كتبت – أماني ربيع

القمر يتألق بكامل سحره، ناشرا ضوئه وسط الليل الأفريقي البهيم كماسة تبرق على فراش من مُخمل أسود ومن بعيد تتدثر الموجودات بغلالة رقيقة من الضوء القمري الوقور، بينما النيران تتراقص أمامك وحولها يلتف الرجال والنساء بملابسهن البدائية.

فجأة ينطلق ويخطفك الغناء الأفريقي الساحر، يتهادى إلى أذنيك على وقع دقات الطبول، ثم يبدأ الرقص والرقص عند الأفريقي يبدأ قبل حتى أن يعرف ما هي الموسيقى؟ رقص عشوائي هو.. مجنون.. لكنه متناغم يأسرك كالتنويم المغناطيسي.

والأجساد المغمورة بالعرق تلتمع في ضوء المشاعل، بينما التأثير المدوخ لهذا الجو يسحبك في دوار إلى إنسانيتك الأولى حتى لتجد نفسك لا إراديا وقد بدأت أنت الأخر ترقص  وترقص, ترقص حتى الحياة، أو ترقص حتى الموت.

وبرغم المآسي والحروب الأهلية والصراعات الدامية، ستجد أن  -الأفارقة- يرقصون دوما يرقصون، يرقصون فرحا بقدر ما يرقصون حزنا يرقصون حبا ويرقصون كراهية كذلك يرقصون مع الحياة ويرقصون وهم يحدقون بلا وجل في عيني الموت.

الرقص لا ينقطع والعقيرة ترتفع بغناء لا تفهمه لكنه يمس أوتار قلبك، كيكويو، زولو، ماساي، بانتو، وغيرها قبائل على اختلاف العادات واللهجات تحترف الغناء والرقص لترويض الحياة.

الموسيقى محرك الحياة اليومية

الرقص الأفريقي تعبير يخص بالأساس أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، وللرقصات الأفريقية العديد من الأنماط الموسيقية والحركات والتعبيرات تختلف من قبيلة إلى أخرى، يتم تداولها شفويا جيلا بعد جيل.

اهتمت معظم القبائل الأفريقية بالرقص والحركة باعتبارهما وسيلة اتصال هامة، وتم تمرير الكثير من التاريخ والثقافة الأفريقية عبر الأجيال من خلاله، وهو مقدمة لكل شيء في المجتمع الفريقي التقليدي، ونمطا اجتماعيا يحمل قيمة، فالأفارقة يرقصون لمساعدة الناس على العمل، أو يرقصون للثناء أو لانتقاد المجتمع، وهناك رقص للأفراح ورقص للجنائز، وهناك رقصات طقوسية روحية خاصة بممارسة العقائد والديانات.

وللرقص في كل قبيلة خصوصية لا تترجمها بالضرورة ثقافة قبيلة أخرى في هذه القارة العامرة بالإثنيات واللغات والثقافات ولكل رقصة تاريخها الخاص الذي لا يتشابك مع رقصة أخرى، ويعد إقليم غرب أفريقيا الأكثر غنى بالتنوع في مجال الرقص والموسيقى التقليدية برقصات مثل رقصة التضحية “دالاباني” و”رقصة الخصوبة ” أو “انجالادوجو”، و”رقصة الصيد ” أو “ياموسوكرو”، و”رقصة الفضيلة” وغيرها.

وهو غني بالتعبيرات الرمزية، يعتمد أحيانا على التمثيل الصامت “البانتومايم”، واللعب بقسمات الوجه، ويستخدم الراقصون الأقنعة والأزياء والرسم بحركات الجسم.

وبرغم ما يتسم به الرقص الأفريقي من عفوية في الأداء إلا أنه على الراقصين وقارعي الطبول أن يتعلموه ويدرسوا الاختلاف والتباين بين الحركات والإيقاعات المختلفة، وأن يتقنوا الرقص والأداء وغالبا ما يحصلون على التقدير من المشاهدين وينالون بركات شيوخ القرية.

والتدريب الموسيقي في المجتمعات الأفريقية يبدأ عند الولادة مع أغاني المهد، ويستمر على ظهور أقارب كل من في العمل والمهرجانات وغيرها من المناسبات الاجتماعية.

وتمثل دقات الطبول النص اللغوي الأساسي الموجه لأداء الرقص، وهي أداة هامة  في الثقافة الموسيقية الأفريقية رغم أن أكثر الأصوات المستخدمة في الغناء الأفريقي هي صوت الانسان كما في قبائل “الماساي” التي لا تستخدم الطبول وتعتمد على التنغيم بأصوات فمية.

وإلى جانب الطبول تستخدم في إيقاعات الموسيقى الأفريقية التقليدية طائفة واسعة من المواد الصلبة الرنانة مثل: الدلايات والأجراس، وتدريس الإيقاع على الأصابع ويسمى “بيانو الابهام”، والقرع بالعصي والصنوج القشية والطبول الأسطوانية والمزامير والأبواق المصنوعة من الخيزران وقرون الحيوانات بالإضافة إلى الآلات الوترية التي تم اقتباسها من الثقافة العربية مثل القيثارة والعود والقانون الفلوت والصافرات والتصفيق باليدين وختم القدم، ولكل أداة من هؤلاء قوتها الدرامية.

ولا يتم الرقص التقليدي في عزلة ويكون جزء من نشاط أوسع وفي شكل جماعي حيث يعبر عن الرغبات والقيم الجماعية بدلا من التركيز على المواهب الفردية للراقصين وقارعي الطبول، أي أنه يعبر عن اتحاد القبيلة كمجتمع ككل أكثر من تعبيرا عن الأفراد.

ولا ننسى تعزيز أدوار الأطفال في المجتمع برقصات احتفالية تمثل طقوس العبور بمناسبة بلوغ سن الرشد سواء من الشباب والنساء، وهي رقصات لإظهار قدرتهم على التحمل من خلال رقصات نشطة للغاية وكوسيلة للحكم على الصحة البدنية، وإعطاء الثقة للراقصين الذين يؤدون أمام الجميع لتعترف يهم القيبلة كرجال ونساء بالغير مما يبني شعورهم بالفخر ويعزز وجودهم في الجماعة، فالغاية الأساسية من الرقص أن يكون وسيلة للتذكير بأن كل واحد جزء من الجماعة.

الرقص والدين

بالإضافة للوظيفة الاجتماعية للرقص الأفريقي هناك أيضا وظيفة الدينية، وذلك عن طريق رقصات الاستحواذ واستدعاء الأرواح وهي هامة جدا في الديانات الأفريقية التقليدية، وتشترك أغلب هذه الرقصات في سمة واحدة هي دعوة الروح سواء أرواح الأسلاف أو قوى الطبيعة المختلفة أو أيا كان شكل الآلهة حسب كل ديانة كما في أساطير اليوروبا والفودو، حيث يتم استخدام الرقص لتكريم تلك الروح، أو لاسترضائها أو للمساعدة وطلب التوجيه.

والموسيقى حاضرة في كل لحظة مهمة في حياة الأفريقي، فهي مرتبطة بأحداث الحياة اليومية في القرية أو القبيلة من ولادة وحداد وألعاب وصلاة، وعمل وحروب وحتى الحب، وهي أيضا مصدرا للمعلومات عن طبيعة ونوع الاجتماع ، فكل إيقاع له قيمة رمزية تحمل بصمته الخاصة، وكأن الموسيقى قادرة على التحدث، وبإمكانك التمييز بين موسيقى الأعياد كالزواج وتسمية المولود الجديد أو حتى عندما يكون هناك حداد .

وبإمكانك إذا كنت على علم بهذه الإيقاعات تتبع مراحل أي احتفال تقليدي من مسافة بعيدة فحتى في المراسم الجنائزية بدءا من إعلان الوفاة مرورا بغسل الجسم والدفن وحتى نهاية فترة الحداد تتخللها إيقاعات مختلفة كما في احتفالات توجو والفودو في البلدان المطلة على خليج بنين.

وهناك مثلا رقصات الاستحواذ، حيث الآلهة تعبر عن نفسها من خلال الرقص تتقمص في شخصية الراقص وخلال ذروة النشوة يحدث الاستحواذ، حيث روح الآلهة أو الأجداد تحتل الجسد وتسلمه إلى غيبيوة عنيفة، أي أن الرقص والموسيقى يشغلان وظيفة حاسمة في تكوين رمزية العلاقة مع اللاهوت.

مثلا تقام رقصة “الجافارا” أو “رقصة الطوطم” وأصلها من بوركينا فاسو، للتضحية بشيوخ القبيلة كبار السن حيث يحمل زعيم القبيلة سكينا يدور بها على أعناق الشيوخ أتيا بحركات توحي بالذبح، وبدوره يجثو كل عجوز على ركبتيه يتلوى كأنما يحتضر ثم يجيء دور الفتيش أو الثور أو أي حيوان، وهو فتيش رمزي يذبحون وكأنه قربان بشري، أي أن هذه الرقصة ما هي إلا احتفال أو نوع من الإعداد الروحي لهؤلاء الشيوخ للحاق بالأجداد.

وهو ما يذكرنا بعادة هنود أمريكا الشمالية حين يضعون الهنود على جزيرة ثلجية عائمة في الماء ليلقون نهايتهم، وهو ما يخبرنا أن الشعوب البدائية كانت تتعامل مع الموت بكثير من الواقعية تفوق ما لدى الإنسان المتحضر فما الموت لديهم إلى مرحلة من مراحل الحياة.

الموسيقى الزرقاء

ولكي ندرك أهمية الغناء والرقص بالنسبة للأفريقي سنرى أنه حتى خلال موجة العبودية التي جرفت معها آلاف الأفارقة إلى مزارع القطن في الولايات المتحدة، قاموا بتطوير الأشكال الموسيقية والرقص التي جلبوها معهم من قارتهم الأم لتصبح بعدها تلك الرقصات والأغاني مشاعا لكل الأمريكيين، وهو ما ظهر واضحا في رقصات “هارلم” و موسيقى “البلوز” حيث بدأ الأمريكيون من أصول أفريقية بتطبيع نغمات أفريقيا الفولكلورية التقليدية في أغان شعبية لاقت رواجا كبيرا.

 والأمريكيون الأفارقة عادة كلما فاض بهم الحنين نشطت أيديهم على الأوتار ونشطت صدورهم في الأبواق حتى تحس أنهم أمة زعماؤها مطربون وقضيتها ملحنة، كما يصفهم كامل زهيري في كتابه “ممنوع الهمس”.

وتجدهم يلعبون بالنغم كما الأطفال، ينفخون في الأبواق يهدهدوك بصوت ناعم كما تفعل الأمهات لتنيم أطفالها، أغنيات عن أساطير وملاحم وحكايات تعود إلى عصر العبيد، عن الذين ماتوا وهم يهربون والذين ماتوا وهم لا يستطيعون الهرب، ومن هنا جاءت موسيقى “البلوز” التي باتت مبعثا للفخر لديهم بل ومبررا للاستعلاء على البيض، وجوهرها هو النظر إلى الماضي.

 واكتسبت آلات العزف الخاصة بموسيقى البلوز شهرة واسعة، خاصة أعمال عازف البوق الشهير “لويس أرمسترونج”،  وفي الثلاثينيات أصبح نموذج “البوجي ووجي” للعزف على بيانو البلوز شائعا ورائجا.

شهرة عالمية

وكما حمل الأفارقة ألامهم وموسيقاهم إلى أمريكا كذلك من بقى في أفريقيا عملوا على تطوير الفلكلور الفريقي التقليدي ليتناسب مع روح العصر، ما يثبت أن الموسيقى والرقص الأفريقي فن أصيل يستطيع التكيف.

هناك مثلا فرقة أصلها من جنوب أفريقيا اسمها “أسود زولولاند”، وهم مجموعة من المطربين الشباب والراقصين من “كوازولو ناتال” الذين تم تدريبهم ورعايتهم على أعلى مستوى في مجال أغاني الزولو التقليدية والرقص، والذين أثاروا إعجاب الملايين في بريطانيا وأمريكا ليصبحوا فقرات أساسية في حفلات الزفاف والمهرجانات.

وتعتبر هذه الفرقة تطورا لمجموعة من عمال مناجم الذهب المهاجرين الذين أجبروا على النزوح عن ديارهم في المناطق الريفية من خلال نظام الفصل العنصري السابق في جنوب أفريقيا يقومون خلال أوقات فراغهم بالترفيه عن أنفسهم وتذكر أسرهم  بالغناء،  وقد وجد هذا النوع من الموسيقى طريقه إلى وسائل الاعلام العالمية حيث أدرج في فيلم ديزني الشهير “الأسد الملك”.

وهناك أسلوب رقص “السيجا” الذي يعد تحفة ثقافية ثمينة لدى جزيرة موريشيوس فهو رقصتها الوطنية ويوجد أيضا في مدغشقر وجزر القمر، و يجمع بين الموسيقى والرقص التقليدي، وتعود نشأته إلى فترة الاستعمار الفرنسي لأفريقيا في القرن 19، وجاء نتاج اختلاط الثقافة الأفريقية والثقافة الغربية، عبر به العمال الذين ابتعدو عن القارة الافريقية وذهبوا لزراعة قصب السكر عن شوقهم إلى بلداتهم البعيدة على ايقاع طبل الـ “تام تام”، ويشعلون نار المخيم ويرددون الأغاني الشعبية من بلدتهم و يرقصون بشكل عفوي بلغة الكريولي التي جاءت نتيجة تقليد العمال لنطق اللغة الفرنسية حتى أبدعوا تلك اللغة الجديدة المتداولة بين العمال الأفارقة.

ومع تطور العصر تشكّل رقص “سيجا” تدريجيا، وانتشر بسرعة وسط العمال المهاجرين حتى أصبح ثقافة عامة في جزيرة موريشيوس، يجسد حياة الناس اليومية وبيئة معيشتهم بأسلوب واقعي، وتتميز موسيقاه بقوة الإيقاع وحماسته  والحركات الراقصة الحرة، وتأتي ألحانه الموسيقية العالية والقوية تعبيرا عن روح الطبيعة البرية، وعادة ما يبدع المغنون الممتازون كلمات الأغاني ارتجالا دون كتابتها مقدما .

مخاوف الاندثار

ورغم أن الرقص والغناء التقليدي ما زالا يمارسان إلى الآن وهناك مدارس في أفريقيا وخارجها لتدريسها، إلا أن ذلك لم يمنع  تأثير زحف التحضر والثقافة الغربية وطغيان نمط الحياة العصرية إلى تلاشي المعارف والممارسات الموسيقية التقليدية، وتشوهه معالمها الأصيلة.

كما تواجه الموسيقى والرقص الأفريقي بعض المصاعب أهمها امتناع جيل الشباب عن تعلم الطرق والأساليب الموروثة القديمة، ومن هنا تظهر الحاجة إلى توثيق المعارف التي يملكها كبار السن في المجتمعات المحلية الأفريقية لحمايتها، فقد يؤدي عدم تناقل هذه المعارف التقليدية للأجيال اللاحقة، وموت أحد أصحابها إلى اختفاء نظام كامل من المعارف والتقاليد، بما لها من دور هام في توثيق التاريخ والحضارة الأفريقية عبر العصور، وكجزء من الهوية الأفريقية الثقافية.