كتب – محمد الدابولي

قام رئيس الوزراء المصري الدكتور مصطفى مدبولي بزيارة رسمية إلى جمهورية السودان، صبيحة يوم السبت الموافق 15 أغسطس 2020، التقى خلالها بنظيره السوداني الدكتور عبدالله حمدوك، وتناول الجانبان العديد من الملفات المشتركة؛ كالتعاون الاقتصادي في مجالات النقل والتجارة والصناعة والتدريب والصحة وغيرها من المواضيع، فضلًا عن تناول القضية الرئيسية التي تشغل البلدين، وهي أزمة مفاوضات سد النهضة بين مصر والسودان وإثيوبيا.

زيارة مدبولي للسودان هي أول زيارة يقوم بها رئيس وزراء مصري إلى السودان عقب الإطاحة بنظام عمر البشير، كما أن توقيت الزيارة يحمل العديد من الدلالات والرسائل حول مستقبل العلاقة بين الجارتين؛ فالزيارة تأتي في ظل تعثر  مفاوضات سد النهضة واتجاه إثيوبيا لاتخاذ مواقف أحادية في ملء وتشغيل السد، وتأتي أيضًا في ظل احتفال السودان بالذكرى السنوية الأولى للتوافق السياسي وتشكيل الحكومة الحالية، وأخيرًا جاءت الزيارة بعد تصريحات وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو بتأييده طرح إزالة السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، كما أنها تُعدّ أول زيارة خارجية يقوم بها رئيس الوزراء المصري بعد جائحة كورونا، كما حملت زيارة مدبولي للسودان العديد من الرسائل الإيجابية المؤثرة على تطور العلاقات بين الجانبين، خاصة في شقها الاقتصادي والتنموي، ومن أبرز تلك الرسائل:

  • تعزيز البعد التنموي في العلاقات المصرية السودانية:

غلب الطابع الاقتصادي والتنموي على زيارة مدبولي للخرطوم بداية من الوفد المرافق، والذي ضم وزراء التجارة والصناعة والكهرباء والصحة والسكان والموارد المائية، وأثمرت الزيارة التزام البلدين بتعزيز انسياب حركة التجارة بين البلدين عبر المنافذ البرية والموانئ البحرية على البحر الأحمر.

وتمخضت الزيارة عن إمكانية تعزيز حركة النقل والمواصلات بين الجانبين عبر إعادة هيكلة وادي النيل للملاحة للنهرية، وتنفيذ مشروع ربط السكك الحديدية بين البلدين، وأخيرًا تفعيل اللجنة الفنية الدائمة السودانية المصرية والدعوة إلى انعقادها في الخرطوم خلال الأيام المقبلة.

  • تعزيز التنمية البشرية:

لم تغفل زيارة مدبولي مسألة تعزيز التنمية البشرية بين مصر والسودان؛ إذ عرضت مصر مراجعة عمل القوافل الطبية المصرية للسودان، وإمكانية استفادة السودان من حملة الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي في معالجة مليون إنسان أفريقي من فيروس سي، فضلًا عن إمكانية علاج مصابي ثورة ديسمبر 2018 السودانية في المستشفيات المصرية.

وإكمالًا لمسألة التنمية البشرية ورفع كفاءة المواطنين في كلا البلدين تم الاتفاق على تبادل المنح الدراسية  على مستوى الدراسات العليا والبكالوريوس لتقدم السودان 100 منحة دراسية للطلاب المصريين للدراسة في الجامعات السودانية وفي المقابل ستقدم القاهرة 200 منحة دراسية للطلاب السودانيين في جامعة الأزهر، كما تم الاتفاق على تدشين برنامج خاص للتأهيل المهني والتقني بين البلدين وإنشار برامج متخصصة لهذا الغرض، وستقوم الوكالة المصرية للشراكة من أجل التنمية بتغطية تكاليف تلك البرامج.

  • الربط الكهربائي

لعل أبرز ما تناولته زيارة مدبولي هو اتفاق الجانبين على زيادة قدرة مشروع الربط الكهربائي بين الجانبين من 70 ميجا وات إلى 300 ميجا وات، وتم الاتفاق على إطار زمني لتحقيق ذلك، وتعطي مسألة رفع قدرة مشروع الربط الكهربائي بين الجانبين إلى 300 ميجا وات ميزة تفاوضية للجانب السوداني في مواجهة إثيوبيا التي طالما أغرت السودان بشبكة ربط كهربائي ناتجة عن سد النهضة قدرتها 200 ميجا وات، ففي محاولة لاستمالة الموقف السوداني ضاعفت إثيوبيا في 8 يونيو 2020 كمية الكهرباء المصدرة إلى السودان لتصل إلى 200 ميجا وات.

  • تفكيك الخطاب العدائي:

خلال الأشهر الماضية دأبت العديد من وسائل الإعلام الإثيوبية وصفحات التواصل الاجتماعي الإثيوبية الموجهة باللغة العربية على خلق خطاب عدائي بين السودان ومصر، حيث تم تصوير القاهرة بأنها غير مبالية بالمصالح السودانية وتسعى إلى استغلال السودان، وأنها لم تدعم عمليات التحول الديمقراطي، كما أن التحركات المصرية في السودان يغلب عليها الطابع الاستخباراتي والأمني.

لذا جاءت الزيارة الأخيرة بكل ما تحمله من حزم تعاونيةً في مجالات النقل والاقتصاد والتعليم والصحة والتدريب والربط الكهربائي تدحض المقولات المعادية لمصر بأن القاهرة غير مبالية بالشأن السوداني وتسعى لزعزعة الأوضاع في البلاد.

  • التضامن المشترك:

تجلى التضامن المصري السوداني في الشهور الأخيرة في العديد من المسائل والتي أبرزت روح المودة والإخاء بين البلدين، فمع تفشي أزمة كورونا في العالم أرسلت مصر مساعدات طبية إلى الخرطوم شملت أدوات طبية تعيين الأطباء السودانيين على مواجهة الجائحة، واستمر التضامن المصري مع السودان في أزمة السيول التي تتعرض لها البلاد حاليًا؛ إذ سيرت القوات المسلحة المصرية مؤخرا طائرتي نقل عسكريتين إلى الخرطوم لمواجهة الأثار السلبية الناجمة عن السيول والتي تسببت في مقتل 36 شخص وتشريد آلاف الأسر السودانية وتدمير عشرات القرى وآلاف المنازل في 18 ولاية سودانية.

  • دعم عملية التحول الديمقراطي

تأتي زيارة مدبولي في ظل الذكرى السنوية الأولى للاتفاق بين القوى السياسية السودانية على إدارة المرحلة الانتقالية، كما قدم مدبولي تهنئة مصر للشعب السوداني بذكرى توقيع الوثيقة الدستورية في 4 أغسطس 2019، ويدل هذا التصرف على دعم القاهرة لعملية التحول السياسي والديمقراطي في البلاد، وليس كما كان يروجه البعض في الشهور الأخيرة بأن القاهرة لم تكن متحمسة للوثيقة الدستورية السودانية.

وفي إطار تدعيم عملية التحول الديمقراطي في السودان دعم الوفد المصري المطالب السودانية بضرورة إزالة اسم السودان من القائمة الأمريكية للدول الراعية للإرهاب وذلك لتسريع عملية اندماج السودان في الأسواق العالمية والاستفادة من مؤسسات التمويل الدولية.

وجديرا بالذكر أن وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو صرح بضرورة إزالة السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، إلا أن وزارة الخزانة الأمريكية أكدت أن السودان ما زال في القائمة نظرًا للاختلاف بين السودان وأمريكا حول قيمة التعويضات المخصصة لضحايا تفجير سفارتي الولايات المتحدة في نيروبي ودار السلام عام 1998، حيث قام تنظيم القاعدة الذي كان يتخذ من السودان مقرًّا له بضرب السفارتين.

  • رسالة ضمنية إثيوبيا:

رغم أن الزيارة شملت تعزيز مناحي التعاون الاقتصادي بين الجانبين إلا أنها في ذات الوقت حملت رسائل متعددة إلى الجانب الإثيوبي، تمت الإشارة إليها؛ مثل مسألة الربط الكهربائي، ولكن أبرز نقطة ورسالة هي اتفاق الجانبين -أي مصر والسودان- على ضرورة التوصل لاتفاق مُلزم لملء وتشغيل السد بما يحقق مصالح الدول الثلاث، وأيضا الاتفاق على ضرورة التوصل لآلية فاعلة لتسوية المنازعات والتنسيق بين الدول الثلاث بما يضمن سلامة كافة المنشآت المائية التي قد تتأثر بسد النهضة، وأخيرًا تأكيد رفض مصر والسودان اتخاذ أي إجراءات أحادية من أي دولة قبل التوصل لاتفاق ملزم ومُرْضٍ للأطراف الثلاثة.

لذا يدل التأكيد الأخير على فشل المحاولات الإثيوبية السابقة في استمالة الموقف السوداني لصالح السياسات الإثيوبية؛ فالسودان في أكثر من سياق عبّر عن حيادته وحرصه على مصالحه ومصالح مصر وإثيوبيا دون إلحاق ضرر ذي شأن بأي طرف.