كتبت – أسماء حمدي

يسير تاريخ التصوير الفوتوغرافي والاستعمار جنبًا إلى جنب في القارة السمراء، إذ كانت القوى الأوروبية تقسم القارة، بحثًا عن مناظر تعكس عقليتهم كطبيعة غير مألوفة وجغرافيا مظلمة وبشر يعيشون حياة خارج نمط المنظور الغربي.
ذات مرة كتبت الروائية الزيمبابوية إيفون فيرا: “في أفريقيا تعد الكاميرا جزءًا من الأدوات الاستعمارية، جنبًا إلى جنب مع البندقية منذ القرن الـ19″، لتشكل صورة القارة في العالم كله لأكثر من 100 عام.


التصوير الأفريقي المعاصر
في العقود الأخيرة، بدأ المصورون الأفارقة في إعادة تعريف ذواتهم وهوياتهم في محاولة منهم لتحرير أنفسهم من الرواية التي سُجنوا فيها طويلا ورغبة في التفكير بطريقتهم الخاصة، بحسب صحيفة “الجارديان” البريطانية.
في الأول من يوليو الجاري، افتتح في لندن معرض جديد رائع يعرض التصوير الفوتوغرافي الأفريقي المعاصر تحت عنوان “عالم مشترك.. التصوير الأفريقي المعاصر”، والذي ينظر إلى ماضي وحاضر ومستقبل قارتنا السمراء من خلال عدسات فنانينها.
ويستمر المعرض الذي يقام في متحف “تيت مودرن” بلندن، حتى 14 يناير 2024، ويشارك فيه 36 فنان وفنانة من عدة مدن أفريقية.
يستلهم المعرض عنوانه من تنظيرات الفيلسوف الكاميروني أشيل مبيمبي، الذي يدعو فيها إلى أن نفكر في العالم انطلاقا من أفريقيا، وذلك لخلق سرد أكثر شمولية إذ لا يوجد تاريخ محدد للقارة إنما هناك حقائق متعددة ومترابطة تخالف في كثير منها تخلف في كثير منها الصور النمطية للقارة وسكانها والثقافات الأفريقية.


الهوية والتقاليد
قسم المصورون الأفارقة المعرض إلى 3 أقسام تشمل الهوية والتقاليد، والتاريخ المضاد، والمستقبل المتخيل، إذ يسلط القسم الأول الضوء على حركات التحرر الأفريقية وكيفية نشوء الهوية القائمة على الكفاح والمقاومة.
كما يتناول مسائل مثل رفض الأفارقة التخلي عن زعمائهم التقليديين في تلك الفترة، رغم تجريد الحكومات الاستعمارية هؤلاء الزعماء من نفوذهم وممتلكاتهم.
أما القسم الثاني يسلط الضوء على قدرة التصوير الفوتوغرافي على إنتاج تاريخ مضاد، إذ يركز على ممارسات الأرشفة وكيفية استيعاب الثقافات والمعتقدات والتقاليد الأفريقية التي لم يحترمها الرجل الأبيض وسعى إلى إقصائها معتبرا أنها أقل مكانة من ثقافته، بحسب اعتقاده.
ويستكشف القسم الثالث، تأثير العولمة وحالة الطوارئ المناخية، إذ يعمل المصورون الأفارقة على توثيق التحولات التي حلت بالقارة، إذ غير التحضر أساليب الحياة، كما شجع الاستثمار الشباب على الهجرة إلى المدن والتمركز فيها، ما همش المناطق الريفية وأخل بالتنمية في معظمها.


خيال علمي
للوهلة الأولى تبدو صور الفنان الكونغولي كيريبي كاتيمبو وهو من بين المصورين المشاركين في المعرض، وكأنها خيال علمي مرعب، إذ تظهر اللقطات المهتزة شوارع كينشاسا تبدو فيها الصخور العملاقة وكأنها تتساقط من السماء، مثل نهاية العالم.
عند الفحص الدقيق، لا توجد تأثيرات خاصة على الصور فهي في الواقع انعكاسات في البرك انقلبت رأسًا على عقب، وكل منها تلتقط لحظة عابرة من حياة الشارع بطريقة سريالية متلألئة ومناسبة يمكن القول إنها أقرب إلى التجربة الحسية للتواجد هناك.
تعتبر الصور شهادة على براعة كاتيمبو، الذي توفي بشكل مأساوي بسبب الملاريا عن عمر يناهز 36 عامًا في عام 2015، ولم يكن لديه سوى القليل من معدات التصوير الاحترافية، لذلك وجد طريقته الخاصة في استخدام الكاميرا.
كان هناك أيضًا عنصر الضرورة، قال كاتيمبو ذات مرة، إن معظم الكونغوليين لا يريدون التقاط صورهم، لذلك كان عليه أن يبحث عن طرق أقل اقتحامية لتوثيق مجتمعه، بحسب الصحيفة.
يركز العرض على كيفية استخدام فنانين مثل كاتيمبو للتصوير بطريقتهم الخاصة، والخروج عن التقاليد، وإيجاد طرق جديدة للتعبير، وحتى صياغة هويات جديدة في فترة ما بعد الاستعمار للقارة.
يقول منسق المعرض أوسي بونسو وهو من عائلة غانية ويلزية: “إنها محاولة لإعادة تصور إمكانيات التصوير الفوتوغرافي، ليس فقط كأداة لتوثيق الواقع ولكن كشيء لديه القدرة على تحرير رواة القصص ومنح الفنانين القدرة على التفكير في العالم من جديد”.


تحت أشعة الشمس
تقول عايدة مولونه، إحدى رائدات التصوير الفوتوغرافي الأفريقي، إن الطريقة التي نراها نحن الأفارقة هي أننا موجودون في العديد من النقاط المختلفة، نحن معاصرون، تقليديون، فريدون، ومن ثم أصبحنا عالميين في نفس الوقت”.
بدأت مولونه التي نشأت في أوروبا وأمريكا الشمالية قبل أن تعود إلى إثيوبيا في عام 2007، عملها كمصورة صحفية في صحيفة واشنطن بوست، بالإضافة إلى التدريس والتوجيه وإقامة ورش العمل وتنظيم مهرجان أديس فوتو فيست كل عامين.
الآن تقوم بتصوير تابلوهات مذهلة، إذ التقطت مجموعة من الصور لمناظر طبيعية صحراوية شبه مجردة، ونساء مطليات باللون الأبيض، ومساحات شاسعة من الأحمر المشبع والأزرق والأصفر، تقول: “هذه ألوان أشعر بقوة تجاهها، تقريبًا إلى مستوى الهوس، فهي أكثر من مجرد ألوان لجذب الجمهور لأن هناك الكثير من المعاني بداخلها”.
غالبًا ما يركز عمل مولونه على وجهات نظر وهويات الإناث، إذ تناولت سلسلة مصورة باسم Water Life في عام 2018، على نقص المياه ودور المرأة في جلبها، تقول: “خططت لكل صورة تقريبًا مثل تصوير فيلم، بدءًا من الرسومات التخطيطية، وبناء موقع التصوير، وتصميم الأزياء، والماكياج، وغالبًا ما يتبع ذلك تصوير في مواقع ذات طبيعة صعبة”.
كان تصويرهذه السلسلة في المسطحات الملحية الساخنة في إثيوبيا، تقول: “كان خوفي الأكبر هو أن الأضواء الخاصة بي سوف تنفجر أو أن الكاميرا الخاصة بي سوف تذوب، كنا نعمل في الخارج تحت أشعة الشمس التي لا ترحم ورياح الصحراء تلك، كنا نشعر وكأنها نار على وجوهنا”.


“أفريقيا الآن تشكل ثقافتنا”
في أعمال داويت بيتروس، وهو مهاجر إريتري يعيش الآن في كندا، تقف الشخصيات في صوره في المناظر الطبيعية مع مرايا طويلة تحجب وجوههم، لكنها تعكس حرفيا من أين أتوا وهم يتجهون إلى مكان جديد، كما هو الحال في صور بونسو التي تتناول أيضا موضوعات الهجرة الحديثة.
أما الراحل روتيمي فاني كايود، الذي تدمج صوره الحسية تقاليد الرسم الأوروبية مع أيقونات اليوروبا وهي أكبر المجموعات العرقية في نيجيريا، والزي الاحتفالي الإفريقي، قال ذات مرة: “واقعي ليس هو نفسه الذي يتم تقديمه لنا غالبًا في الصور الغربية”.
وهناك القليل من التصوير الصحفي المباشر في المعرض، مع العديد من هؤلاء المصورين فإن العمل لا يتعلق بالتقاط حقيقة خارجية بقدر ما يتعلق بالتعبير عن واقع داخلي.
يقول بونسو: “لم تكن النظرة الاستعمارية تدور في الواقع حول أفكار الغرب لأفريقيا، كان الأمر يتعلق بأفكار الغرب عن نفسه، مشيرا إلى أن فكرة مبيمبي عن معرض عالم مشترك تسلط الضوء على الترابط بين العالم الحديث، وإمكانية التفكير في العالم من أفريقيا.
يضيف: “من خلال القيام بذلك، يمكن للمرء أن يكتسب فهمًا أوسع للإنسانية، حيث كان الغرب يعتقد ذات يوم أنه يشكل الثقافة الأفريقية، فإن إفريقيا الآن تشكل ثقافتنا”.
وفي النهاية تساءل بونسو: “إذا كانت الكاميرا أداة لتحريف أجساد أو موضوعات معينة، فمن الطبيعي أن تتحول إلى أداة لتحرير تلك الموضوعات من النمطية المشوهة وتقديم الحقائق دون تزيف”.