كتب – محمد الدابولي

لم تُمهل رصاصات التمرد التشادي الرئيس الـمُعاد انتخابه حديثا إدريس ديبي؛ فبعد يوم من إعلان فوزه بولاية سادسة -في الانتخابات التي أجريت في الحادي عشر من إبريل 2011- أعلن الجيش التشادي وفاة الرئيس المنتخب إثر إصابته خلال المواجهات مع المتمردين المتمركزين شمال البلاد.

يُسطير الخوف  حاليا على العاصمة التشادية نجامينا، وتجلى ذلك في ترتيبات الحكم والسلطة في مرحلة ما بعد «إدريس ديبي»؛ إذ تم إقصاء المسارات الدستورية والقانونية التي تحكم عملية انتقال السلطة في حالة عجز الرئيس أو وفاته، حيث تم تشكيل مجلس عسكري انتقالي بقيادة الجنرال «محمد كاكا» نجل الرئيس الراحل، كما تم حل الحكومة والبرلمان، وهو ما رفضته الجماعات المتمردة واصفة تشاد بأنها ليست ملكية يتم فيها توريث السلطة للأبناء.

تطورات الأوضاع حاليا في  نجامينا ما زالت حُبلى بالأحداث في ظل الحرب الدائرة بين الجيش والمتمردين، واحتمالية سيطرة المتمردين على العاصمة نجامينا وإسقاط النظام السياسي الذي بناه إدريس ديبي، خاصة في ظل تواتر الأنباء والإشاعات حول ملابسات وفاة ديبي واحتمالية تعرضه لمحاولة انقلاب من داخل الجيش، وكذلك الإشاعات المتناثرة حول محاولة اغتيال محمد كاكا قائد المجلس العسكري الجديد.

استمرارية الصراع الداخلي

منذ استقلالها عن فرنسا في عام 1960 تشهد تشاد حالة حرب أهلية متواصلة عالى خلفية أبعاد إثنية وإقليمية ودينية؛ إذ تعتبر الأقاليم الشمالية المتاخمة للحدود مع ليبيا موطنا للتوتر وعدم الاستقرار السياسي في البلاد، وكانت سببًا في اندلاع الحرب الأهلية الليبية التشادية في ثمانيات القرن العشرين.

ورغم انتماء إدريس ديبي دينيا وإقليميا وعرقيا إلى قبيلة الزغاوة التي تقطن شمال تشاد إلا أن ذلك الإقليم ظل يؤرق نظام ديبي منذ توليه السلطة في بداية التسعينيات وإلى لحظة وفاته في أبريل 2021، ففي عام 1998 بدأ تمرد مسلح بقيادة وزير الدفاع الأسبق «يوسف توغويمي» إلا أنه ظل محدودا حتى عام 2003.

في ذلك العام اندلع نزاع في إقليم دارفو السوداني المتاخم للحدود مع تشاد، مما أعطى زخما كبيرا للجماعات المتمردة التشادية التي تلقت الدعم والسلاح من الحكومة السودانية في ذلك الوقت بقيادة الرئيس المعزول عمر البشير، وكان ذلك سببا في قطع العلاقات بين البلدين.

ونجحت ميليشيات المتمردين -في ذلك الوقت- في تحقيق نجاحات كبرى، وأرغمت الجيش التشادي على التراجع إلى حدود العاصمة التي كادت أن تسقط في أيدي المتمردين مرتين الأولى في عام 2006 حينما قامت ميليشيات الجبهة المتحدة للتغيير  بحصار نجامينا في 13 إبريل 2006 ولكن الدعم الفرنسي حال دون سقوط العاصمة، وبعدها قامت نجامينا بقطع علاقاتها مع الخرطوم في 14 أبريل 2006، والمرة الأخرى كانت في 2 فبراير 2008 لكنها فشلت أيضا بسبب الدعم العسكري الفرنسي لنظام الرئيس إدريس ديبي. 

وساهمت اتفاقية السلام التشادية السودانية في يناير 2010 في استعادة نجامينا ضبط الأمور على حدودها الشرقية مع السودان وتحجيم قوى المتمردين قليلا، إلا أن حالة الهدوء بدت في التلاشى مع تطور التغييرات السياسية في السودان في عام 2019، إذ أقدم أحد فصائل المتمردين «اتحاد قوى المقاومة» على شن هجوم خاطف على العاصمة نجامينا  منطلقا من الأراضي الليبية، إلا أن سلسلة من الغارات الفرنسية شنتها طائرات عملية برخان على مواقع وتمركزات المتردين أسفرت عن تراجع تلك الميليشيات ومنع سقوط العاصمة، ووقتها بررت وزارة الدفاع الفرنسية تدخلها في الأزمة الداخلية التشادية بأنها تسعى لاستقرار المنطقة باعتبار أن تشاد هي ركن أساسي في الحرب على التنظيمات الإرهابية سواء في إقليم الصحراء أو في إقليم غرب أفريقيا.

هل تأخر الدعم الفرنسي

خلال المحاولات السابقة للجماعات المتمردة في السيطرة على العاصمة والإطاحة بنظام إدريس ديبي، تدخلت فرنسا -تقريبا ثلاث مرات تقريبا- لأجل دعم النظام السياسي، والحيلولة دون سقوط نظام ديبي، إلا أنه مؤخرا نجحت الجماعات المتمردة في استهداف الرئيس ديبي، مما يوحي بتخاذل أو تباطؤ فرنسي في الدفاع عن الرئيس الراحل.

ففي الفترة الأخيرة نجحت الجماعات المتمردة «جماعة التغيير والوفاق» في بسط سيطرتها على مقاطعتي تيبسي وكانم شمال العاصمة نجامينا والمتخامتين للحدود مع ليبيا، إذ تستغل الجماعات المتمردة حالة الفراغ الأمني في ليبيا من أجل الإعداد لهجمات متتالية على مواقع الجيش التشادي في شمال البلاد، مما دفع بالرئيس الراحل إلى قيادة العمليات العسكرية بنفسه لصد المتمردين وهو ما تسبب في وفاته.

 لذا فالجميع ينتظر حاليا موقفا فرنسيا واضحا تجاه الأزمة في نجامينا وحتى هذه اللحظة لم تتدخل فرنسا لدعم المجلس العسكري الجديد بقيادة نجل ديبي.

ويرجح أن تكون الأزمة الحالية في تشاد داخلة في إطار التجاذبات الدولية والإقليمية بين فرنسا والعديد من القوى الكبرى والإقليمية، فخسارة فرنسا لديبي موجعة تضاف إلى سجلّ خسائرها في منطقة الساحل خاصة بعد الإطاحة بإبراهيم أبوبكر كيتا في مالي العام الماضي، وتعاظم الدور الروسي في مالي وأفريقيا الوسطى على حساب الدور الفرنسي.

 وخلال عملية التمرد في فبراير 2019 وجهت تشاد اتهامات إلى تركيا وقطر بالوقوف وراء جماعات التمرد المنطلقة من ليبيا، لذا من المرجح أن يكون التمرد الأخير الذي نجح في القضاء على حياة الرئيس إدريس ديبي يتماشى مع سياسة الاستقطاب والتجاذب الدولية في منطقة الساحل بين الدول الكبرى والإقليمية.

 انسداد الأفق السياسي

يعود السبب المباشر في اندلاع الأزمة التشادية الأخيرة إلى انسداد الأفق السياسي في البلاد وانعدام أي وسيلة لتحقيق التداول السلمي للسلطة، فمنذ اعتلائه السلطة في عام 1990 حرص ديبي على بقائه في السلطة أمد الدهر من خلال سلسلة من الإجراءات مثل التضييق على المعارضة والمنافسين المحتملين، وهو ما تم في الانتخابات الأخيرة، فالحرب الأهلية التشادية (2005 – 2010) اندلعت بسبب تعديل الدستور التشادي في عام 2004 الذي يسمح بزيادة مدد تولي رئاسة الجمهورية إلى سبع مدد رئاسية أي بقاء الرئيس في منصبة 42 عام تقريبا.

سيناريوهات خطيرة

ما زال العالم حاليا يعيش حالة من الذهول إزاء وفاة الرئيس التشادي بتلك الطريقة، فخسارته كانت مفجعة بكل المقاييس الإقليمية والدولية، إذ لعب الرئيس الراحل دور رمانة الميزان في التوازنات الإقليمية، فخلال فترة حكم الرئيس المعزول عمر البشير للسودان كانت تشاد -برئاسة ديبي- بمثابة جدار عازل في مواجهة السودان، وساهمت نجامينا بشكل كبير في بلورة أزمة دارفور التي ظلت تلاحق أزمة نظام البشير حتى نهايته، كما لعب ديبي دور الحارس القوي في منطقة الساحل وغرب أفريقيا، وذلك من خلال سرعة استجابته لمواجهة التهديدات الإرهابية، وأبرز السيناريوهات المقلقة وهي كالتالي:

  • تزايد احتمالية فشل الدولة التشادية: من المرجح أن تزيد الحرب الدائرة حاليا في البلاد إلى مزيد من إضعاف قدرات الدولة المركزية في نجامينا مما يحول البلاد إلى دولة فاشلة تتقاسمها الجماعات والميليشيات المسلحة، وهو ما يعني فرصة سانحة للجماعات الإرهابية في توسيع مضمار عملياتها بشكل كبير ليشمل الأراضي التشادية بالإضافة إلى مالي، وفي حال تحقق تلك النقطة ستزيد الأعباء العسكرية والأمنية على الجانب الفرنسي الذي يتولى مهمة مواجهة الإرهاب في منطقة الساحل منذ الأزمة في مالي عام2012 .
  • خسارة حليف إقليمي في مواجهة الإرهاب: تحيط الجماعات الإرهابية بتشاد شمالا وجنوبا، فشمالا تنتشر تنظيمات القاعدة ونصرة الإسلام والمسلمين، وجنوبا -وتحديدا في محيط بحيرة تشاد- تنشط بوكو حرام، لذا كانت تشاد يقظة لمواجهة تمدد الجماعات الإرهابية، ففي 2013 -على سبيل المثال- دعمت عملية السرفال الفرنسية في مالي وشاركت فيها بمهاجمة المتشددين شمال مالي عام 2013، وتعد جزءا أساسيا في مجموعة قوة الساحل التي تشكلت لتنسيق العمليات العسكرية والأمنية في مواجهة تمدد نصرة الإسلام والمسلمين، وعندما اشتد عود جماعة بوكو حرام في عام 2015 كانت تشاد حاضرة بقوة في مواجهة الحركة في تشاد والكاميرون والنيجر ونيجيريا.
  • تأزم الأوضاع في أفريقيا الوسطى: منذ بدء الألفية الجديدة أولى الرئيس الراحل إدريس ديبي اهتماما غير عادي بالأوضاع في أفريقيا الوسطى نظرا للاكتشافات البترولية التي تم اكتشافها في المنطقة الحدودية مع أفريقيا الوسطى والتي مكنته بعد ذلك من تدشين خط أنابيب نفط تشاد الكاميرون في عامي (2000 – 2003) لتدخل بذلك تشاد إلى قائمة الدول الأفريقية المصدرة للنفط، لذا كان إدريس ديبي حاضرا تقريبا في جميع أزمات أفريقيا الوسطى بدءا من  مساعدة فرانسوا بوزيزي على اعتلاء السلطة في عام 2003 مرورا بالحرب الأهلية في البلاد، لذا فمن المحتمل أن ترجح الأزمة التشادية الحالية فشل العملية السياسية في أفريقيا الوسطى التي تدخل حاليا في حالة تمرد رافضة لنتائج الانتخابات الأخيرة.
  • من ساحل المتوسط إلى ساحل تشاد: بالاضطرابات الأخيرة في نجامينا يمكن القول إن المسافة بين ساحل البحر المتوسط في ليبيا وحتى ساحل بحيرة تشاد باتت منطقة غير مُؤَمّنة بالكامل، وقد يساهم ذلك في ذبذبة الاستقرار الهش في بعض الدول كليبيا والسودان، فكلا البلدين نجح بشق الأنفس مؤخرا في إعادة ترتيب أوضاعه الداخلية، ولا تحتمل الدولتان أي أزمات إقليمية، لذا يرجح في الحالة الليبية تزايد خطر الجنوب الليبي الذي تنشط به بعض الجماعات الإرهابية الموالية لتنظيم داعش التي من المحتمل أن تستغل الفراغ الأمني في تشاد من أجل توسيع نفوذها، أما السودان فستنكأ الأزمة الحالية جراح أزمة دارفور والتي حاولت الحكومة الانتقالية الحالية وضع حد لها بتوقيع اتفاق جوبا الأخير إلا أن المتغير الجديد في تشاد قد يساهم في تغير مواقف بعض القوى والميليشيات السودانية التي قد ترى أن وفاة ديبي فرصة مناسبة لإعادة ترتيب أوراقها من جديد.