كتب – د. رأفت محمود محمد
خبير في قضايا أمن الممرات الملاحية والشأن الأفريقي
تقع منطقة البحر الأحمر وخليج عدن في قلب الكتلة الجغرافية التي تمتد من مضيق جبل طارق مرورًا بقناة السويس والبحر الأحمر ثم مضيق باب المندب وخليج عدن ومضيق هرمز والخليج العربي وبحر العرب، وكأنها كتلة جغرافية واحدة، فالتهديدات الأمنية التي تطال جزءًا منها تطال باقي أجزاء الممر المائي.
كذلك تميزت المنطقة بوجود العديد من القوميات والثقافات والديانات وبها أكثر من تجمع جغرافي، ويجمعها أكثر من رابط سياسي، مثل: مجلس التعاون الخليجي وجامعة الدول العربية، بالإضافة إلى الاتحاد الأفريقي.
ولعل ما حدث للسفينة “أيفر جريفين” عندما جنحت وأغلقت الممر الملاحي لقناة السويس فتأثرت التجارة الدولية، وتعطلت سلاسل التوريد، وارتفعت الأسعار في البورصات العالمية، أعاد التذكير بالواقع الجغرافي والاستراتيجي الذي يشغله ذلك الممر البحري[1].
وتاريخيًّا حاولت دول المنطقة وضع أطر تعاونية تحفظ الأمن في المجرى الملاحي إلا أن السياسات المختلفة المتخذة من قبل دول المنطقة لم ترتق في مواقفها إلى مستوى المخاطر التي يتعرض لها هذا الممر الاستراتيجي، وتأتي مبادرة مجلس الدول المطلة على البحر الأحمر وخليج عدن في عام 2020م لتعلن عن استمرار رغبة دول المنطقة في العمل على الحفاظ على أمن واستقرار المجرى الملاحي، وبما يستدعي معه رصد وتقييم تلك التجارب، وأبرز التحديات التي واجهتها واستعراض النماذج الدولية الناجحة ومقومات تحقق الأمن وتعظيم العوائد الاقتصادية في ظل نظم الأمن الإقليمي البحري، وهو ما سيتم استعراضه كالتالي:
أولًا: أبرز تجارب دول المنطقة والمنظمات الدولية والإقليمية لإقامة أطر ونظم أمنية في البحر الأحمر وخليج عدن.
- مؤتمرات جدة في أعوام 1956م – 1972م – 1976م – 1985م.
في عام 1956 تقدمت مصر بمبادرة في إطار سياستها المضادة للأحلاف العسكرية[2]، والتي شملت العمل على ضمان أمن البحر الأحمر بواسطة الدول المشاطئة له، وعُرفت بميثاق جدة، وضمت المبادرة المملكة العربية السعودية، مصر، واليمن.
وفي عام 1972م احتضنت مدينة جدة مؤتمرًا لإيجاد آلية للعمل والتنسيق بين الدول المطلة على البحر الأحمر للمحافظة على أمن البحر الأحمر وثرواته، وقد شاركت فيه السعودية واليمن ومصر والسودان وإثيوبيا قبل انفصال إريتريا، ثم عُقد مؤتمر جدة عام 1976م، والذي أبرمت فيه الدول المشاطئة للبحر الأحمر الاتفاقية الإقليمية للمحافظة على بيئة البحر الأحمر وخليج عدن وتم اختيار جدة مقرًّا لهذه المنظمة الإقليمية.
وفي عام 1985م عُقدت ندوة بمدينة جدة بهدف بناء استراتيجية شاملة لمكافحة القرصنة في البحر الأحمر[3]، وربط مصالح الدول العربية المشاطئة للبحر الأحمر ارتباطًا يبرر ضرورة السعي من أجل إقرار استراتيجية عربية شاملة موحدة للحفاظ على أمن البحر الأحمر.
2 – مؤتمرات احتضنتها دولة اليمن.
في عام 1977م انعقد مؤتمر “تعز” من أجل تعزيز التعاون بين الدول المطلة على البحر الأحمر وخليج عدن[4]؛ حيث تم التوقيع على اتفاقية إنشاء مركز إقليمي في صنعاء ليتولى التنسيق بين دول المنطقة المطلة على البحر الأحمر وخليج عدن، ووضع استراتيجية تهدف إلى تعريب أمن البحر الأحمر باعتباره بحرًا عربيًّا؛ نظرًا لأن معظم الدول المطلة عليه دول عربية، إلا أن تصادم مصالح الدول الكبرى أجهض المشروع اليمني.
وفي عام 2002م تم إنشاء تجمع صنعاء[5]، وقد كان أحد أهم أهداف التجمع الحفاظ على السلام والأمن والاستقرار في القرن الأفريقي ومنطقة البحر الأحمر، إلا أن هذا التجمع لم يحقق الأهداف التي أنشئ من أجلها؛ حيث إن التحديات كانت أكبر من قدرات دول التجمع ولم تُفعَّل اللجان التي أُنشئت لتحقيق أهدافه.
3 – مبادرات رعتها مصر للحفاظ على الأمن في البحر الأحمر وخليج عدن.
في نوفمبر 2008م عُقد لقاء القاهرة التشاوري[6] من أجل التباحث حول أفضل السبل لمعالجة ظاهرة القرصنة[7] بعد أن اتسعت وانتشرت في البحر الأحمر وخليج عدن، وقرر اللقاء أن المسؤولية الرئيسية لأمن البحر الأحمر تقع على الدول العربية المطلة عليه وقدرتها على تأمين حركة الملاحة فيه ومواجهة كل ما يهدده.
وفي عام 2017م قامت مصر بتدشين قيادة الأسطول الجنوبي لمصر، وجاء قرار تدشين قيادة الأسطول الجنوبي بالقرب من مضيق باب المندب بعد افتتاح قاعدة برنيس العسكرية الواقعة على البحر الأحمر، وامتلكت مصر بالفعل ميزة استراتيجية نسبية تؤهلها لأن تكون رقمًا فاعلًا في معادلة البحر الأحمر، كما تُمكنها من فاعلية الوجود العسكري بالبحر الأحمر بالتعاون مع الشركاء الإقليميين حال تطلب الأمر ذلك[8].
4 -أبرز مبادرات المنظمات الإقليمية والدولية لحفظ الأمن في البحر الأحمر وخليج عدن.
عُقد في نيروبي العاصمة الكينية المؤتمر الدولي المعني بالقرصنة حول الصومال[9] في 11/12/2008م برئاسة كل من حكومة كينيا وممثل الأمم المتحدة المعني بالصومال وشاركت فيه الجهات الفاعلة الإقليمية، ورحب ذلك المؤتمر بالجهود التي تبذلها الدول الأعضاء والمنظمات على صعيد المنطقة لإقامة وسائل التعاون في مكافحة القرصنة، وعقد المشاركون العزم على التعاون فيما بينهم ومع المنظمات الإقليمية والدولية لمكافحة القرصنة في البحر والتصدي لأسبابها الجذرية على البر.
وفي عام 2009م تم تدشين مدونة جيبوتي المتعلقة بقمع القرصنة والسطو المسلح في غرب المحيط الهندي وخليج عدن[10]، ودخلت حيز النفاذ في 29 يناير 2009م، وتَمثَّل الغرض الرئيسي من هذه المدونة في تحقيق سير العمليات المشتركة سواء فيما بين الدول الموقعة على المدونة أو مع القوات البحرية من بلدان خارج المنطقة بما يُسهم في الاعتقال والتحقيق والملاحقة القضائية للأشخاص الذين يُشتبه في ارتكابهم لأعمال القرصنة والسطو المسلح ضد السفن، بما في ذلك مصادرة السفن المستخدمة في أعمال القرصنة[11].
وفي عام 2009م تم عقد اجتماع قادة القوات البحرية لدول الخليج والدول المطلة على البحر الأحمر، وعُرف هذا الاجتماع لاحقًا بإعلان الرياض، والذي أعلن الدعوة إلى إنشاء قوة بحرية عربية من دول مجلس التعاون الخليجي والدول العربية المطلة على البحر الأحمر، واستبعاد البحر الأحمر من أي ترتيبات دولية خاصة لمكافحة القرصنة البحرية باعتبار أن أمن البحر الأحمر يقع تحت مسؤولية الدول العربية المطلة عليه وأن تكون المملكة العربية السعودية ممثلة بقيادة البحرية السعودية المنسق لتلك القوة البحرية.
5 – مجلس الدول العربية والأفريقية المُطلة على البحر الأحمر وخليج عدن – 2020م[12].
يعد هذا المجلس أحدث المبادرات التي تم تدشينها لحفظ الأمن في البحر الأحمر وخليج عدن، وتم الإعلان عن المجلس بمدينة جدة السعودية، وقد اكتسب أهمية كبيرة في ظل التهديدات الإيرانية المتزايدة للملاحة البحرية خاصة في مياه البحر الأحمر وخليج عدن، وتزايد التهديدات التي قامت بها جماعة الحوثي التي يتم دعمها من إيران لتهديد المجرى الملاحي والمملكة العربية السعودية.
ويضم المجلس الدول المتشاطئة بالبحر الأحمر وخليج عدن وهي 8 دول عربية وأفريقية وتتمثل في السعودية، مصر، الأردن، السودان، اليمن، إريتريا، الصومال، وجيبوتي.
وركز هذا المجلس على الحفاظ على الأمن في المجرى الملاحي وتعزيز التعاون الاقتصادي بين دول المجلس لتحقيق التكامل والربط بين خطوط النقل والموانئ البحرية، وزيادة حجم التبادل التجاري بحيث تشكل منطقة البحر الأحمر تكتلًا متماسكًا وقادرًا على تأمين حرية الملاحة بالبحر الأحمر.
ثانيًا: أهم نماذج التعاون الإقليمي البحري الناجحة في العالم.
هناك نماذج لتعاون الحكومات على المستوى الإقليمي تمت برعاية منظمة الملاحة الدولية(IMO) [13]، ويمكن استعراض تلك النماذج كالتالي:
- التعاون الإقليمي في البحر الأسود – تم توقيعها يوم 25 يونيو عام 1992م[14].
منطقة البحر الأسود هي منطقة جغرافية متميزة غنية بالموارد الطبيعية وتحتل موقعًا استراتيجيًّا على مفترق الطرق بين أوروبا وآسيا الوسطى والشرق الأوسط، وتضم منظمة التعاون الاقتصادي في منطقة البحر الأسود 12 دولة: ألبانيا، أذربيجان، بلغاريا، أرمينيا، اليونان، جورجيا، مولدافيا، رومانيا، روسيا، تركيا، أوكرانيا، وصربيا، ويقع مقر المنظمة في العاصمة التركية.
وتستهدف المنظمة تعزيز التجارة والاستثمار في منطقة البحر الأسود ودعم النمو والتنمية الاقتصادية في منطقة البحر الأسود من خلال تعزيز التكامل الاقتصادي الإقليمي بين الدول الأعضاء في منظمة البحر الأسود.
2 – نموذج التعاون الإقليمي في المحيط الهندي – 2008[15].
يُعتبر المحيط الهندي عقدة مواصلات وشريان نقل الطاقة الذي يربط المحيط الهادئ بالمحيط الأطلسي وهو يصل آسيا وأفريقيا وأستراليا ببعضها، وقد سبق لأحد قادة البحرية البريطانية أن شبَّه – في مطلع القرن العشرين – مضايق دوفور وجبل طارق وقناة السويس وملقا ورأس الرجاء الصالح بـ “المفاتيح الخمسة التي تقفل العالم والمحيط الهندي”، ويتحكم فيها ثلاثة مفاتيح هي قناة السويس ومضيق ملَقَا ورأس الرجاء الصالح.
ويعد المنتدى خطوة مهمة من أجل أمن الملاحة البحرية، وذلك بناء على نتائج اجتماع قادة القوات البحرية لمعظم الدول المطلة على المحيط الهندي الذين اجتمعوا آنذاك في العاصمة الهندية نيودلهي، وقد وفر الميثاق الصادر عن هذا المنتدى إطارًا لتعزيز التفاهم المشترك في الشؤون البحرية التي تواجهها الدول المطلة على المحيط الهندي.
3 – منظمة التعاون الاقتصادي لدول بحر قزوين.
في أعقاب قيام منظمة التعاون الاقتصادي لدول البحر الأسود، وجهت إيران الدعوة للدول المطلة على بحر قزوين وهي: أذربيجان، وتركمانستان، وقازاقستان، وروسيا الاتحادية، لتشكيل منظمة تعاون دول بحر قزوين لتُعنى بالتعاون بين هذه الدول من أجل استثمار واستغلال ثروات وموارد البحر وتنظيم شؤون الملاحة فيه.
وقد انعكس التنافس الإيراني التركي من أجل بناء نفوذ وملء الفراغ السياسي في منطقة آسيا الوسطى على إثر تفكك الاتحاد السوفيتي من أجل إقامة تجمعات إقليمية لا تشمل عضويتها الطرف الآخر[16] على دفع إيران للدعوة لبناء ذلك الإطار التعاوني في بحر قزوين.
ثالثًا: التحديات التي واجهت إقامة نظام أمنى إقليمي لحفظ الأمن في البحر الأحمر وخليج عدن.
تعاني دول المنطقة من ضعف القدرات العسكرية، والتي تتمثل في محدودية الأساطيل البحرية، وعدم وجود تعاون بيني حقيقي بين هذه الدول، بالإضافة إلى أن معظم دول المنطقة تعتمد على المعونات العسكرية والاقتصادية التي تأتيها من القوى الدولية الكبرى.
أيضًا أثَّر عدم الاستقرار السياسي والأمني لدى بعض الدول المطلة على البحر الأحمر مثل الحالة الصومالية[17] واليمنية والتي تم توظيفها من قِبل قوى إقليمية مثل إيران لتحقيق مصالحها في ضوء صراعاتها مع قوى إقليمية في المنطقة كالمملكة العربية السعودية ومصر وإٍسرائيل، ودولية كالولايات المتحدة الأمريكية.
فالدولة الإيرانية، والتي لها تاريخ في توظيف الممرات الملاحية لتحقيق مصالحها، دائمًا تقوم بتهديد الملاحة في الخليج العربي والتحكم في مضيق هرمز، قامت بتوظيف الممر الملاحي للبحر الأحمر لتحقيق مصالحها مع القوى الإقليمية والدولية التي تتصارع معها[18]، سواء بواسطتها أو من خلال جماعة الحوثي بالوكالة عنها.
أيضًا الصراعات بين دول المنطقة وتناقض المصالح بينها يعد أحد أسباب عدم الاستجابة لمهددات الأمن في المنطقة[19]، وعرقلت قيام أُطر تعاونية لحفظ الأمن في البحر الأحمر كالصراع اليمني الإريتري حول جزر حنيش[20]، والإثيوبي الإريتري الذي أثر على الأمن في الممر البحري[21].
كذلك حالة الانقسام التي شهدها النظام الإقليمي العربي في عام 1990م نتيجة حرب الخليج بسبب الاحتلال العراقي للكويت ثم قيام حرب الخليج الثانية؛ حيث انقسمت الدول العربية، والتي منها دول مشاطئة للبحر الأحمر وخليج عدن، حول التعامل مع الأزمة ما بين دول عربية مؤيدة أو متعاطفة مع دولة العراق، بما حد من حالة التوافق بين دول المنطقة حول الأمن به بالبحر الأحمر.
وقد أسهم الصراع العربي الإسرائيلي في الحد من نجاح مبادرات التعاون لحفظ الأمن في منطقة البحر الأحمر وخليج عدن، خاصة بعد تجربة إغلاق مضيق باب المندب في وجه الملاحة الدولية بواسطة القوات البحرية المصرية[1].
وفي مقابل الضعف الأمني لدول المنطقة، فقد سيطر التفوق العسكري على المنطقة خاصة من قبل القوى الكبرى والإقليمية؛ حيث أدى الوجود الأمريكي العسكري المكثف إلى حالة هيمنة أمنية واستراتيجية على المنطقة.
فالذين يمتلكون النفط في الخليج وينتجونه لا يملكون وسائل حمايته وتأمينه وحراسة طرق إمداداته، بينما أولئك الذين يستهلكونه هم القادرون على ذلك بما لديهم من قدرات عسكرية وتكنولوجية واقتصادية، والتي سارعت إلى إقامة قواعد عسكرية في المنطقة ومنها ما خالف عقيدته العسكرية مثل الصين التي أنشأت قاعدة عسكرية في جيبوتي عام 2015م[22]، وهو ما يتناقض مع سياستها التقليدية التي تتجنب منافسة الولايات المتحدة الأمريكية في مجال بناء قدرات عسكرية قوية يتم نشرها حول العالم.
رابعًا: تداعيات فشل إقامة منظومة أمنية في البحر الأحمر وخليج عدن على أمن الملاحة في البحر الأحمر وخليج عدن.
على سبيل المثال ونتيجة أعمال القرصنة وتهديد المجرى الملاحي؛ فقد أخذ التدخل الدولي لحماية المجرى الملاحي يتزايد خلال السنوات الماضية؛ حيث تم استدعاء الوجود الأجنبي تحت الشرعية الدولية لحماية المجرى الملاحي[23].
أيضًا في ضوء منزلة البحر الأحمر في الفكر الاستراتيجي العالمي؛ فكان من الطبيعي أن تشمله الحرب الباردة بأنواعها، وبانتهاء الحرب الباردة وزوال أحد قطبيها وهو الاتحاد السوفيتي كدولة عظمى، أسهمت المتغيرات الدولية والإقليمية اللاحقة مثل الصراعات بين القوى الإقليمية بالمنطقة كالصراع العربي الإسرائيلي والإيراني العربي الإسرائيلي، وكذلك الصراع الدولي بين العالم الغربي والصين وروسيا في جعل المنطقة بؤرة صراع وتنافس وليس استقرارًا وأمنًا لصالح دول المنطقة والعالم [24].
ويعد فقدان الاستفادة المشتركة لثروات المجرى الملاحي إحدى نتائج الفشل في تفعيل المبادرات المختلفة لدول المنطقة لحفظ الأمن والاستقرار فيه؛ فقد عقدت العديد من الاتفاقات بين دول البحر الحمر وخليج عدن بغرض الاستفادة المشتركة من ثروات المنطقة إلا أن معظمها لم يُفعَّل بسبب عدم وجود منظومة أمنية مشتركة تحمي الاستثمارات في هذه الثروات البحرية.
وفي الإجمال فقد تم السعي على فرض واقع التعامل مع البحر الأحمر بعيدًا عن المفهوم العربي أو حتى الأفريقي للأمن والتعاون أو حتى وضع أُطر إقليمية تتيح استبعاد إسرائيل بحكم الأغلبية العربية المطلة على البحر الأحمر[25].
خامسًا: مقومات تحقق الأمن والمصالح المشتركة في ضوء مبادرة ميثاق تأسيس مجلس الدول العربية والأفريقية المطلة على البحر الأحمر وخليج عدن 2020[26].
تتوافر في منطقة البحر الأحمر وخليج عدن جميع المؤشرات التي تجعلها نموذجًا إقليميًّا ناجحًا يحقق أهداف ومصالح دول المنطقة سواء كانت أمنية أو اقتصادية، وإن النماذج البحرية التي اعتمدت على التعاون والتفاهم بين الدول في العديد من المناطق البحرية، قد أسهمت في تحقيق قدر من الأمن، بل وتعزيز وتشابك المصالح المختلفة للدول المنضمة للإقليم البحري، مما يُرجح معه استخدام نظام الإقليم البحري خاصة أن القانون الدولي قد حفز مثل هذا التعاون، مثل اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار وشؤون المحيطات لعام 1982، والتي نصت في المادة 123 على تعاون الدول المشاطئة لبحار مغلقة أو شبة مغلقة.
كذلك المزايا التي تتمتع بها التجمعات الإقليمية تجعلها أكثر قدرة على خدمة قضايا الأمن والسلم الإقليميين، ولعل تميز منطقة البحر الأحمر وخليج عدن بالعديد من المزايا الاقتصادية من توافر الموارد الطبيعية والأيدي العاملة والوفرة المالية في الجانب الآسيوي مما يؤهل لتكوين تجمع إقليمي يجمع شعوب المنطقة ويحقق مصالحها المختلفة.
ولنجاح نموذج التعاون الإقليمي في البحر الأحمر وخليج عدن، فإنه توجد عدة عوامل يجب توافرها حتى ينجح النموذج الإقليمي ويقوم بوظائفه تجاه الإقليم ويحقق أهدافه والتي يأتي على رأسها تحقيق الاستقرار والأمن بين دول المنطقة، وهي كالتالي:
- التوافق حول المصالح المشتركة ومصادر ومفهوم المخاطر التي تهدد مصالح الجميع في المجرى الملاحي.
فأحد أسباب فشل التجارب السابقة لحفظ الأمن في الإقليم هي عدم التوافق حول مفهوم الخطر الذي يهدد أمن المجرى الملاحي وسيطرة مفهوم الأمن القطري على التعاون والمصالح المشتركة لدول الإقليم، فإذا انشغل كل طرف بمواجهة مصادر التهديد الخاصة به والتي يمكن أن تكون ثانوية بالنسبة للمجموع؛ فإن القيادات السياسية للإقليم تعجز عن رسم سياسة أمنية واحدة تعبئ قدراتها ومواردها الوطنية (القومية والإقليمية) لمجابهتها.
لذا يجب الاتفاق بين الدول الأعضاء في التجمع الجديد على نوع المخاطر وآليات التفاعل معها، والتي استدعت تكوين المجلس الجديد.
كذلك ركز المجلس الجديد على المصالح الاقتصادية، والتي يحتم التوافق بشأنها في ضوء تمتع إقليم البحر الأحمر وخليج عدن بثروات طبيعية غير مستغلة بالإضافة إلى وجود وفرة مالية في الجانب الخليجي، وثروات طبيعية وبشرية في الجانب الأفريقي وبما قد يتيح إقامة نموذج إقليمي اقتصادي ناجح.
لذا فإن تبني حزم من المشروعات الاقتصادية بين دول الإقليم البحري تقوم على توظيف قدرات دول الإقليم المختلفة من قدرات مالية وثروات طبيعية وبشرية قد تمثل عنصر تحفيز لدول المنطقة على الحرص على نجاح المبادرة.
2 – وجود مجلس أو هيئة أمنية تختص بصياغة أدوار دول الإقليم تجاه مهددات أمن المنطقة.
تقوم هذه الهيئة بوضع السياسات الأمنية والتنسيق المشترك بين أجهزة الأمن في دول المجرى الملاحي، وهو ما يسمح بهامش من المرونة لتطبيق السياسات الأمنية في إطاره، ويضم هذا المجلس كل أجهزة إدراك مصادر التهديد وأجهزة إعداد وصناعة القرار والقيادات المسؤولة عن اتخاذ القرار.
وعلى الرغم من عدم النص صراحة على وجود قوات أمنية مشتركة للحفاظ على الأمن في المجرى الملاحي وإن كان هذا يرجع إلى أن العبء سيقع معظمه على أهم دولتين في هذا التجمع، وهما مصر والسعودية إلا أنه يمكن تفعيل آليات العمل المشترك لدى جامعة الدول العربية والاتحاد الأفريقي بحكم مصلحة المنظمتين في تحقيق الأمن في المنطقة.
ولعل وجود معاهدة الدفاع المشترك والتنسيقات الأمنية العربية، والتي تم وضعها في إطار جامعة الدول العربية، وكذلك معاهدة عدم الاعتداء والدفاع المشترك للاتحاد الأفريقي والتي تم إقرارها في أبوجا العاصمة النيجيرية كأداة لتعزيز التعاون بين الدول الأعضاء في مجالي الدفاع والأمن وخاصة تعزيز آلية منع النزاعات وإدارتها وتسويتها، يُسهل الوصول إلى آلية مشتركة لوضع الترتيبات الأمنية التي تُفعل وتحقق مصالح الأطراف المشتركة لدول المنطقة.
3 – أن يتبنى النموذج الإقليمي مفهومًا واسعًا للدولة البحر أحمرية بحيث يشمل الدول ذات المصالح القائمة في البحر الأحمر، وإن كانت لا تطل عليه مباشرة.
فالخصائص الجغرافية والجيوسياسية للممر الملاحي للبحر الأحمر وخليج عدن تجعل التنسيق مع الأطراف ذات المصلحة، سواء المطلة عليه بصفة مباشرة أو خارج نطاقه الجغرافي، من أسباب نجاح المبادرة.
فمثلًا تنخرط الصين بقوة في المنطقة سواء من خلال مشروعها طريق الحرير أو مصالحها التجارية، بالإضافة إلى دول عديدة لها مصالح في المنطقة، ولعل وجود ممثل للمنظمات الدولية كالأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي والقوى التجارية الكبرى التي تعتمد على المجرى الملاحي قد يتيح دعم القرارات الصادرة من المجلس، وكذلك شرعنة ما يتم اتخاذه من إجراءات أمام المجتمع الدولي.
4 – العمل في إطار المنظمات الإقليمية (جامعة الدول العربية – مجلس التعاون الخليجي – الاتحاد الأفريقي).
يضم المجلس دولًا تنتمي إلى عدة منظمات إقليمية وهي الاتحاد الأفريقي وجامعة الدول العربية إلى جانب مجلس التعاون الخليجي، ويمكن البناء على التعاون المشترك العربي الأفريقي بحكم الترابط العضوي بين المنطقتين لحفظ الأمن في البحر الأحمر وخليج عدن، بأن يعمل المجلس الجديد من خلال جامعة الدول العربية والاتحاد الأفريقي المعنيتين بالأمن في البحر الأحمر وخليج عدن.
هذا التحرك سيؤدي إلى الشرعنة الإقليمية والدولية لعمل المجلس الجديد، والحصول على الدعم اللازم تجاه تحركات المجلس الجديد لحفظ الأمن في البحر الأحمر وخليج عدن.
[1] د. سليمان محيي الدين فتوح، “استراتيجية الصراع الدولي للجزر الجنوبية في البحر الأحمر”، بحوث مؤتمر أفريقيا وتحديات القرن الحادي والعشرين (القاهرة : معهد البحوث والدراسات الأفريقية، 1997) ، ص 449-450.
[1] د. رأفت محمود محمد، “؟أثر التنافس الروسي الأمريكي على الوجود في السودان على أمن البحر الأحمر (دراسة)”، مركز فاروس للاستشارات والدراسات الاستراتيجية، يونيو 2021، متاح على الرابط: https://pharostudies.com/?p=7054
[2] د. بابكر عبد الله الشيخ، “نحو استراتيجية عربية لمكافحة القرصنة البحرية – رؤية مستقبلية”، ورقة بحثية قُدمت لمؤتمر جامعة نايف للعلوم الأمنية حول مكافحة القرصنة البحرية (الرياض: جامعة نايف للعلوم الأمنية، 2011)، ص 49-50.
[3] خديجة أحمد على الهيصمي، سياسة اليمن في البحر الأحمر (القاهرة: مكتبة مدبولي، 2002)، ص11.
[4] م. س.
[5] م. س.
[6] مجلس الأمن، “تقرير الأمين العام المقدم عملًا بقرار مجلس الأمن 1846(2008)”، الأمم المتحدة، رقم الوثيقة (146/2009/S)،16/3/2009، ص 4.
[7] د. بابكر عبدا لله الشيخ، م. س. ذ.، ص 49-50.
[8] شيماء البكش، “مجلس البحر الاحمر وخليج عدن.. استجابة مهمة لتحديات حقيقية”، المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية، بتاريخ: 21/1/2020، متاح على الموقع:
[9] مجلس الأمن، “تقرير الأمين العام المقدم عملًا بقرار مجلس الأمن 1846(2008)”، الأمم المتحدة، رقم الوثيقة (146/2009/S)، م. س. ذ، ص 4.
[10] م. س.
[11] د. حمدي عبد الرحمن، “تحالف البحر الأحمر وإحياء مفهوم “الأفرابيا”، مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، بتاريخ: 12 يناير 2020، متاح على الموقع: shorturl.at/diKP2
[12] shorturl.at/aCSWY
[13] وتتخذ المنظمة العالمية للملاحة البحرية سلسلة من التدابير لتحسين الأمان للسفن سواء ببناء الهياكل الثنائية أو تدريب الطواقم، وقد قادت الطريق إلى اعتماد اتفاقية بشأن تدريب البحارة وإصدار شهادات صلاحيتهم للعمل، فالمنظمة العالمية للملاحة البحرية تعمل على إقامة نظم الاتصالات التي تكفُل المزيد من الأمان في البحار، وللمزيد من المعلومات انظر:
http://www.imo.org/Pages/home.aspx
[14] Commission of the European Communities, Black Sea Synergy – A New Regional Cooperation Initiative, Communication from the Commission to the Council and the European Parliament (Brussels, 2007), p 2.
[15] lee Cordner, “Progressing Maritime Security Cooperation In The Indian Ocean”, Naval War College Review (USA: Naval War College Autumn 2011, Vol. 64, No. 4), PP. 47-75.
[16] أحمد إسماعيل السعودي، “أثر الطبيعة القانونية لبحر قزوين على استغلال ثرواته في إطار منظمة بحر قزوين”، موقع جريدة الأهرام، 1 يناير 2010، متاح على الرابط:
http://digital.ahram.org.eg/articles.aspx?Serial=96273&eid=5670
[17] International Crisis Group, Somalia’s Divided Islamists, Africa Report, No 74, 18 May 2010, p1.
[18] د. أحمد إبراهيم محمود، “الأزمة النووية الإيرانية – تحليل لاستراتيجيات إدارة الصراع”، مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية، كراسات استراتيجية، السنة الخامسة عشرة، العدد 149، 2005، ص 42-48.
[19] د. مصطفى علوي، “البحر الأحمر- مستقبل الأمن والتعاون – هلال الثروة وقوس الأزمة”، أوراق الشرق الأوسط، المركز القومي للدراسات الشرق الأوسط ص 49.
[20] ملف الأهرام الاستراتيجي، “التحكيم بين اليمن وإريتريا، ملف الأهرام الاستراتيجي”، مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية، يونيو 1996، ص 53-54.
[21] سامية بيبرس، “اتفاق التسوية بين إثيوبيا وإريتريا”، مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية، ملف الأهرام الاستراتيجي السنة السابعة، العدد 73، يناير 2001، ص 8.
[22] د. رأفت محمود محمد، “الصين مقبلة على خريف علاقاتها مع أفريقيا وأمريكا أكثر عزمًا على مواجهة التحدي الصيني، مجلة آراء الخليج، بتاريخ: 30 أغسطس 2021، متاح على الرابط:
[23] مجلس الأمن، تقرير الأمين العام عن الحالة فى الصومال، الأمم المتحدة، رقم الوثيقة (146/2009/ S )، 16 مارس 2009، ص 3-4.
[24] د. رأفت محمود محمد، “أثر التغير في أفغانستان على أمن البحار والممرات المائية”، مجلة آراء الخليج، بتاريخ: 28 سبتمبر 2021، متاح على الرابط:
[25] د. الصادق الفقيه، “المبادرة السعودية لدول البحر الأحمر.. منطق الضرورة الملحة والتعاون الممنهج”، مجلة آراء الخليج، بتاريخ: 29مارس 2022، متاح على الرابط:
[26] د. رأفت محمود محمد، الوجود الأجنبي في البحر الأحمر وخليج عدن وأثره على أمن الدول الأفريقية منذ عام 1990م، رسالة دكتوراه (جامعة القاهرة: كلية الدراسات الأفريقية العليا، 2013) ص 272 -275.