حسام عيد – محلل اقتصادي

بعد عقود من الارتهان للحروب الأهلية والتي أفضت إلى تنامي معدلات الفقر والجوع، تمكنت كوت ديفوار (ساحل العاج) من التحول بوتيرة متسارعة إلى اقتصاد مزدهر وقبلة لمستثمري العالم في غرب أفريقيا.

كوت ديفوار اليوم تعتبر واحدة من أكثر الاقتصادات ديناميكية في قارة إفريقيا، حيث تتمتع بأعلى معدلات النمو في الاتحاد الاقتصادي والنقدي لغرب القارة السمراء، وفقا لتقارير التحديث الدورية الصادرة عن البنك الدولي وصندوق النقد الدولي.

بين الاقتصادات الأسرع نموًا في العالم

مع نهاية الأزمة السياسية في عام 2011، واستلام الرئيس الحسن واتارا مقاليد الحكم، بدأ الاقتصاد الإيفواري في شق طريقه إلى النمو عبر إصلاحات تحفيزية ضختها الحكومة بأكثر من 25 مليار دولار وفقًا لخطة استراتيجية خمسية هدفها وضع الاقتصاد على المسار الصحيح بين دول العالم، وهذا ما تجني البلاد ثماره اليوم.

الاقتصاد العاجي على مدى 8 سنوات يواصل أدائه السليم، فكان عام 2018 هو العام السابع على التوالي الذي تجاوز فيه معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي 7.4%.

وتعد ساحل العاج ثالث أسرع الدول نموًا في إفريقيا حيث بلغ إجمالي الناتج المحلي الإجمالي 43 مليار دولار في عام 2018.

وفي 2019، ظل الاقتصاد الإيفواري نشطًا منذ بداية العام، ويعزي “البنك الدولي” في تحديثه التاسع هذا الأداء الجيد في المقام الأول إلى استعادة زخم القطاع الخاص، والذي تباطأ في عامي 2016 و2017.

فيما توقع صندوق النقد الدولي أن يتوسع معدل نمو اقتصاد كوت ديفوار إلى 7.5% بنهاية العام الجاري.

وفي مراجعته للاقتصاد الإيفواري، أعلن صندوق النقد الدولي أن العجز في الميزانية من المتوقع أن يتقارب مع المعيار الإقليمي البالغ 3% في عام 2019.

بلد التجارة المنصفة.. الكاكاو

كوت ديفوار تعرف بأنها البلد الزراعي الأول في غرب أفريقيا، يبلغ عدد سكانها 26.2 مليون نسمة، 70% منهم دون 25 عامًا.

ويتركز 80% من نشاطها الاقتصادي في أبيدجان، والتي تعرف بالعاصمة الاقتصادية وتضم أكثر من 5 ملايين شخص.

وتعتبر كوت ديفوار من أشهر دول أفريقيا التي لطالما تكون محط أنظار العالم، فهي أكبر منتج ومصدر لـ “الكاكاو” في العالم، والذي يعرف بالتجارة المنصفة. فساحل العاج وحدها تغطي 40% احتياجات السوق العالمية، لذلك هي المتحكم ببورصة الكاكاو العالمية، فمنذ استقلالها في عام 1960، تضاعف إنتاج الكاكاو 4 مرات من 550 ألف طن متري سنويًا في 1980 إلى أكثر من مليوني طن متري في 2018.

وهذا ما جعل من الزراعة القطاع الأهم والأبرز، فهو بمثابة ثروة مدرة للدخل والعملة الصعبة لساحل العاج، ولذلك يعمل بها ثلثي سكانها بشكل عام.

ويشهد إنتاج الكاكاو وفق معايير التجارة المنصفة نموًا سريعًا في ساحل العاج أكبر منتج عالمي لهذه الحبوب، وتحظى التجارة المنصفة القائمة خصوصا على ضمان جودة الإنتاج والقدرة على تتبع العمليات المتصلة به، بتقدير كبير من جانب المستهلكين الأوروبيين والأمريكيين الذين يبدون استعدادًا لدفع مبالغ أكبر لتناول ألواح شوكولا حائزة شهادة إنتاج وفق معايير التجارة المنصفة.

وفي 2004، كانت منظمة واحدة فقط في ساحل العاج حائزة هذه العلامة. أما اليوم فقد باتت البلاد تضم حوالى مئتي تعاونية تجمع أكثر من 120 ألف جهة منتجة حائزة هذه العلامة.

ويمثل الكاكاو “الذهب البني” 10 % من إجمالي الناتج المحلي في ساحل العاج و40% من إيرادات التصدير فضلًا عن مداخيل مباشرة وغير مباشرة لحوالى خمسة ملايين شخص من إجمالي السكان.

التصنيع.. أداة لمكافحة الفقر

على غرار اليابان وقصة نجاح ثورتها الصناعية، وضعت ساحل العاج التحول إلى التصنيع الشامل والانتقال من الزراعة إلى الصناعات التحويلية والخدمية، هدفًا أمامها.

فعلى الرغم من أهمية الكاكاو للاقتصاد والمجتمع الإيفواريين، فإنه لا يلعب دوره بالكامل كمحرك للتنمية الاقتصادية. بل إن البعض يذهبون إلى حد استشهاد لعنة “الذهب البني”، لسببين على الأقل. أولًا، يعيش أكثر من نصف المنتجين تحت خط الفقر (بأقل من 1.2 دولار في اليوم). ثانياً ، كان الثمن المدفوع لتوسيع المناطق المزروعة في العقود الأخيرة هو تدمير جميع غابات البلاد تقريبًا، لينهار معها غطائها الحرجي إلى 3 ملايين هكتار اليوم.

ومن هنا رأت كوت ديفوار أن يكون تصنيع هو المفتاح للقضاء على معدل الفقر المرتفع، والبالغ بحسب “البنك الدولي” 46%.

سيكون خلق فرص العمل ميزة رئيسية لتصنيع ساحل العاج، يتدفق عبرها المزارعون الفقراء إلى الوظائف ويتلقون التدريب. في المقابل، فإنها تصبح رصيدًا قيما للشركات والصناعات المختلفة.

كما سيساهم التصنيع أيضا في استحداث وتطوير الآلات والمعدات الزراعية، ما يؤدي بدوره إلى زيادة الإنتاجية وتحسين جودة المحاصيل، ومن ثم ينتج عنها صناعة زراعية أكثر آلية تترك دخلًا إضافيًا لشراء المنتجات والخدمات، ليعود النفع على الاقتصاد ككل.

القطاع الخاص.. محرك نمو يستعيد زخمه

ومرة أخرى، أصبح القطاع الخاص المحرك الرئيسي للنمو بعد انخفاضه في عامي 2016 و2017.

ففي 2018، كثفت المؤسسات استثماراتها، في أعقاب الإصلاحات التي تهدف إلى تحسين مناخ الأعمال، وتمحور انتعاش القطاع الخاص حول ثلاثة قطاعات فقط (الاتصالات، الأعمال الزراعية، والبناء) ، على عكس الفترة 2012-2015 عندما توسعت جميع القطاعات.

وساعد زخم القطاع الخاص على تعويض التأثير السلبي للقطاع الخارجي على النمو الاقتصادي، بعد عام 2017 الاستثنائي، والذي زاد فيه عجز الحساب الجاري من 2.9% إلى 4.7% من الناتج المحلي الإجمالي، وذلك لعدم تدفق تجارة متنوعة نسبيا إلى كوت ديفوار.

ومع ذلك، تم تمويل هذه الزيادة في عجز الحساب الجاري من خلال زيادة الاستثمار الأجنبي المباشر، ولا سيما في مجال الأعمال التجارية الزراعية، وإصدار الحكومة في مارس 2018 سندات دولية تزيد قيمتها على ملياري دولار.

وسرعان ما خفضت الحكومة عجزها المالي من 4.5% إلى 4% من الناتج المحلي الإجمالي وحددت عجزًا مستهدفًا قدره 3% اعتبارًا من عام 2019، وذلك تمشيًا مع أهداف المجتمع الاقتصادي لاتحاد دول غرب أفريقيا.

قبلة مستثمري العالم بغرب أفريقيا

وللحفاظ على واحد من أسرع الاقتصادات نموًا في إفريقيا، تستثمر الحكومة أكثر من 7 مليارات دولار في البنية التحتية بين عامي 2018 و 2023.

وقد تم توجيه معظم الاستثمارات إلى العاصمة ومدينة أبيدجان الساحلية الرئيسية. وتعد شبكة القطارات والجسور المؤدية إلى أبيدجان استثمارات جارية حاليًا.

وبدوره اعتبر البنك الدولي أن طفرة البنية التحتية هي علامة على أن كوت ديفوار مستعدة لتصبح اقتصادًا ناشئًا.

وأفصحت الصين التي بلغت استثماراتها في دول أفريقيا 60 مليار دولار في 2018، عن رغبتها الحثيثة في ضخ استثمارات في قطاع السكك الحديدية في كوت ديفوار.

فيما توقعت مجموعة ستاندرد بانك الجنوب أفريقية أن تكون ساحل العاج قبلتها لتوسيع استثماراتها في دول غرب إفريقيا.

وختامًا، يمكن القول أن كوت ديفوار تظل طرفًا رئيسيًا في معظم المؤسسات القارية ذات الصلة المكرسة للتكامل الإقليمي بالقارة السمراء، فهي شريك رئيسي في سوق الكهرباء الإقليمي، ولاعب رئيسي في الأسواق المالية لاتحاد دول غرب أفريقيا الاقتصادي والنقدي.

ولا تزال توقعات المؤسسات الدولية إيجابية للاقتصاد الإيفواري على المدى القصير والمتوسط، فمسار النمو آخذ في التصاعد بوتيرة متسارعة، والعجز الحكومي يقترب من المستهدف، والصادرات تستشرف تدريجيًا أسواق العالم.. لذلك يمكن وصفها بـ”نموذج يحتذى” بتجارب النمو العالمية.