كتب – محمد الدابولي

نعت الرئاسة الكينية -صباح يوم الثلاثاء 4 فبراير 2020- رئيس البلاد الأسبق «دانيال أراب موي» الذي حكم البلاد لأكثر من عقدين من الزمن، كما أعلنت حالة الحداد الوطني، وبوفاة «موي» استذكر الكينيون الموالون له حالة الاستقرار السياسي التي تميز بها عهده، وعلى الجانب الآخر استذكر المعارضون له تورطه في قضايا الفساد وانتهاكات حقوق الإنسان التي لازمت فترة حكمه.

امتدت فترة حكم «موي» نحو 24 عامًا شهدت كينيا خلالها تحولات سياسية بارزة؛ أهمها التحول من نظام الحزب الواحد إلى التعددية الحزبية، كما عاصر «موي» فترة التحولات العالمية الكبرى المتمثلة في انهيار الاتحاد السوفيتي ومآلاته على دول العالم الثالث، وبزوغ استراتيجية «إجماع واشنطن» التي ربطت المساعدات التنموية المقدمة من الولايات المتحدة والمؤسسات الدولية المانحة كصندوق النقد والبنك الدولي للدول النامية بعملية إصلاح سياسي واقتصادي داخل تلك الدول؛ لذا سيتناول المقال أبرز المحطات التاريخية التي تميز بها الرئيس الراحل:

  • التنشئة السياسية

نحن أمام شخصية سياسية أفريقية فريدة نوعًا ما، فـ«دانيال أراب موي» لم يكن جنرالًا عسكريًّا تسلسل في صفوف الجيش حتى وصل إلى منصب رئاسة البلاد، ولم يكن أيضًا من الجماعة الإثنية الكبرى في البلاد «الكيكويو»؛ إذ ينتسب إلى جماعة الكالينجين التي تمثل أقلية في المجتمع الكيني.

رغم ذلك اكتسب ثقة سياسية كبرى أهّلته ليكون نائبًا للرئيس الأول لكينيا «جومو كينياتا»، ثم رئيسًا للبلاد بعد وفاة كينياتا عام 1978، ثقة «كينياتا» لم تكن هي الوحيدة التي اكتسبها «موي» حيث اكتسب ثقة سلطات الاستعمار البريطاني أيضًا، وكذلك ثقة جماعته الكالينيجين.  

بدأت خطوات «موي» السياسية والعملية بالتحاقه بإحدى المدارس المحلية «كريستيان أفريكا إينلاند ميشن» عام 1924، ثم التحق بمدرسة المعلمين وتخرج منها معلمًا، الأمر الذي أكسبه مكانة كبيرة سواء في المجتمع الكيني والسلطات الاستعمارية في ذلك الوقت، ومما عزز من أهمية موي لدى السلطات الاستعمارية كونه شخصية هادئة معتدلة وغير ثورية.

لا يمكن الجزم بأن موي كان مهادنًا للسلطات الاستعمارية بشكل تام، إذ اكتسب أيضًا ثقة الثوار والجماعات المتمردة الكينية، فقد أبدى تعاطفًا ملحوظا مع ثورة الماو ماو التي قامت بها جماعة الكيكويو في الخمسينيات، وذلك من خلال إيواء عدد من المناضلين وإخفائهم عن أعين السلطات الاستعمارية الإنجليزية.

  • في ظل كينياتا

الثقة السياسية المزدوجة التي اكتسبها «موي» أدت إلى ترقية مكانته السياسية سريعًا؛ ففي البداية تم اختياره كعضو في المجلس التشريعي الذي تشكل قبل الاستقلال باعتباره متحدثًا باسم جماعة الكالينجين، كما انضم إلى مؤتمر لندن لوضع دستور جديد لكينيا، وبعد الاستقلال عام 1964 انضم إلى حزب الاتحاد الوطني الكيني «كانو» وانُتخب أمينًا عامًّا للحزب.

قبل تولي منصب نائب رئيس الجمهورية، تولى «موي» عددًا من الحقائب الوزارية، وهما حقيبة وزير التعليم عام 1961 (قبل الاستقلال 1963) باعتباره معلمًا سابقًا، وفي عام 1964 تولى منصب وزير الشئون الداخلية ليكسب ثقة الزعيم الكيني الراحل «جومو كينياتا» الذي لم يتردد في تعيينه نائبًا لرئيس الجمهورية عام 1967 رغم عدم انتماء «موي» إلى جماعة الكيكيويو، وظل في منصبه كنائب لرئيس البلاد حتى وفاة «كينياتا» في عام 1978.

  • «موي».. رئيسًا

اختلفت فترة رئاسة «موي» عن فترة رئاسة سابقه «جومو كينياتا»؛ فالأخير تمتع بزهوة استقلال كينيا عام 1963 وما واكبها من مكاسب سياسية واقتصادية جعلته الزعيم الأول في البلاد وأحد الأيقونات الكينية التاريخية، هذا فضلًا عن انتمائه لجماعة الكيكوي كبرى الجماعات الإثنية في البلاد مما وفر له الدعم السياسي والمعنوي.

أما «موي» فكان غير ذلك، فالمكاسب السياسية والاقتصادية التي تحققت عشية الاستقلال بدأت في التلاشي، وبدأ شبح الركود الاقتصادي يضرب البلاد، بالإضافة إلى انتمائه إلى جماعة الكالينجين التي تعد أقلية في المجتمع الكيني، كل هذه العوامل أدت إلى تصاعد المعارضة السياسية لحكم موي، وتجلى ذلك محاولة الانقلاب العسكري الفاشلة التي تمت في عام 1982 على يد ضباط سلاح الجو الكيني.

يفسر المتابعون للشأن الكيني أن انقلاب 1982 الفاشل كان سببًا في لجوء «موي» إلى استخدام القمع السياسي والتنكيل بالخصوم من أجل الحفاظ على منصبه السياسي، فجراء محاولة الانقلاب الفاشل لم يلجأ موي إلى معاقبة المتسببين فيه بل قام بحل سلاح الجو بأكمله وإعادة تشكيله من جديد.

لم يشعر «موي» بالثقة تجاه رفاقه القدامى في حزب «كانو» الذين عملوا في ظل «جومو كينياتا»؛ إذ إنه فور توليه السلطة في نوفمبر 1978 عمل على إعادة هيكلة الحكومة ليضمن إبعاد العناصر التي يرى فيها تهديدًا لمنصبه السياسي، كما عمل على تهميش دور السلطة التشريعية من خلال التعديلات الدستورية وتوسيع صلاحيات منصب رئيس الجمهورية في تعيين كبار موظفي الدولة؛ مثل المدعى العام ومحافظ البنك المركزي وغيرهم، ولعل التعديل الدستوري الأبرز كان في عام 1986 الذي نقل صلاحيات البرلمان «الجمعية الوطنية» في المراقبة، ومساءلة الحكومة إلى الحزب الحاكم «كانو»؛ حيث أصبح الوزراء والمسئولون ملزمين بتقديم تقارير دورية عن أدائهم إلى الحزب وليس البرلمان.

تدل التعديلات الدستورية التي أجريت في نوفمبر 1986 عن تخوف «موي» الشديد من جماعة الكيكويو التي تمثل الجماعة الإثنية الأولى في المجتمع الكيني من السيطرة على البرلمان؛ لذا عمل على تفكيك صلاحيات البرلمان ونقلها إلى رئاسة الجمهورية أو الحزب الحاكم ليضمن عدم وجود معارضة قوية له.

  • التضاد الاقتصادي

تميز الأداء الاقتصادي لكيينا في عهد موي بالتضارب والتضاد، فمن ناحية كانت البلاد وجهة سياحية عالمية حيث رحلات السفاري الفارهة التي اشتهرت بها كينيا؛ حيث كان يفد إلى البلاد السياح من مختلف الجنسيات من أجل الاستمتاع بالمناظر الطبيعية الخلابة والحيوانات البرية، ورغم الأداء السياحي المميز للبلاد إلا أن معدلات الفقر والجوع والفساد والجريمة والبطالة كانت في اتجاه تصاعدي لتفتح بابًا كبيرًا للسؤال حول ملف الفساد في عهد «موي».

  • استغلال الأهمية الجيوستراتيجية:

 نجح «موي» خلال فترة الحرب البادرة في استغلال الأهمية الجيوستراتيجية لكينيا، حيث روج في الأوساط الغربية بأن نيروبي هي خط الدفاع الأول لمواجهة تمدد الشيوعية في أفريقيا، منطلقًا من معطيات مفادها تحول منطقة شرق أفريقيا والقرن الأفريقي في نهاية السبعينيات وبداية الثمانيات إلى بؤرة شيوعية قوية، حيث نظام الديرغ في إثيوبيا بقيادة منجستو، وأيضًا تقرب النظام السياسي التنزاني بقيادة «جوليوس نيريري» للمعسكر الشرقي، ويرجح أن كينيا لعبت دورًا مهمًّا في تحالف «نادي السفاري» الذي تشكل عام 1976 من أجهزة الاستخبارات الأمريكية والفرنسية والمغربية والمصرية والسعودية والإيرانية “الشاه” من أجل محاربة المد الشيوعي في أفريقيا.

نجح «موي» في اكتساب دعم القوى الغربية له خلال فترة الحرب الباردة حيث التقى الرئيس الأمريكي «جيمي كارتر» في عام 1978، وفي الثمانينات كانت له لقاءات متعددة مع الرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريجان ورئيسة الوزراء البريطانية «مارجريت تاتشر»، إلا أنه بعد انتهاء الحرب الباردة والتحولات السياسية التي شهدتها شرق أفريقيا[i] في أعقاب ذلك تراجعت الأهمية النسبية لكينيا ومعها تراجع حجم الدعم السياسي والاقتصادي الممنوح لنيروبي.

  • التعددية الحزبية وتوظيف الصراع الإثني

إثر تراجع الدعم الممنوح لدول العالم الثالث عقب نهاية الحرب الباردة بدِأت العديد من الدول الأفريقية وفي مقدمتها كينيا إجراء تحولات سياسية تمثلت أغلبها في اتباع نهج التعددية الحزبية ففي عام 1991 تم إجراء التحول السياسي في كينيا، وفي عام 1992 تم إجراء أول انتخابات رئاسية تعددية في كينيا.

لمواجهة تداعيات التحول السياسي في كينيا بدأ موي في اتباع سياسة تأليب الجماعات الإثنية على بعضها واستنفار جماعة الكالينجين التي ينتمي إليها، وذلك من أجل الحفاظ على منصبه كرئيس للبلاد، ففي خضم الانتخابات الرئاسية عام 1992 أسس «موي» جناح الشباب في حزب «كانو»، وهي عبارة عن ميليشيات كالينجينية مسلحة دخلت في صدامات واقتتال أهلي مع أنصار جماعة «الليو» في مارس 1992، كما دخلت في مصادمات دامية أخرى مع جماعة «الكيكويو» في ذات العام.

وفي الانتخابات التي تلتها في عام 1997 تجددت الاشتباكات مرة أخرى، وذلك بعد التقدم الذي أحرزه مرشح تحالف المعارضة «مواي كيباكي» والمنتمي إلى جماعة الكيكويو، لذا يمكن القول إن «موي» مسئول مسئولية مباشرة عن تنامي العنف الإثني في كينيا والذي تجلي بصورة واضحة عقب الانتخابات الرئاسية 2007.

  • تسليم السلطة وميراث الفساد

في خطوة أفريقية نادرة قام الرئيس «موي» بتسليم السلطة بعد انتخابات 2002؛ حيث أقرت تعديلات دستورية أجريت قبل الانتخابات بعدم السماح «موي» بالترشح فيها، إلا أنه قام بدعم مرشح الحزب الحاكم «أهور كينياتا» نجل الرئيس الراحل «جوموكينياتا»، إلا أن نتائج الانتخابات أتت بما لا تشتيه سفن «موي»؛ إذ نجح مرشح تحالف المعارضة الذي شكله نائب الرئيس الأسبق «مواي كيباكي» في الظفر بالانتخابات، ويعد «كيباكي» من أبرز المعارضين لحكم «موي» إذ ترشح أمامه مرتين منذ عام 1992.

فور تولي «كيباكي» السلطة في عام 2002، وتحت مظلة المصالحة الوطنية والعدالة الانتقالية تم تشكيل لجنة الحقيقة والعدالة والمصالحة للبحث في ملفات الفساد التي تم ارتكابها في السابق، كما تم دعوة خبراء دوليين للتحقيق في ملفات الفساد السابقة، وقدمت مجموعة الخبراء الدوليين في إبريل 2004 تقريرًا يفيد بنهب «موي» نحو مليار شلن كيني، وأن أصول عائلته تنتشر في 28 دولة، ومن أبرز ميراث الفساد في عهد موي «قضية غولدنبرغ» التي تتركز على سرقة نحو 400 مليون جنيه استرليني لتشجيع شركة صادرات الذهب والماس، رغم أن تلك الشركة وهمية وليست حقيقية.

وأخيرًا.. ورغم كثرة التقارير الكينية والدولية التي تؤكد تورط موي في العديد من انتهاكات حقوق الانسان والفساد ونهب ثروات كينيا إلا أنه لم يقدم للمحاسبة القانونية.


[i] . يمكن إجمال تلك التراجعات في التحولات السياسية التي شهدتها تنزانيا في عام 1985، حيث تنحى نيريري عن الحكم، ثم الإطاحة بمنجستو هيلا ميريام في إثيوبيا عام 1991.