كتبت – أسماء حمدي
على شواطئ مدينة أكرا عاصمة غانا، تلفظ أمواج البحر آلاف قطع الثياب التي جرى ارتداؤها في الغرب وانتهي بها المطاف على ساحل البلاد، لتتراكم وتشكل تلة ترتفع يوم بعد يوم من النفايات النسيجية.
أصبحت هذه النفايات التي تتكون من ألبسة وأحذية قديمة من أشهر العلامات التجارية الأوروبية والأمريكية، كالكابوس على صدور السكان، فلا أحد يريد الاستفادة منها في البلدان المتطورة لذلك ترسلها شركات إعادة التدوير إلى غانا.


مهمة ملحمية
تسلط السباحة الشابة “إيفيت يا كونادو تيتيه” الضوء على الأضرار الناتجة عن التلوث التي لحقت بالممرات المائية في البلاد من خلال التجارة الخارجة عن السيطرة للملابس المستعملة من شمال العالم.
في منتصف صباح يوم مشمس، تتطاير ذراعي وساقي إيفيت يا كونادو تيتيه وهي تسبح على طول المياه الزرقاء لنهر فولتا، وهي المحطة الأخيرة في رحلتها التي شهدت تغطية “تيته” لمسافة 450 كيلومترًا (280 ميلًا) في 40 يومًا لتصبح أول شخص يسبح على طول الممر المائي في البلاد.
مهمة ملحمية خصصتها “تيته” لاكتشاف ما يوجد في المياه ولنشر الوعي بالتلوث في غانا، وبينما تسبح الفتاة البالغة من العمر (30 عامًا)، يقوم طاقم بتظليلها على متن قارب يعمل بالطاقة الشمسية، يُدعى The Woman Who Does Not Fear (المرأة التي لا تخاف)، وأخذ عينات من الهواء والماء على طول الطريق والتي سيتم تحليلها لقياس نسبة التلوث.
حسب صحيفة الجارديان البريطانية، تأمل تيتيه أن تجذب مهمتها الانتباه إلى بعض البيئات النقية في غانا، على عكس أماكن مثل كورلي لاجون في العاصمة أكرا، وهي واحدة من أكثر المسطحات المائية تلوثًا على وجه الأرض، تقول: “أريد أن يفهم الناس ويقدرون القيمة التي نتمتع بها هنا في غانا”.
ويقول رائد الأعمال الزراعي البريطاني الغاني، الطريقة الوحيدة التي يمكنني بها السباحة هي في مياه نهر فولتا النظيفة، مثلما كانت كورلي لاجون قابلة للسباحة في يوم من الأيام ولكنك الآن لا تريد أن تلمس أيًا منها.
يجري دعم مهمة السباحة من قبل مؤسسة Or، التي تعد تيتيه عضوًا في مجلس إدارتها، والتي تقوم بحملات ضد نفايات النسيج في غانا، وهو أحد أسباب زيادة تلوث المياه في البلاد.


كارثة بيئية
تستورد غانا حوالي 15 مليون قطعة من الملابس المستعملة كل أسبوع، والمعروفة محليًا باسم أوبروني واو أو “ملابس الرجل الأبيض الميت”، في عام 2021 استوردت غانا بـ214 مليون دولار (171 مليون جنيه إسترليني) ملابس مستعملة مما يجعلها أكبر مستورد في العالم.
تأتي الملابس المتبرع بها من دول مثل المملكة المتحدة والولايات المتحدة والصين وتباع للمصدرين والمستوردين الذين يبيعونها بعد ذلك إلى البائعين في أماكن مثل سوق كانتامانتو في أكرا، أحد أكبر أسواق الملابس المستعملة في العالم.
يضم سوق كانتا مانتو آلاف الأكشاك المكتظة بالملابس والحقائب والأحذية المستعملة من أشهر الماركات والتي تباع بالجملة وبأسعار منافسة، وحول هذه الملابس المستعملة نسج اقتصاد متكامل يتربع على أعلى هرمه بائعون جملة بعد ذلك تباع البضائع في محلات تجزئة.
بين أكداس الملابس المستعملة القليل فقط صالح للارتداء مجددا، تقول جاكلين أوفوري بنسون وهي واحدة من حوالي 30 ألف شخص يعتمدون على السوق في معيشتهم: ” كانت بالة اليوم مكلفة للغاية، وعندما فتحتها وجدت أنها مليئة بسراويل ملطخة”.
تضيف جاكلين: “تحتوي البالة على 230 قطعة ملابس كلها عبارة عن قمامة، لقد لاحظت الكثير من بقع الدم، أنا غاضبة حقا وقد تخلصت منهم جميعًا”.
كل يوم تنقل أكداس مكدسة من الألبسة القديمة إلى المكبات، وفي كل يوم تلفظ سوق كانتا مانتو أكثر من 7 طنا من المنسوجات، التي تتداخل مع الطبيعة وتتسبب بكارثة بيئية حقيقية.


إعادة تدوير
مع نمو الموضة السريعة والاقبال على الملابس الرخيصة لا تزداد دورة حياة الألبسة إلا قصرا، وفي كل عام يرمى ما يعادل 50 مليار من القمصان في العالم، واحدا من كل 8 على الأقل ينتهي به المطاف على الشواطي أو في المكبات الأفريقية.
في قسم آخر من السوق، يعمل الناس على إعادة استخدام قطع الملابس التي كان من الممكن التخلص منها ويجري قصها وخياطتها مع أجزاء أخرى لصنع التنانير والكلسون والقمصان والسراويل القصيرة.
يقف سكرتير جمعية كانتامانتو للعمال جون أوبوكو أجيمانج، في ورشته ويقص القمصان إلى شرائط التي يعطيها للخياطات، ويقوم بتصدير الملابس الناتجة إلى دول أفريقية أخرى، بما في ذلك بوركينا فاسو وساحل العاج.
عندما بدأ أجيمانج العمل في السوق لأول مرة منذ 24 عامًا، يتذكر أنه كان قادرًا على بيع جميع الملابس الموجودة في البالة، الآن عندما يفتح واحدًا، هناك حوالي 70 قطعة لا يمكنه استخدامها، يضيف: “مشكلة النفايات تزداد سوءًا، على مدار 12 عامًا، لم تكن السلع القادمة إلى هنا جيدة، ولا يمكننا الاستفادة منها، البلدان في الخارج تعتقد أن إفريقيا فقيرة جدًا، لذا فهي تقدم لنا سلعًا منخفضة الجودة ونفاياتها”.
وفقًا لمؤسسة Or، فإن حوالي 40٪ من الملابس في كانتامانتو تُترك نفايات، يجري جمع بعضها عن طريق خدمات إدارة النفايات، والبعض الآخر يحرق على أطراف السوق، بينما ينقل الباقي إلى مكبات النفايات غير الرسمية.


جحيم مروع
تقع فداما القديمة على بعد حوالي ميلين من السوق، والتي كانت في يوم من الأيام منطقة تنبض بالحياة، لكنها الآن تشبه مشهد من الجحيم المروع.
تعتقد مؤسسة أور أن هذا أكبر مكب غير مرخص به لنفايات الملابس يغادر كانتامانتو، أصبحت المنطقة موطن لما لا يقل عن 80 ألف شخص، الآن أصبحت منازلهم مبنية على طبقات من القمامة، مما دفع الكثير منهم للهجرة إلى شمال غانا بسبب تأثر أزمة المناخ على الزراعة.
ترعى الحيوانات في كورل لاجون على أكوام من الملابس والبلاستيك يصل ارتفاعها إلى أمتار، إذ تحلق الطيور فوق رأسهم بينما يطير الذباب بالقرب من الأرض، وأصبحت مياهها سوداء ومليئة بالفضلات وشواطئها مليئة بالقمامة.
يتصاعد في سماءها الهواء المختلط بدخان حرائق النفايات، ويلتقط جامعو القمامة الزجاجات البلاستيكية ويضعونها في أكياس ويحملونها على رؤوسهم، عندما تنظر إلى وجوههم “لا أحد يبتسم”.
يقول الحسن فتاو، المصور البالغ من العمر 24 عامًا، إنه انتقل إلى فداما القديمة عندما كان طفلًا مع والدته، ويتذكر السباحة في البحيرة واللعب على شواطئها: “لم يكن الأمر هكذا، الآن لا يمكنني الاقتراب من البحيرة إنها مثل حفرة الموت، اعتاد الناس الصيد هناك، وكان هناك الكثير من الزوارق تعود لأشخاص يعتمدون على البحيرة في معيشتهم”.
يضيف فتاو: “كان العقد الماضي مجنونًا من حيث إلقاء النفايات هناك، إنه أمر مزعج للغاية”.


سعادة غامرة
على بعد حوالي 80 ميلاً إلى الشرق، حيث بدأت تيته المرحلة الأخيرة من السباحة، يختلف المشهد قليلا إذ أصبحت المياه نظيفه، وعلى ضفاف النهر تصطف أشجار النخيل والشواطئ الرملية.
تقول تيتيه عن رحلتها: “هناك أجزاء كانت رائعة، لقد صادفنا جزرًا رملية صغيرة محاطة بمياه هادئة للغاية مقابل سماء زرقاء لامعة، الآفاق لا تصدق”.
ومع ذلك، لم تكن رحلة الطاقم خالية من التحديات، تقول تيتيه: “أمضيت ليالٍ في المياه العاصفة وسط بحيرة فولتا، أكبر خزان اصطناعي في العالم بسبب نفاد طاقة القارب، لكن ذباب تسي تسي المعروف بتسببه في مرض النوم القاتل، كان يحوم بشكل ينذر بالسوء حول الطاقم”.
تضيف: “علق القارب في الوحل واستغرق الأمر 3 ساعات من الطاقم المكون من 4 أشخاص وفريق من الصيادين لحل المشكلة، كما جعلت التيارات القوية والأمواج المفعمة بالحيوية من السباحة شبه مستحيلة في بعض الأحيان”.
لكن قبل الساعة 6 مساءً بقليل في 17 مايو، وتحديدا مع غروب الشمس وتحولت السماء إلى درجات اللون البرتقالي والأصفر والأحمر، سبحت تيتيه نحو الشاطئ في أدا، حيث يلتقي نهر فولتا بالمحيط الأطلسي، وكان في استقبالها حشد من الناس لتشجيعها والترحيب بها.
تقول السباحة الشابة إنه عند خروجها من الماء أحاط بها زوج من الراقصين الذين رافقوها أثناء استقبالها من قبل شيوخ المجتمع، وفي الخلفية صوت قرع الطبول التقليدي، مضيفة: “إنه لأمر مُرضٍ للغاية أن تنتهي، الرحلة شعرت بسعادة غامرة عندما تذوق الملح في الماء، قبل ذلك اعتقدت أنني لن أفعل ذلك”.