ الأفريقية هي البديل الأقل سوءاً لإدارة التدخل العسكري وتفتيت البلاد إلى مناطق نفوذ بواسطة إثيوبيا والسودان ويوغندا وفقدان السيادة المفتوح الأجل لاحقاً.

 هذا الإقتراح تقف أمامه وقفت أمامه ثلاث عقبات هي :

  • مبادئ السيادة للدولة طبقا لميثاق الإتحاد الإُفريقي والأمم المتحدة خصوصا المادة ٧٨ من ميثاق الأخيرة، رفض شعب جنوب السودان وقادته ،لمثل هذا الإقتراح الذين خاضوا حربا أهلية طويلة ومريرة من أجل حكما ذاتيا.
    • عدم دعم إتالإتحاد الأفريقي لهذه هذه الفكرة  في ضوء معاناة القارة من حقبة إستعمارية طويلة([x]).
      • وقد ساهم إجهاض إقتراح الوصاية الدولية علي نحو مبكر  في تكثيف جهد واشنطن لإخراج القرار ٢٣٠٤ لمجلس الأمن الدولي والذي أتاح تنفيذ عقوبات دولية علي رموز في حكومة جنوب السودان خلال يناير ٢٠٢٠، وإفصاح الأمم المتحدة عن ملفات فساد تطول رموز سياسية اساسية لطرفي الصراع وكل ذلك من أجل  الوصول إالي محطة تكوين الحكومة الإنتقالية .

إجمالا يمكن القول أن عوامل الإنفجار في جنوب السودان مازالت كامنة خلال السنوات الثلاث القادمة، طبقا للخبرات المتراكمة ،ولكن يبدو أن عصا المجتمع الدولي فاعلة في تحجيم هذه الفرص ربما حتي يمكن الوصول إالي محطة الإنتخابات الرئاسية والبرلمانية


[i] . فرض القانون قيوداً صارمة على حرية التنقل ومنع الشماليين من الإقامة في الجنوب إلا بإذن كما منع نشر اللغة العربية والإسلام كما كانت الملابس التقليدية لأهل شمال السودان تثير غضب الحكام  .

[ii] . ينتمي على عبد اللطيف أحد قادة هذه الحركة إلى قبائل الدينكا

[iii] . محمد المعتصم , جنوب السودان في مائة عام , سلسلة ملامح السودان , القاهرة , مطبعة نهضة مصر.

[iv] . آبيل آلير , جنوب السودان ” التمادي في نقض العهود والمواثيق ” ترجمة بشير محمد سعيد , شركة ميدلايت المحدودة , لندن , الطبعة الأولى ,  1992

[v] . محاضر جلسات مجلس الوزراء المصري، ١٩٥٥، ص 258-259.

[vi] . انظر تفاصيل المفاوضات فى الفصل الثانى

[vii] Mac Miechael, H.A The Sudan Ernset Benn limited,   London 1954,P 220

[viii] . أرشيف الخارجية المصرية ,  أرشيف الدول , السودان , محفظة رقم 2 , ملف رقم 7/1  

[ix] . أرشيف الخارجية البريطانية  371/108354, Telegram , No 1405, Cairo toForign

[x] -Simon Allison, Think Again: South Sudan needs new ideas,3,Aug,2016.www.issafrica.org