أماني ربيع
“هناك 800 مليون نسمة من فقراء العالم الثالث محكوم عليهم بالموت المبكر بسبب سوء السكن، هؤلاء هم زبائني” (م/ حسن فتحي)
قد يعتقد البعض أن الهندسة المعمارية مرتبطة فقط بالخطوط الجامدة والحديد والمواد الأسمنتية، لكن بعض رواد المعمار، ومنهم المهندس المصري حسن فتحي، تعاملوا مع العمارة باعتبارها فنًّا نابعًا من فكر هدفه الأول خدمة الناس والمجتمعات ومنحهم ما يحتاجونه من راحة، وخلق رابطة من الانتماء بينهم وبين السكن الذي يعيشون فيه.
خلال مسيرته، لم يكن حسن فتحي مجرد مهندس معماري، فكان فنانًا وشاعرًا ومثقفًا عالميًّا يتمتع بمعرفة واسعة بالأدب والفلسفة، وتمكن من استيعاب وهضم التقاليد والثقافات المختلفة، وتأثر كثيرًا بأساليب البناء في مصر القديمة والأنماط الهندسية للعمارة الإسلامية، وخرج منها بأسلوب جديد خاص به في تصميم منازل البسطاء بالريف المصري. كرَّس حسن فتحي موهبته وخبراته لبناء مساكن للفقراء في الدول النامية، وكان جوهر فلسفته المعمارية هو أسلوب البناء المستمد من البيئة المحيطة، وبناء بيوت بأسعار معقولة معتمدًا على مواد محلية في البناء مثل الطوب الطيني، واستخدام أساليب التبريد الطبيعية.


مهندس الفقراء
ارتبطت باسم حسن فتحي، مفاهيم معمارية مثل “عمارة الفقراء” و”عمارة الطين”، بسبب استخدامه لأساليب ومواد التصميم القديمة، بالإضافة إلى درايته بالوضع الاقتصادي في الريف المصري، وقام بتدريب السكان المحليين بالريف على صنع المواد الخاصة بهم، وبناء بيوتهم بها.
حاول “مهندس الفقراء”، وهو اللقب الذي اشتهر به، من خلال أسلوبه استلهام أفكار وطرق بناء استخدمها المصريون طوال تاريخهم الطويل ومزجها مع العمارة الإسلامية ليخرج في النهاية بنموذج فريد ثري وغني بالأصالة رغم بساطته، وتعد مشاريعه إشادة بالطبيعة والتقاليد والإنسان، وهو ما يميزه كرائد معماري بعيدًا عن المفهوم التقليدي للمهندس المعماري الحديث.


ولد حسن فتحي في مطلع القرن العشرين، قرن التغيرات الجذرية والتطور التكنولوجي المتسارع، وشهدت مدينة الإسكندرية ميلاده في عام 1900، وتخرج من كلية الهندسة المعمارية بجامعة الملك فؤاد (جامعة القاهرة حاليًا)، القاهرة عام 1926، وبعد التخرج عمل مهندسًا بالإدارة العامة للمدارس بالمجالس البلدية. بدأ فتحي التدريس في كلية الفنون الجميلة عام 1930 وصمم أول أعماله المبنية من الطوب اللبن في أواخر الثلاثينيات، وفي عام 1953 ترأس القسم المعماري بكلية الفنون الجميلة عام 1954، بعد انتهاء العمل في قرية القرنة الجديدة بالأقصر.
كانت المهمة الرئيسية التالية لفتحي هي التصميم والإشراف على بناء المدارس لوزارة التربية والتعليم المصرية، لكن في عام 1957، شعر بالإحباط من بيروقراطية الحكومة، وانتقل إلى أثينا للتعاون مع المخططين الدوليين تحت إشراف كونستانتينوس دوكسياديس. دافع فتحي عن استخدام الطاقة الطبيعية التقليدية في المشروعات المجتمعية الكبرى للعراق وباكستان، وقام برحلات وأبحاث موسعة لبرنامج “مدن المستقبل” في أفريقيا.


من الأقصر إلى أمريكا
بعد عودته إلى القاهرة عام 1963، انتقل إلى درب اللبانة، بالقرب من قلعة صلاح الدين بالقاهرة، حيث عاش وعمل بقية حياته، وتُعد قرية القرنة أشهر أعماله، وبخلاف هذا المشروع، صمم نحو 160 مشروعًا آخر، أولها كان مدرسة طلخا الإبتدائية. وصلت تصميماته إلى الولايات المتحدة الأمريكية حيث صمم مسجدًا ومدرسة من الطوب واللبن بمركز تعليمي في قرية دار السلام بولاية نيو مكسيكو الأمريكية. تم إنتاج وتصميم جزء كبير من أعمال فتحي في الاستوديو الخاص به في قصر علي أفندي في دار اللبانة، وبعد وفاته عام 1989، تم تحويل منزله، إلى متحف للتصميم أطلق عليه اسم “بيت العمارة المصرية”.


التأسيس لمفهوم العمارة الخضراء

أسلوب حسن فتحي يُعد نموذجًا فريدًا للعمارة البيئية أو “العمارة الخضراء”، وهو المفهوم المعماري الذي انتشر بشدة خلال السنوات الماضية نتيجة لتأثيرات التغيرات المناخية التي جعلت الإنسان بحاجة للعيش والتكيف مع طقس متطرف. وهذا المفهوم ليس جديدًا كما قد يعتقد البعض، وقد ظهر بالفعل في الحضارات القديمة؛ حيث كان الإنسان لا يزال يحاول التأقلم مع الحياة في بيئته واستخدام المواد الموجودة حوله في بناء مسكنه، فضلا عن انتهاج أساليب بناء تتناسب مع طبيعة البيئة التي يعيش فيها وطبيعة الطقس والرياح والحرارة والمطر والشمس.


ويُعد هذا التفاعل الإيجابي بين الإنسان والعمارة مع البيئة مظهرًا رئيسيًا للحضارة الإنسانية. و”العمارة الخضراء” التي كرَّس حسن فتحي نفسه لتطبيق أساليبها قبل أن تُعرف كمفهوم معماري، أصبحت في عالم اليوم غاية ضرورية، وليست ترفًا خاصة مع تأثير سلوكيات الإنسان وأنماط العمارة الجديدة سلبًا على البيئة، وهدفها هو تقليل هذا التأثير السلبي من إسراف في استخدام الطاقة واستنزاف الموارد الطبيعية وتلويث البيئة، وهو ما ينعكس أيضًا على صحة الإنسان. وكان فتحي ضمن قلائل دعوا إلى تحسين نمط المعيشة في الريف ببناء بيوت قليلة التكلفة ومن مواد محلية، وطبق من خلال فلسفته أساليب بناء تهتم بالاستدامة، وبإنشاء مساكن مريحة للناس حرارتها مناسبة في الصيف والشتاء، إلى جانب الحفاظ على هوية البيئة المحيطة.
وكان أساس تصميم المنزل وفقًا أسلوبه هو: الفناء الداخلي، ملقف الهواء، القبة والقبو، الطين، أما هدفه فكان البسطاء من أهل الريف الذين ليست لديهم الأموال الكافية لبناء مساكن واسعة، فكانت تصميماته تقدم أبنية اقتصادية التكلفة ذات بعد جمالي تحافظ على صحة من يسكنها، وتحافظ على البيئة كذلك.


قرية القرنة الجديدة
ربما تكون قرية القرنة الجديدة، التي تم بناؤها جزئيًا بين عامي 1945 و1948، هي الأكثر شهرة بين جميع مشروعات فتحي بسبب الشعبية العالمية لكتابه “عمارة الفقراء”، الذي نُشر بعد ما يقرب من عشرين عامًا على التجربة، كانت الغاية من المشروع تأمين مسكن بديل لأهالي قرية القرنة القديمة بالأقصر على ضفاف نهر النيل. بدأ التخطيط للمشروع في منتصف ثلاثينيات القرن العشرين في وقت كان فيه الأهالي في الأقصر يعيشون على بيع آثار مصر القديمة والمومياوات التي يعثرون عليها في المقابر المحيطة بهم، إلى أن قررت السلطات نقل أهالي المنطقة لقرية جديدة لكي تبدأ بعثات التنقيب الأثرية عملها في اكتشاف الآثار والحفاظ عليها وتوثيقها.
سعى حسن فتحي خلال وضع تصميماته للقرية الجديدة في تقديم نموذج بإمكانه التكيف مع عوامل الطبيعة والطقس والرياح التي قد تؤدي لتآكل الجدران بمرور الوقت، واختار الطين لبناء البيوت، واستلهم طريقة بناء الأسقف المقببة من العمارة الإسلامية، بينما صمم نوافذ على شكل المشربيات لتوفير تهوية جيدة داخل الغرف، بينما بُنيت الجدران بسُمك كبير لكي يحفظ المنزل بعيدًا عن تغيرات الطقس، فيكون المنزل دافئًا في الشتاء وباردًا في الصيف.
قدم فتحي نموذجًا لقرية كاملة، فإلى بجانب 70 بيتًا، كان هناك مسجدًا وسوق ومسرح بُني على الطراز الروماني، ومدرسة للبنات وأخرى للذكور، بجانب مدرسة للحرف اليدوية التي تشتهر بها المنطقة، ومنحته الحكومة المصرية في عهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر في عام 1959، جائزة تكريمًا لمشروعه.


محمية أثرية
وبعد مرور عقود على بناء القرية تسبب الإهمال في انهيار العديد من معالمها مما هدد باندثار مشروع حسن فتحي الكبير، وفي عام 2021 انتبهت الحكومة المصرية للقرية التي تعد إرثًا معماريًا فريدًا وتعاون الجهاز القومي للتنسيق الحضاري مع مكتب منظمة اليونسكو بالقاهرة في مشروع لإحياء القرية وتطويرها وترميمها، إضافة إلى تحسين الأحوال المعيشية لسكانها.
وبفضل هذا المشروع، الذي انتهى في 30 نوفمبر عام 2021، تحولت القرنة الجديدة إلى محمية أثرية وأصبحت مزارًا لأساتذة وطلاب الهندسة المعمارية من كل مكان خاصة مع وجود مركز متخصص للعمارة المستدامة، كما أصبحت أيضًا وجهة سياحية مفضلة للعديد من عشاق العمارة والتراث من شتى بقاع العالم.


مؤلفاته
كان لحسن فتحي العديد من المؤلفات في مجالات مختلفة أبرزها: “متابعات علمية في الثقافة الغذائية والطبية”، ويتناول فيه مخاطر العادات الغذائية الضارة على صحة الإنسان، والأمراض التي انتشرت نتيجة لهذه العادات، وكتاب “الطاقات الطبيعية والعمارة التقليدية” وفي مجال الأدب كتب قصتين هما: “مشربية” و”يوتوبيا” تلخصان هاجسه في فن العمارة والبيئة، وفي عام 1969، نشر فتحي في طبعة محدودة كتابًا وثق فيه لمشروعه بالقرنة، وشرح خلاله أبعاد ومراحل مشروعه المعماري بالتفصيل مدعومًا بالتجربة الحية التي عاشها خلال بناء القرية، وأصبح تأثير الكتاب عالميًا في عام 1973 بعدما حصل على عنوان إنجليزي جديد هو “العمارة للفقراء”.


جوائز وتكريمات
حصد حسن فتحي على العديد من الجوائز خلال مسيرته الحافلة، منها: جائزة الدولة التشجيعية للفنون الجميلة عن تصميم وتنفيذ قرية “القرنة الجديدة”، عام 1959، وجائزة الآغا خان للعمارة عام 1980، وفي نفس العام حصل على جائزة “بلزان” للعمارة والتخطيط الحضاري، وفي عام 1987، فاز بجائزة لويس سوليفان للعمارة من الاتحاد الدولي للبناء والحرف التقليدية، ونال جائزة برنامج الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية عام 1989.
وكان فتحي عضوًا بالمجلس الأعلى للفنون والآداب في مصر، وعضو شرف بمركز الأبحاث الأمريكية في القاهرة، وعضو شرف بالمعهد الأمريكي للعمارة، وعضو لجنة تحكيم جائزة الآغا خان في العمارة. وقد أطلقت مكتبة الإسكندرية ولجنة العمارة بالمجلس الأعلى للثقافة جائزة باسم حسن فتحي، وبحسب الموقع الإلكتروني للمكتبة، فهدف الجائزة هو الارتقاء بالعمارة المصرية المعاصرة، ونشر الوعي الثقافي بالعمارة وأهميتها في المجتمع، وكذلك تشجيع وتكريم المهندسين المعماريين المصريين.


وهكذا خلال مسيرة طويلة وحافلة كان حسن فتحي، الذي يعتبره الكثير من خبراء الهندسة والعمارة أشهر مهندس مصري منذ عهد إمحوتب، صاحب رؤى جديدة ورائدة للتطور المعماري في مصر والمنطقة العربية.