كتبت – شاهيناز جلال

ميريام ماكيبا.. مناضلة ضد العنصرية، ومغنية وكاتبة أغان، وناشطة في مجال حقوق الإنسان، من جنوب أفريقيا تردد اسمها كثيرًا مؤخرًا، وعاد الحديث عن مسيرتها إلى الأضواء، واستعراض تاريخها النضالي ضد التمييز العنصري، وذلك بعد انتشار الأغنية الشهيرة “ماكيبا” في جميع أنحاء العالم والتي أصبحت تريند صيف 2023، فهذه السيدة تعتبر بصمة نضالية، ونموذجًا لقصة كفاح مليئة بالمتاعب والإصرار ضد التمييز العنصري.

من هي ميريام ماكيبا؟

اسمها الحقيقي أوزنزيل، والذي يعني بلغة الزولو “لا تلومن إلا نفسك”، أما اسم الشهرة فهو “ميريام ماكيبا”، وقد أُطلق عليها بعد احترافها الغناء، ولدت في مارس 1932  بجوهانسبرج في جنوب أفريقيا، عاشت في صغرها طفولة بائسة وفقيرة، فسجنت والدتها وكانت ماكيبا تبلغ من العمر آنذاك ثمانية عشر يوما، وقضت معها في السجن الأشهر الستة الأولى من حياتها، وتوفي والدها في سن السادسة من عمرها، واضطرت للعمل بعد وفاته في العمالة المنزلية لتساعد أمها في تدبير المعيشة، وتزوجت مبكرًا في سن الـ17 عاما، ولكن زواجها لم يستمر طويلًا فانفصل عنها زوجها بعد عامين، بسبب علمه بإصابتها بمرض السرطان، وخلال هذه الزيجة أنجبت منه طفلتها الوحيدة “بونجي”.

واتجهت ماكيبا للغناء وحققت شهرة واسعة، واستطاعت الوصول للعالمية بسهولة حيث جمعت في أغانيها الغناء بلهجات بلادها والإنجليزية، ومن خلال فنها تمكنت من توصيل قضية شعبها ضد الاستعمار الاستيطاني، لجميع أنحاء العالم وإلى الأمم المتحدة.

موهبتها الغنائية

اشتهرت منذ صغرها بجمال صوتها وحبها للغناء، فكانت تغني في المدرسة، والحفلات، والأعراس وانتقلت لتغني بعد ذلك في بعض الفرق المحلية، وكانت أمها تشجعها باستمرار على تعلم أصول الغناء للدخول إلى عالم الفن، واتجهت للغناء الاحترافي في الخمسينيات من القرن الماضي، فالتحقت بفرقة “مانهاتن براذرز” ثم بفرقة “سكايلاركس” النسائية، واستكملت مسيرتها الغنائية في الولايات المتحدة، لتصدر أول ألبوم منفرد لها عام 1960، وتتوالى بعد ذلك ألبوماتها، وتحقق ماكيبا شهرة عالمية، فأصدرت 30 أسطوانة، ومن أشهر أعمالها أغنية “باتا باتا” ، وكانت أغانيها لها طابع خاص فكانت تجمع بين موسيقى الجاز، والموسيقى الأفريقية الشعبية، وأخذ الحديث عن العنصرية التي تحدث في بلدها قسطًا وافرًا من أغانيها؛ حيث كانت جنوب أفريقيا خاضعة لنظام الفصل العنصري وفق تشريع قانوني صدر عام 1948، فكانت تحت حكم الأقلية البيضاء لمدة 50 عامًا، واتسم فنها بأنه كان يحمل طابعًا سياسيًّا ومناهضًا لحكومة الأقلية البيضاء ” نظام الأبارتايد”، وهو نظام عنصري طبقي بين أصحاب البشرة البيضاء والبشرة السمراء؛ حيث يظن البيض أنهم الأفضل وأن لونهم يمنحهم رخصة لاستعباد السود داخل أوطانهم.

سحب الجنسية

في عام 1959 توجهت إلى مهرجان البندقية السينمائي في إيطاليا، لحضور عرض الفيلم الوثائقي المشاركة فيه عن انتهاكات نظام الفصل العنصري بعنوان «عودي إلينا يا أفريقيا»، الأمر الذي أثار ضدها غضب السلطات في جنوب أفريقيا، ومنعها من دخول البلاد مرة أخرى، وتم تجريدها من جنسيتها ونفيها خارج البلاد، وحظر إذاعة أغانيها، لتبدأ ماكيبا سنوات من الألم والبعد عن وطنها امتدت إلى 30 عامًا.

وبالرغم من سحب الحكومة جنسيتها، إلا أنها مُنحت جنسية فخرية من 10 دول أخرى، وحازت على 9 جوازات سفر؛ تكريمًا لمواقفها النضالية المشرفة، واتجهت في البداية للعيش في الولايات المتحدة، وهناك انضمت إلى “حركة الحقوق المدنية” ضد التمييز العنصري، وأدلت بشهادتها أمام لجنة الأمم المتحدة الخاصة لمناهضة الفصل العنصري حول النظام الحاكم والمحنة السياسية التي يعيشها السود في بلدهم، وطالبت بفرض عقوبات اقتصادية على الحكومة في بلادها، وحظر إدخال الأسلحة لجنوب أفريقيا، فأصبحت رمزًا للنضال ضد الفصل العرقي، وحازت على جائزة جرامي الغنائية، لتصبح أول أفريقية تحصل على هذه الجائزة.

لكن سرعان ما فقدت ماكيبا الدعم من الولايات المتحدة التي ألغت تأشيرتها، بعد زواجها من ستوكلي كارمايكل، زعيم حزب الفهود السود (المناهض ضد العنصرية في أمريكا) في عام 1968، والذي كان سببًا كافيًا لاضطهادها وإخراجها من البلاد، لتتجه بعد ذلك لمواصلة كفاحها في غينيا، ثم انتقلت للعيش في بروكسل بعد انفصالها عن زوجها ووفاة ابنتها الوحيدة هناك.

لم تعد إلى موطنها الأصلي إلا في عام 1991 بعد إطلاق سراح الزعيم “نيلسون مانديلا” ،الذي أقنعها بالعودة بعد سقوط نظام الفصل العنصري، متوليًا رئاسة البلاد ليصبح أول رئيس أسود في تاريخ جنوب أفريقيا، وعينت لاحقًا في عام 1999 سفيرة للنوايا الحسنة لجنوب أفريقيا بالأمم المتحدة.

أنا حرة في الجزائر

بعد طردها من بلادها احتضنت الجزائر الأيقونة ماكيبا، ومنحتها حق اللجوء، فهناك التقت بالرئيس الجزائري الراحل هواري بومدين، وحضرت احتفالات ذكرى ثورة التحرير، ومنحت الجنسية الجزائرية التي ظلت محتفظة بها حتى وفاتها، وتم إطلاق بعد ذلك جائزة باسمها تخليدًا لذكراها.

وأنشدت ماكيبا أول أغنية لها باللغة العربية عام 1972 في الجزائر في ذكرى استقلالها في حفل كبير وكان اسم الأغنية الشهيرة «أنا حرة في الجزائر.. انتهى عهد العبيد» من كلمات الفنان الجزائري مصطفى تومي، والتي حيت فيها نضال شعب الجزائر ضد الاستعمار الاستيطاني.

وفاتها

توفيت أسطورة الغناء في أفريقيا عام 2008، عن عمر يناهز 76 عامًا، إثر أزمة قلبية بعد إحيائها حفلًا خيريًّا في إيطاليا، لتنتهي بذلك مسيرة واحدة من أشهر المطربات في القارة السمراء، وأول مطربة أفريقية تحصل على شهرة عالمية في الخمسينيات، استطاعت خلال مشوارها الفني تقديم الموسيقى الأفريقية إلى العالم كله، وكرست فنها وأغانيها لتعريف العالم بمعاناة أبناء وطنها من الاستعمار ونظام الأبارتايد، ودفعت ثمن الدفاع عن قضية وطنها بالنفي خارج البلاد طيلة 30 عامًا، حتى إنها لم تستطع الرجوع لبلادها لحضور جنازة أمها، وقال عنها المناضل نيلسون مانديلا ناعيًا إياها “كانت السيدة الأولى للغناء في جنوب أفريقيا، موسيقاها أعادت الأمل داخلنا” وساعدته كثيرًا لتجاوز محنته داخل السجن.

لقب “ماما أفريقيا”

كانت أسطورة الغناء في جنوب أفريقيا رمز للمقاومة ولكل حركات التحرر في القارة السمراء، فكانت أغانيها مصدر إلهام وحماس لهم لمقاومة المستعمر والخلاص منه والمطالبة بالعدالة الاجتماعية، واستطاع صوتها القوي أن يجوب العالم لتوصيل رسالة ضد التمييز بين البشر في القارة الأفريقية، فكان العالم يراها أمًّا للنضال في القارة السمراء، فاستحقت أن تنال لقب “ماما أفريقيا”، حيث كانت رمز للمقاومة والحرية، وأحد أهم الأصوات المناهضة في وجه النظام القمعي في بلادها، ولم تتوقف عن النضال من أجل خدمة قضيتها.

قصة الأغنية الأكثر انتشار “ماكيبا”

أطلقت المطربة الفرنسية جاين ألبومها الأول عام 2015، وكانت أغنية “ماكيبا” الشهيرة من بين أغانيه، وقامت جاين بكتابة كلمات الأغنية والتي تحتفي فيها بمسيرة ماما أفريقيا ماكيبا؛ تخليدًا لذكراها، وتشير الأغنية إلى معاناة الأيقونة الأفريقية مع العنصرية، وأصبحت هذه الأغنية تريند لصيف 2023، وتعدت مشاهدات الأغنية الرائجة 100 مليون مشاهدة، وانتشرت بشكل كبير على مواقع التواصل الاجتماعي لتصبح أشهر أغنية يرقص عليها العالم الآن، وأشعلت موسيقى الأغنية الحماسية وإيقاعها اللافت السريع تحديًا راقصًا على منصة “تيك توك”، ويوجد حاليًّا أكثر من مليون مقطع فيديو يستخدم مقدمة الأغنية الشهيرة كخلفية صوتية للمقاطع الصغيرة، فأصبحت الأغنية تحظى بشعبية كبيرة في جميع أنحاء العالم، لتظل رسالة “ماكيبا” حية في أذهان العالم كله في الرفض القاطع للعبودية والتعصب وتقسيم البشر إلى ألوان ومجموعات عرقية.

**تقول كلمات الأغنية:

 “أريد أن أراك تغني، أريد أن أراك تقاتل لأنك الجمال الحقيقي لحقوق الإنسان.. لا أحد يستطيع التغلب على ماما أفريقيا، فقط ابتسامتها يمكن أن تزيل معاناة ألف آخرين من المضطهدين…….”.