أماني ربيع
“كان تاريخنا شيئًا تم إخبارنا به، ولم يكن شيئًا قمنا به أو ساهمنا فيه”.
تشاو تايانا
خلال سنوات طفولتها، في بلدة نجونج قرب نيروبي، سمعت تشاو تايانا الكثير من القصص عن وحوش “تسافو” آكلة البشر، وهما زوجان من الأسود اشتهروا بإرهاب وقتل عمال السكك الحديدية الأفارقة والهنود في أثناء بناء خط السكك الحديدية بين كينيا وأوغندا في أواخر القرن التاسع عشر، وظلت تفترس ضحاياها، حتى أجهز عليها الضابط البريطاني جون باترسون مطلقا النار بصورة بطولية.
أعطت الأسود التي تأكل البشر الكثير من الدراما والرومانسية لمشهد بناء الأوروبيين للسكك الحديدية باعتباره ملحمة بطولية لاختراق المناطق الداخلية المظلمة العميقة لأفريقيا، أو كرمز لتصميم بريطانيا العظيمة على تنمية القارة الأفريقية البرية، وأصبحت صورة باترسون مع أحد الأسود الميتة مرادفة للغزو الأبيض.


البطولة المزيفة للاستعمار
كان للسكك الحديدية، التي بناها البريطانيون كوسيلة للسيطرة على منبع نهر النيل حيث توجد بحيرة فيكتوريا في أوغندا، آثار أوسع على العلاقات التجارية للمملكة المتحدة مع أوروبا وبقية العالم، وتم سرد الروايات السائدة عنها من منظور غربي، وفي مدرسة تاتيانا كانت تايانا تدرس التاريخ، ولم يخطر ببالها، في ذلك الوقت أن تشكك في هذه الروايات.
عندما أصبحت تايانا في أوائل العشرينات من عمرها، أدركت أن هناك حاجة إلى سرد نوع مختلف من القصص، وفي الجامعة، بينما كانت تدرس علوم الكمبيوتر، أنشأت مدونة تاريخية للمتعة، وبعدما كتبت منشورا عن ولادة نيروبي، تلقت عشرات الرسائل من الكينيين في جميع أنحاء البلاد وفي الشتات ردًا على ما كتبته.


رحلة إنقاذ السكك الحديدية
في نفس الوقت تقريبًا، خلال إحدى زياراتها المنتظمة للأرشيف الوطني في نيروبي، اكتشفت أمرا غير عاديا بين التقارير التي قرأته يشير إلى أنه بين بعض المجتمعات التقليدية، كان هناك اعتقاد بأن أسود “تسافو” كانت أرواح الرؤساء القتلى الذين كانوا يقاومون بناء السكك الحديدية.
هذا التفسير المختلف للأحداث، جعل تايانا حريصة على معرفة ما تعنيه السكك الحديدية للكينين الآخرين الذين يعيشون حول محطاتها أو يعملون فيها، وقررت التحقيق في الأمر، وعلى مدى الأربع سنوات التالية، زارت أكثر من 55 محطة في جميع أنحاء البلاد، والتقطت الصور وتحدثت إلى الناس، في مشروع ستسميه لاحقًا Save the Railway.
كانت محطات السكك الحديدية في كينيا معرضة لخطر الهدم والتخريب الشديد، ورغم أنها لم تعد قيد الاستخدام، إلا أنها احتفظت بين شقوقها بقصص الملايين من الكينيين الذين اعتمدوا عليها بشكل كبير قبل تدهورها.
بدأ مشروع “أنقذوا السكة الحديد” كمشروع لتوثيق المباني، ولكن بعد مرور شهرين، أدركت تايانا أن القصة كانت أكثر من ذلك بكثير، لم تكن الروايات المفقودة تتعلق بالأبنية والحجارة، بل كانت تتعلق بالناس في كينيا قبل وبعد الاستقلال، وفقا لموقع “التراث الرقمي الأفريقي”.
تقول تايانا في حديث مع صحيفة “الجارديان” البريطانية: “مع تقدمي في العمل اكتشفت أن العديد من خطوط السكك الحديدية بدأت أو انتهت في مناطق يسكنها المستوطنون البيض”، وهو مؤشر، كما تعتقد تايانا، على أن الأفارقة لم يكونوا السوق المستهدف.
تذكر المؤرخة الكينية أن بعض الأشخاص الذين قابلتهم السكك الحديدية تحدثوا بشكل إيجابي، ووصفوا كيف استخدموا السكك الحديدية للوصول إلى المدرسة أو العمل أو لدفن موتاهم، لكن آخرين تذكروا كيف أدى ذلك إلى بوار أراضي مجتمعاتهم.


إعادة فهم التاريخ الأفريقي
قامت تايانا بتوثيق المعلومات والصور التي جمعتها على موقع Save the Railway، والذي يمكن من خلاله الوصول إلى كل التفاصيل عن المحطات القديمة، والذي يعد الآن أحد أكثر المحفوظات تفصيلاً ويمكن الوصول إليها في المحطات القديمة.
كان المشروع لحظة محورية بالنسبة لتايانا، حيث أثبت إحساسها بالتاريخ “كشيء حي”، وهو شيء تعلمته في سن مبكرة من خلال القصص التي روتها لها الجدات والكتب القديمة والصور والمجلات والحُليّ التي شاركنها، وهو ما ساهم في تغيير الطريقة التي نظرت بها إلى دورها كمؤرخة.
تؤكد تايانا أن “تذكر نفسك من خلال عدسة شخص آخر، هو ظلم كبير”، وتضيف: ” كان تاريخنا شيئًا تم إخبارنا به، ولم يكن شيئًا فعلناه أو ساهمنا فيه، لذا كان مشروع ” Save the Railway” بمثابة لحظة الإدراك الكبير بالنسبة لي، ومن خلالها أصبحت مساهما نشطا في تشكيل وفهم تاريخنا”.


رقمنة التراث الأفريقي
بعد الانتهاء من شهادتها، حصلت تايانا على درجة الماجستير في تصور التراث والتوثيق في مدرسة جلاسكو للفنون، لدعم مشروعها التي بدأته بالفعل في كينيا، حيث لا تزال رقمنة التراث الثقافي في مراحلها الأولى.
في عام 2018 ، شاركت تايانا في تأسيس متحف الاستعمار البريطاني، وهو جماعة تطوعية تدعو إلى سرد أكثر صدقًا لحكايات الغزو الأبيض، وإعادة سرد الروايات الاستعمارية باستخدام التكنولوجيا الرقمية لتسليط الضوء على القصص المفقودة والمقموعة.
لا يحتوي المتحف على أي قطع أثرية أو وجود مادي، وهو عبارة عن أرشيف على الإنترنت، يعرض إعادة بناء معسكرات الاعتقال، حيث احتجز الجنود البريطانيون حوالي 1.5 مليون كيني يشتبه في أنهم جزء من تمرد “ماو ماو”.
و”ماو ماو”، كانت انتفاضة مناهضة للاستعمار ارتكبت قوات الاستعمار فظائع واسعة النطاق ضدهم، بما في ذلك التعذيب والاغتصاب، وتبين لاحقًا أن الإدارة الاستعمارية دمرت أو أخفت العديد من هذه السجلات، بينما اختارت أول حكومة في كينيا بعد الاستعمار تنفيذ سياسة الصفح والنسيان.
تقول تايانا: “نحن محرومون جدًا من الصور المرئية لدرجة أننا لا نستطيع حتى تصور ما حدث في هذا البلد بشكل كامل”، ونتيجة لفقر المحتوى المرئي، أنشات تايانا ورفاقها عمليات إعادة البناء بناءً على زيارات إلى معسكرات الاعتقال السابقة، والتي تحول معظمها إلى مدارس أو سجون.
كانت تايانا تذهب إلى هذه البلدات دون أن تعرف أبدا بوجود معسكر اعتقال هناك، وتتساءل بعد ذلك كيف يمكن أن تختفي معاناة هؤلاء الأشخاص من المشهد في دولة مرت بأحداث مروعة لا توصف خلال سنوات كفاحها من أجل الاستقلال.


استعادة الماضي والهوية
تايانا هي أيضًا المؤسس المشارك لـ Open Restitution Africa، وهي مبادرة لرصد بيانات ومعلومات عن إعادة الكنوز الأفريقية التي استولت عليها أو سرقتها القوى الاستعمارية السابقة، وتوثق مطالب هذه القطع الأثرية.
وبعد مرور ما يقرب من 10 سنوات على مشروع السكك الحديدية، أحدث نهج تايانا في التعامل مع التاريخ الكيني والأفريقي تأثيرا، وحصلت هذا العام على جائزة “دان ديفيد” عن عملها في تكثيف القصص الأفريقية داخل الفضاء الرقمي، في وقت يتطلع فيه العديد من الأفارقة سواء في القارة السمراء أو في الشتات إلى استعادة ماضيهم واستعادة هوياتهم”.
من خلال African Digital Heritage ، وهي منظمة غير ربحية أنشأتها في عام 2019، تعمل تايانا مع المتاحف لإعادة تصور كيفية الحفاظ على التاريخ والثقافة الأفريقية ورقمنتها، باعتبار أن المتاحف كانت موجودة تقليديًا لتلبية المؤامرات البيضاء بدلاً من أن تساعد الأفارقة في فهم تاريخهم.
توضح تايانا الأمر أكثر: “أخذت هذه المتاحف التاريخ وفصلته عن الناس، كل شيء في علب زجاجية بها معلومات شحيحة، كيف يفترض أن يفهم الناس تاريخهم، يجب أن تدور المتاحف الأفريقية حول الإصلاح، ويجب أن تركز على توليد الحوار والتساؤلات وتمكن من الإجابة عليها”.
المؤرخة العنيدة
أصبحت تايانا رائدة في مجال التراث الرقمي بكينيا، ورغم اكتسابها للتقدير، إلا انها تعاني من قلة الدعم المالي لأبحاثها، وأحيانا تواجه محاولات لتقويض أعمالها، لكنها كما تصف نفسها “مؤرخة عنيدة” تظل تحاول وتواصل ما بدأته دون كلل، تقول: ” “أريد أن يجد أحفادي إجاباتهم في أعمالي”.
وفي الواقع، بدأت أصداء أبحاث تايانا تتردد لدى الكينيين الآن، وغالبا ما تتلقى تعليقات مثل “لماذا لم نتعلم هذا في المدرسة؟”، وتعتبر ذلك نوعا من الاعتراف بأن الناس يسمعون ما تقوله.