كتبت: أماني ربيع

تبدو أفريقيا على خارطة العالم كقرط نفيس يتدلى من عنق امرأة لازوردية، تلك القارة الأشبه بكنز مخبوء، مهما استخرجت من ذخائره، وجدتها لا تنفد، وإذا كان الأدب يتغذى على ميراث الأديب من البيئة والثقافة، فلا يوجد إذن أغنى من الكتاب الأفارقة الذين يعيشون على ميراث ضخم وغني من التاريخ الشفهي البديع والعادات والتراث الثقافي البكر الذي يحملنا إلى عوالم غريبة وجديدة بعيدة عن عالمنا المتحضر الشبيه بغاية وحوشها هم البشر والتكنولوجيا التي تلتهم الوقت والمخيلة ومعها تغتال الإنسانية.

وإلى جانب تراث الماضي، لدى الأديب الأفريقي ماضٍ قريب مليءٍ بالكفاح والتضحيات والدم، وحاضر مثقل بكل ما سبق، لكنه قادر رغم ذلك على غزل نسيج الكلمات في روايات وإبداع لا ينسى.

نستعرض في التقرير التالي مجموعة من أبرز أعمال الأدب الأفريقي المعاصر:

ربما لم تكن “دوريس ليسنج” أفريقية الجنسية أو المولد، لكن جذورها تمتد إلى الإنسان، الإنسان على أي صورة، أبيض وأسود، رجل أو امرأة أو طفل، لا تنحاز لأحد على حساب الآخر، عاشت جزءًا من حياتها في روديسيا الجنوبية قبل أن تصبح زيمبابوي، من طفولتها إلى شبابها كانت دوريس أشبه برحالة مع عائلتها، طافت العديد من البلدان وعرفت الكثير من الثقافات، احترفت العمل السياسي ثم تركته، وقررت أن تغيير العالم يمكن أن يتم أيضًا بالقلم، فصنعت بقلمها ضجيجًا أدبيًّا استمر لفترة طويلة.

صريحة دون مواربة تعرف ما هي قادرة عليه، وما لن تستطيعه، لكنها لا تكتم الحقيقة أبدًا مهما كانت قاسية، كانت طفولتها متقلبة بسبب تأثير سنوات الحرب وظلامها على والدها، ووالدتها المحبطة التي صبت إحباطها على طفلتها دون ذنب.

تقول ليسينج: “كان أبي يتحدث عن الرجال الذين عرفهم وماتوا ، حتى اليوم الذي مات فيه، كان يتساءل دومًا إن كان من الأفضل أن يموت معهم، مات في سن الثانية والستين، كان من المفترض أن يكتب في شهادة وفاته أن سبب الموت هو الحرب العظمى”.

في حوار لها: قالت إنها لم تكن تستمع للقصص أثناء طفولتها، ربما يعود ذلك لنشأتها في أفريقيا، رغم أن الأفارقة كانوا معتادين على رواية القصص لأطفالهم، لكنهم كانوا ممنوعون من الاختلاط بهم، تقول: كان هذا جزءًا صعبًا جدًّا من فترة إقامتي في روديسيا، وأشعر بأسف عميق لخسارتي تلك التجربة السحرية خلال طفولتي، لذا انتميت إلى كلية رواة القصص ” “Storytellers Collegeإيمانا مني بفن رواية الحكايات كفن راسخ الجذور في الوجدان الجمعي للبشرية.

وبعد البراح والمساحات اللامتناهية والألوان المدهشة التي لم يتم العبث في درجاتها أو سكب الظلال عليها، عادت دوريس إلى لندن، شعرت بكل شيء حولها صغيرًا بشكل مفزع، نعم الأشياء جميلة لكنها منظمة بشكل مفرط، بعيدة عن الفوضى الجميلة التي كانت عليها طبيعة الأشياء في أفريقيا.

“العشب يغني” 1950

رجعت دوريس إلى أفريقيا وبحوذتها مسودة روايتها الأولى “العشب يغني”، التي صدرت في مارس 1950، واسمها مستوحى من إحدى قصائد الشاعر “ت. س. إليوت” “الأرض الخراب”، روت فيها شهادتها عن العنصرية تجاه السود في أفريقيا، وسياسة التمييز العنصري في إحدى المستعمرات البريطانية خلال الحرب العالمية الثانية، في وقت بدأت فيه الأصوات تتعالى بالمناداة بالمساواة بين الجميع في الحقوق والواجبات.

تلقي الرواية الضوء على التمييز العنصري من البيض ضد السود في روديسيا الجنوبية، ما يعني أن الرواية بمثابة شهادة ليسنج الخاصة ورؤيتها عن تلك القضية، تبدأ الرواية بخبر في صحيفة تتحدث عن وفاة ماري تيرنر، نعرف أنها امرأة بيضاء، قتلها خادمها الأفريقي موسى مقابل المال، يبدو خبرًا متوقعًا لمن يعيشون في الجوار، بعد ذلك تتحول الرواية إلى فلاش باك على حياة تلك المرأة التي ترتبط مع المزارع الأبيض ديك تيرنر، في زواج بارد، الزوج مثالي حالم يكافح لنجاح مزرعته، والزوجة لا تبحث إلا عن المال قاسية، وعنصرية بشكل علني، مؤمنة أن البيض يجب أن يكونوا أسيادًا على الأفارقة الأصليين، تتسلم إدارة المزرعة وتبدأ في ازدراء العمال السود لديها، عمل أكثر وراحة أقل، خصومات تعسفية من الرواتب، وتبلغ كراهيتها للسود إلى حد ضربها لعامل؛ لأنه تحدث إليها بالإنجليزية.

لكن ويا للغرابة وبمرور الوقت، تشعر ماري بالحب تجاه خادمها الأسود موسى، وعندما يشك الجار سلاتر في الأمر، ويشعر بتغير معاملة ماري تجاه موسى، يبدأ في محاولات مستميتة للدفاع عن معتقدات وسلامة الجنس الأبيض.

يبدو الجميع هنا ضحايا بشكل أو بآخر، فالعلاقة الغريبة بين ماري وموسى هي نتاج للواقع الاجتماعي والظروف الاقتصادية والسياسية، كما كان الزوج ديك ضحية لمجتمع يقوم على القوة والمنافسة ولا يعترف بالضعفاء الحالمين، لقد ناضل مراتٍ لإثبات ذاته وفشل في نيل احترام زوجته، والزوجة تبدو لنا كشخصية راكدة، لا تحركها سوى عاطفة الكراهية، وكأنها بعداءاتها الذاتية تفرج عن عاطفتها التي لم تشبع في ظل رجل مبتور العزم، لذا تستسلم شيئًا فشيئًا لقوة موسى المتزايدة عليها، وتنتهي الرواية بمقتلها على يده، لكنه لا يهرب بل ينتظر قدوم الشرطة.

نجحت الرواية نجاحًا كبيرًا، وخاصة في أمريكا، منوهة ببزوغ نجمة قادمة وامرأة مستعدة لتحدي تقاليد العنصرية.

“خطاب طويل جدا” 1980

من عيون الأدب النسائي الأفريقي، نغوص عبر رواية “مارياما با” السنغالية في أعمال المرأة الأفريقية، تلك المرأة الصموت التي تحتمل ضربات القدر في صمت، جبلت كما الأرض الأفريقية على العطاء دون مقابل، في عيون مجتمعها هي آلة لتفريغ الشهوة وتربية الأطفال، لا أحد يسألها عن أحلامها، عن أشيائها الصغيرة التي تقدرها وتحتمي بها من واقعها الصعب.

ترى الروائية “مارياما با” أن المرأة هي روح المنزل، وأن اختلاف طبيعتي الرجل والمرأة، وراء اختلاف رؤيتهم وتصرفاتهم تجاه الأمورء، فالمرأة تميل أكثر لراحة الزوج، حتى لو كان في ذلك مزيد تعب لها وعبء عليها، والنساء العاديات البسيطات لا يكون لهن طموح خارج المنزل، لا تطلب المرأة إلا أن تُحب، لكنها ستعيد ذلك الحب في صورة أجمل فغرس الرجل فيها يثمر عليه، لكن رغم ذلك فالرجل هو الضامن لنجاح الأسرة، وديمومة رباط الزواج.

ومن خلال “خطاب طوبل جدًّا”، نرى ونسمع ونشم ونلمس عبر خطاب طوبل من “رحمة الله” وتنطق في الأفريقية “راماتولاي” إلى صديقتها “أيستو” أو بالعربية “عائشتو”،  معاناة زوجة، يهرب زوجها من حياته في القرية وتعلم عن خبر زواجه من إحدى صديقات ابنتها في المدينة، وتركها وحيدة ترعى 12 طفلًا.

تبدو تلك الرواية أشيه ببوح متواصل صادر عن ذات مرأة معذيبة، كلماتها تقول: ها أنا ذا، أنا لست حجرًا، أنا أشعر وأئن”.

المرأة هنا وتد البيت الحقيقي، الزوج بإمكانه الهرب لزوجة أخرى وحياة أخرى، لكن المرأة لصيقة بقدرها، يهرب الرجال للخمر والحانات والنساء، بينما تبقى المرأة تحمل تركتهم المثقلة وحيدة.

رسالة عادية بين صديقتين، تُشَرّح المجتمع السنغالي، نتعرف فيها على عاداته وتقاليده، والتأثيرات السلبية للاستعمار على الثقافة والهوية السنغالية، تحكي على لسان البطلة: ” كان حلم المستعمر هو أن يذيب فكرنا ونمط حياتنا في بوتقته هو..”.

كما تستنكر في موضع آخر نظرة الأباء الضيقة في تربية أبنائهم: “يحثون أطفالهم على الحصول على المزيد من الشهادات أكثر مما يوجهون سلوكهم، ويعملون على تربيتهم بصورة حسنة”.

وخلال كل ذلك نتعرف على أحوال المرأة في المجتمعات الأفريقية، نرى ذكريات الطفولة، نشعر بألم المخاض، نبكي الوحدة والنسيان، تلمع عيوننا للأمل، نحني رؤوسنا للتضحية، ونستمع في خشوع للحكمة، رسالة بين امرأتين كلتاهما أفريقيتان.

ويلاحظ أن البطلة لا تحكي فقط بل تقوم دون وعي، بدور الناقد الواعي لما يحدث حوله، فالمرأة هنا أكثر من مجرد جدار صامت، إنها تراقب وتعلم، لكن بحكم الظروف غير قادرة على تغيير شيء.

ورغم أننا نرى عبر كلمات مارياما المجتمع ككل، إلا أن كل ذلك يبدو بعين أنثوية جدًّا، نلمس من خلالها أمورًا لها صلة بنا جميعًا كنساء، حول تربية الأبناء ومحاولات التأقلم مع الطبقات الأعلى.

تستهل “مارياما با” رسالة امرأتها المعذبة:

“أمس طلقت أنت، وها أنا بدوري مطلقة، أما اليوم فأقول لك إني أرملة، أعلم أنني أزعجك وأني أضع سكينًا في جرحك الذي لم يلتئم إلا منذ وقت قريب، حلت مأساتي بعد مأساتك بوقت قريب..”

“شعب يوليو” 1986

بالأدب ناضلت نادين جورديمير ضد التمييز العنصري، لم تنحز لجانب على الآخر، وقدمت إلينا المأساة بواقعية مجردة، لنحكم نحن ضمائرنا، نتعرف عبر روايتها “شعب يوليو” عن طبيعة العلاقة الشائكة بين البيض والسود في جنوب أفريقيا، لكن الوضع مقلوب هنا، فالبيض هم الفريسة وهم المحاصرون، نرى عن كثب عنصرية الرجل الأسود تجاه الأبيض، عبر عائلة “سميلز” البيضاء، المكونة من الزوجين المهندس بامفيلد سميلز، وزوجته مورين هذرنجتون، وأولادهما الثلاثة، يهربون من الثورة ضد البيض ولا يجدون ملجأ إلا خادمهم الأسود “يوليو”، الذي يأخذهم في رحلة شاقة إلى قريته وعائلته الكبيرة.

تبدأ الرواية مع بام ومورين سميلز، ليبراليين من الطبقة المتوسطة في جوهانسبرج بجنوب أفريقيا، يقدم لهما خادمهما الأسود “يوليو” صينية الشاي، لكن هناك شيء خاطئ، الشاي يقدم في كوبين من الزجاج الرخيص، والحليب داخل علبة من الصفيح، والباب الذي يقرعه “يوليو” ليس سوى فتحة في الجدار الطيني السميك لكوخ أفريقي.

تجد هذه العائلة البيضاء نفسها وجهًا لوجه مع الغضب العارم من السود بعد ميراث طويل من العنصرية ضدهم، يتم قصف المطارات، ويحاصر البيض.

سطحيًّا، تبدو وكأنها قصة مغامرات مسلية، وكأن العائلة أشبه بروبنسون كروزو معاصر، التكيف مع أكل الأعشاب والطهي في ظروف بدائية، الارتعاش تحت الأمطار داخل جدران كوخ متداعٍ، الصراصير الطائرة في الظلام، الأواني الفخارية التي كانت مورين تجمعها لتزيين المطبخ أصبحت تأكل فيها، أطفال عائلة سميلز يتعلمون نداء ليليًّا يتواصلون به في الظلام مع الأطفال السود، يطارد المهندس بام خنزيرًا لإطعام الأسرة، وهكذا نرى أن هذه القرية التي في أسوأ الأحوال لم يتخيلوا أن بإمكانهم قضاء الوقت فيها كإجازة أصبحت بيتهم.

تحكي الكاتبة البيضاء لنا عما يُحدثه عالم “يوليو” البعيد عن المدينة والعالم الذي يقسم الناس دومًا إلى طوائف، لا توجد هناك ذروة للأحداث، إنها تتصاعد فحسب، وكأننا أمام قطاع أو فصل طويل من حياة عائلة، حيث لا حلول حاسمة، وإنما هدنة تمهيدًا لصراع قادم، كما كان الحال في جنوب أفريقيا قبل إنهاء سياسة الفصل العنصري.

 داخل أرض “يوليو” تتعلم الأسرتان، التكيف، وكيف يمكن العثور على أرض مشتركة، وأفكار مشتركة، والتقريب بين وجهتي النظر أملًا في التغيير وإنهاء بحر الدماء.

لم تظفر العائلة البيضاء بحل، لكن شيئًا فشيئًا خفتت حدة المقاومة، وبدأ هناك نوع من الاعتياد، وكأن لسان الأديبة يقول: اتركوا الصراع وعايشوا واقبلو الآخر المختلف عنكم، يبدو حل المشكلة سهلًا، وكأنه يتطلب فقط بعضًا من الوقت، وبعضًا من التنازل.

تقول آن لاين -في مراجعتها النقدية للرواية لصحيفة نيويورك تايمز- إن كثيرًا من المواقف داخل الرواية تبدو وكأنها ستقفز أمامك مباشرة من الصفحة، تكاد تراها حية وكأن بوسع المرء رؤيتها بوضوح بالألوان، لدرجة تغريك بصفع البعوض على جسدك أثناء القراءة، الرواية مليئة بالحركة لدرجة تجعل من الصعب على القارئ عند وصوله للصفحة الأخيرة أن يرى أنه لا يزال جالسًا على الكرسي نفسه بعد أن مر بالكثير.

ونادين جورديمر من الكاتبات القليلات اللاتي يتمتعن بالمهارة والضمير الاجتماعي الحي.