كتب – د. أيمن شبانة

مدير مركز البحوث الأفريقية – كلية الدراسات الأفريقية العليا – جامعة القاهرة

 بعد مخاض عسير وتأجيلات متكررة، شهدت جوبا عاصمة جنوب السودان التوقيع بالأحرف الأولى على اتفاق السلام بين حكومة السودان وحركات المعارضة المسلحة، وذلك فى31 أغسطس2020. وهو الاتفاق الذى اعتبره بعض المحللين نقلة محورية صوب إنفاذ استحقاقات المرحلة الانتقالية وإقامة نظام سياسى جديد يخلف نظام الإنقاذ. فى مقابل اتجاهات أخرى ظلت تتخوف من إمكانية صمود الاتفاق، ليلقى ذات المصير الذى واجه اتفاقات سابقة (اتفاق سلام دار فى مايو2006، ووثيقة الدوحة عام 2011) قياساً بتعدد مسارات التفاوض، وجسامة التحديات التى يواجهها السودان، ومعارضة بعض الحركات المسلحة والقوى السياسية لاتفاق جوبا. لذا تسعى هذه الدراسة لتحليل دوافع توقيع الاتفاق، وتحديد أبرز بنوده، والتحديات التى تواجهه، والسيناريوهات المحتملة المرتبطة بإنفاذه. 

أولاً- دوافع توقيع اتفاق جوبا:

انطلقت مفاوضات السلام المباشرة بين الحكومة السودانية والحركات المسلحة المنضوية تحت لواء الجبهة الثورية والمسارات الأخرى بالوسط والشمال والشرق، بمشاركة إقليمية ودولية واسعة النطاق، وذلك بدعوة من سلفاكير ميارديت رئيس جنوب السودان قبلها المجلس السيادى السودانى، اعتماداً على الروابط الشعبية والمصالح المشتركة مع الجنوب، ورصيد الثقة الوافر الذى تتمتع به دولة الجنوب مع الحركة المسلحة.

فى هذا السياق، عقدت لقاءات تشاروية أفضت لتوقيع إعلان جوبا فى11 سبتمبر2019، والذى دعا لبدء المفاوضات فى14 أكتوبر2019، بعد خطوات تمهيدية لبناء الثقة، لتسفر المفاوضات عن التوقيع على اتفاق جوبا فى 31 أغسطس2020، حيث وقعه محمد حمدان دقلو

“حميدتى”، ممثلاً للحكومة السودانية وكل من: الحركة الشعبية- شمال/ جناح مالك عقار، وحركة جيش تحرير السودان/جناح منى مناوى، وحركة العدل والمساواة بقيادة جبريل ابراهيم، والتحالف السوداني برئاسة خميس عبدالله أبكر، وتجمع قوى تحرير السودان، الذى وقع عنه عبدالله يحيى، بالإضافة للمجموعات غير المسلحة التى تمثل مسارات الوسط والشرق والشمال.

وقد توافرت مجموعة من الدوافع التى ساهمت فى قبول أطراف الاتفاق بالجنوح إلى السلم. لعل من أهمها:

1-  سقوط نظام الإنقاذ الوطنى:

هناك اعتقاد راسخ بين الحركات المسلحة بأن نظام الإنقاذ الوطنى كان يمثل عقبة أساسية فى طريق السلام بالسودان. لذا كانت تلك الحركات فى طليعة القوى الثورية التى أسهمت فى إسقاط ذلك النظام، حيث انضم أغلبها لتحالف قوى الحرية والتغيير، الذى حدد مطالب الثوار، وتضمن رؤيتهم لسودان ما بعد الإنقاذ. كما شارك أنصارها فى الاعتصام أمام قيادة القوات المسلحة بالخرطوم، حتى تحقق هدفها الأول بعزل البشير فى 11 أبريل 2019.

وبالتالى رأت الحركات المسلحة ضرورة المشاركة فى بناء النظام السياسى الجديد، خاصة بعدما منحت الوثيقة الدستورية التى تنظم المرحلة الانتقالية أولوية قصوى لإحلال السلام بالبلاد فى غضون الأشهر الستة الأولى للمرحلة الانتقالية، مع تهيئة الإجراءات اللازمة لفتح المعابر ووصول المساعدات الإنسانية للمناطق المتضررة من الحرب، وإطلاق الأسرى وإلغاء أحكام الإعدام التي تواجه قادة الحركات المسلحة. كما حرصت الحركات المسلحة على المشاركة فى جهود السلام خوفاً من أن يتم تهميشها وتخفيض سقف مطالبها مجدداً إن لم تلحق بقطار السلام.

2- تبدل العلاقات بين الإدارة الانتقالية والحركات المسلحة: 

شهدت المرحلة التى تلت سقوط نظام الإنقاذ تبدلاً فى طبيعة العلاقات بين الإدارة الانتقالية بالسودان والحركات المسلحة، حيث أكدت تلك الحركات تمسكها بوحدة السودان، وعدم وجود نوايا انفصالية لديها. وأنها ليست فى خصومة مع الشعب السودانى، وأن قضيتها الأساسية تتمثل فى مقاومة التهميش الذى تعانيه المناطق الطرفية بالبلاد. وعلقت أغلب تلك الحركات القتال ضد القوات الحكومية، مؤكدة تجاوز آلية العنف المسلح، لتصبح هى خيارها الأخير، مع تغليب آليات أخرى أبرزها: الحرك الجماهيرى، والتفاوض، والضغط الدولى.

كما اقترحت أغلب الحركات المسلحة التفاوض المباشر مع المجلس الانتقالى فى منابر مختلفة عما يجري بالخرطوم، مع تقسيم المرحلة الانتقالية إلى مرحلتين. تخصص أولهما لمخاطبة الحركات المتمردة والجلوس معها لتحقيق السلام، فيما ترتب الثانية لإجراء انتخابات عامة.

فى المقابل، أكدت السلطة الانتقالية تمسكها بإحلال السلام، وحرصها على التواصل مع قادة الحركات المسلحة لإنجاز هذا الهدف. كما توقفت عن وصف تلك الحركات بكونها حركات متمردة، واصفة إياها بشركاء الوطن، وأنهم يشكلون جزءاً أصيلاً من الثورة السودانية. كما تم إلغاء كثير من أحكام القضاء الصادرة فى عهد نظام الإنقاذ بحق قيادات الحركات المسلحة، وفى مقدمتها حكم الإعدام الصادر بحق ياسر عرمان، نائب رئيس الحركة الشعبية لتحرير السودان/ قطاع الشمال. وفى هذا الإطار أصبح المناخ مواتياً نسبياً لخوض جولات التفاوض من أجل السلام.

3- فشل احتمالات الحسم العسكرى:

فى ظل استمرار الصراع فى السودان لسنوات مديدة دون القدرة على الوصول إلى نتائج حاسمة عبر الآليات العسكرية، تولدت قناعة لدى أغلب القوى السياسية والمسلحة بصعوبة تحقيق أهدافها عبر الحلول العسكرية، وأن سيناريو المغالبة بات مستحيلاً، وأن مواصلة القتال يعنى استمرار الاستنزاف المادى والبشرى لمقدرات الوطن، وهو أمر تسعى الحكومة السودانية لتجنبه، ولا تستطيع الحركات المسلحة تحمله، نتيجة لتناقص الدعم الخارجى المقدم لها.

كما ظهرت الكثير من المؤشرات التى تبشر بانعتاق السودان من عزلته الدولية، بعد استئناف الحوار السودانى–الأمريكى، وتواصل السلطة الانتقالية بالسودان مع الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبى والمنظمات غير الحكومية الدولية، الأمر الذى يدعم العملية الانتقالية، ويمنح الحكومة موقفاً تفاوضياً أكثر قوة، ويقلل من سقف مطالب الحركات المسلحة، وهو ما ساهم فى توافر الرغبة المشتركة فى إنجاز اتفاق السلام.

4- وجود ظهير خارجى داعم للسلام:

تستند المفاوضات لظهير خارجى داعم للعملية الانتقالية، وعازم على تحقيق السلام، ومساعدة السودان على الخروج من عزلته الدولية، التى أوقعه فى شراكها نظام الإنقاذ البائد. وهو ما يتسق مع المزاج العالمى الذى لم يعد يحتمل المزيد من الصراعات فى الشرق الأوسط. وعلى سبيل المثال أكدت الإدارة الأمريكية دعمها للسلام. كما أعلن مبعوث الاتحاد الأوروبى لدى السودان دعم الاتحاد لمفاوضات جوبا، وتأييده لمطلب السودان برفع اسمها من اللائحة الأمريكية للدول الراعية للإرهاب العالمى. فيما تواصل الإعلان عن دعم السلام من جانب الاتحاد الأفريقى والجامعة العربية والعديد من الأطراف الإقليمية الأخرى.

ثانياً- أبرز بنود اتفاق السلام:

تم توقيع الاتفاق بحضور كل من رئيس جنوب السودان سلفا كير، ورئيسي مجلسي السيادة والوزراء الانتقاليان في السودان الفريق أول عبد الفتاح البرهان ود. عبدالله حمدوك، وقادة الجبهة الثورية والحركات المسلحة. وقد عالج الاتفاق قضايا عديدة شملت: الجوانب السياسية والترتيبات الأمنية والمسارات السياسية وتقاسم السلطة والثروة. وتلخصت أبرز بنوده حول وقف الحرب، وجبر الضرر، واحترام التعدد الديني والثقافي، والتمييز الإيجابي لمناطق الحرب (دار فور)، وجنوب كردفان، النيل الأزرق (المنطقتان).

بالنسبة لتقاسم السلطة، نص الاتفاق على تمديد الفترة الانتقالية إلى 39 شهرا، تبدأ من تاريخ توقيع الاتفاق، على أن تشارك الحركات المسلحة الموقعة في السلطة الانتقالية بثلاثة مقاعد في مجلس السيادة، ليرتفع عدد أعضاء المجلس إلى 14 عضواً، بالإضافة إلى 25% من مقاعد كل من مجلس الوزراء والمجلس التشريعى، بواقع خمسة حقائب وزارية، وسط توقعات بزيادة عدد الحقائب الوزارية إلى 25 حقيبة، بالإضافة إلى 75 مقعداً بالمجلس التشريعى، الذى يبلغ عدد مقاعده 300 مقعد. كما أقر الاتفاق باستثناء قادة الكفاح المسلح من أحكام المادة 20 بالوثيقة الدستورية، التي تمنع الذين تقلدوا مناصب فى السلطة الانتقالية من الترشح في الانتخابات القادمة.

وحول توزيع السلطة في مسار دارفور، يمنح الاتفاق 40% من السلطة في دارفور لمكونات مسار دارفور، فيما يمنح 30% من السلطة لمكونات حكومة السودان الانتقالية، ويعطى نسبة 20% لأصحاب المصلحة بحسب ما عرفتهم وثيقة (أصحاب المصلحة)، وذلك من خلال آلية للإشراف على اختيارهم يتم الاتفاق عليها لاحقا. فيما تذهب نسبة 10% المتبقية للحركات الأخرى الموقعة على اتفاق السلام،

كما تم الاتفاق على العودة لحكم السودان بنظام الأقاليم بدلا عن الولايات، وأن تؤول رئاسة الحكومة الإقليمية المزمع تكوينها لمرشح مكونات مسار دارفور. وبالنسبة لمنطقتى النيل الأزرق وجنوب كردفان فقد منحها اتفاق جوبا صيغة للحكم الذاتي، تحدد اختصاصات السلطات الفيدرالية والمحلية، بما فيها إصدار التشريعات استناداً لدستور1973، إضافة لتشكيل مفوضيات أهمها مفوضية للحريات الدينية.

وبالنسبة لمشاركة الحركة الشعبية شمال، جناح عقار في السلطة الإقليمية، فقد تم منحها منصب والي/ حاكم في ولاية النيل الأزرق، ومنصب نائب والي في كل من ولايات جنوب كردفان وغرب كردفان. إلى جانب 30% من أعضاء الجهازين التنفيذي والتشريعي بالنيل الأزرق وجنوب كردفان، وجبال النوبة وغرب كردفان.

كما منح اتفاق السلام بعض الأقاليم نسبا للتمثيل بالخدمة المدنية القومية تستمر لمدة 10 سنوات من تاريخ توقيع الاتفاق، من باب التمييز الإيجابي. فحصل إقليم دار فور على 20% من مجمل الوظائف القومية، فيما حصل جنوب كردفان/جبال النوبة على ٥%، والنيل الازرق 3.2% وغرب كردفان، بوضعها الحالي ٤.٣%. وهنا ربط القرار الأمر بمراعاة الشفافية والكفاءة.

وفيما يتعلق بتقاسم الثروة، أقر الاتفاق ضرورة أن يتمتع إقليم دارفور، وبقية أقاليم السودان التي تعاني من التهميش التاريخي والمتأثرة بالحرب بتطبيق التمييز الإيجابي عليها عند تخصيص الموارد، حتى يمكنها اللحاق بغيرها من الأقاليم، التي سبقتها في معايير التنمية وتقديم الخدمات للمواطن.

وعليه نص الاتفاق على تمكين المناطق المتضررة من الاستفادة الكاملة من نحو 40 % من عوائد الضرائب والموارد والثروات المحلية، فيما تذهب نسبة الـ60 % المتبقية للخزينة المركزية، وذلك لمدة عشر سنوات كاملة. وأن يتم تشكيل مفوضية تحت اسم “المفوضية القومية لقسمة وتخصيص ومراقبة الموارد والإيرادات المالية”، تحت قيادة رئيس مستقل، يعينه رئيس الوزراء. وأن يصدر قانون بتفعيل المفوضية في مدة أقصاها ثلاثة أشهر من توقيع اتفاق السلام النهائى.

كما سمح اتفاق جوبا لإقليم دارفور بالحصول على نسبة لا تقل عن 3% من إيرادات الموارد الطبيعية بالمناطق التي تستخرج منها هذه الموارد، وكذا حق دار فور فى تلقي المساعدات من الدول والمنظمات الإقليمية والدولية في شكل منح أو قروض عبر الحكومة الاتحادية، والحق فى إنشاء بنك تنمية خاص بالإقليم. لكنه يخضع لسياسات البنك المركزي. كما أعفى الاتفاق أبناء دارفور بالجامعات والمعاهد العليا من الرسوم الدراسية لمدة 10 سنوات قادمة، ومنحهم 20% من المنح الدراسية الخارجية، بالإضافة لبنود أخرى تتعلق بالتنمية والإعمار والكهرباء.

وبخصوص الترتيبات الأمنية، نص الاتفاق على ضرورة استكمال جهود تسريح ودمج القوات التابعة للحركات المسلحة ضمن القوات المسلحة الحكومية، مع تشكيل قوات مشتركة من الجيش السوداني والشرطة والدعم السريع لحفظ الأمن بولايات دارفور الخمس، وجنوب كردفان والنيل الأزرق، على أن تمثل فيها قوات الحركات المسلحة بنسب تصل إلى30%.

ثالثاً- تباين المواقف الداخلية من الاتفاق:

حظى الاتفاق بتأييد الإدارة الانتقالية بالسودان. وفى هذا الإطار عقد الفريق أول عبد الفتاح البرهان اجتماعا مع قادة الحركات المسلحة طالبهم فيه بالعودة الفورية للخرطوم للمشاركة في إدارة الفترة الانتقالية، معلنا الالتزام بضمان أمنهم الشخصى، والاستعداد الكامل لإجراء التعديلات اللازمة على الوثيقة الدستورية وإعادة تشكيل كافة مؤسسات الحكم الانتقالى بالبلاد.

كما أكد رئيس الوزراء السوداني أن الاتفاق سيمنح حكومته مزيدا من الطاقة للمضي قدماً نحو تحقيق أهداف الفترة الانتقالية، مضيفاً أنه يهدي اتفاق السلام الموقع إلى الأطفال الذين ولدوا في معسكرات النزوح واللجوء، وللأمهات والآباء الذين يشتاقون لقراهم ومدنهم، وينتظرون من ثورة ديسمبر2018 مطالب العودة والعدالة والتنمية والأمن.

فى ذات الاتجاه، أكد قادة قوى الحرية والتغيير أن عودة الجبهة الثورية والحركات الأخرى إلى العمل السلمى عبر اتفاق جوبا سوف يجعلها عضوا فاعلا في القرارات والإصلاحات التي سيتم تنفيذها خلال المرحلة الانتقالية. فيما رحب الفريق ياسر العطا عضو المجلس السيادى بالاتفاق، محاولاً طمأنة الشعب بأن منح الحكم الذاتى لجنوب كردفان والنيل الأزرق لن يهدد الوحدة والسلامة الإقليمية للسودان.

فى المقابل، أكد المعارضون للاتفاق، وعلى رأسهم عبد الواحد محمد نور رئيس حركة تحرير السودان أن مفاوضات جوبا لم تكن إلا إطاراً مزيفاً لتقاسم الغنائم مع المتلهفين للمناصب، المتآمرين مع قوى العسكر لإحكام سيطرتهم على السلطة، مؤكداً أن هذا الاتفاق سوف يسقط لا محالة، لأنه ينطلق من فلسفة المحاصصة، والرغبة فى حصاد النصيب الأكبر من كعكة الثروة والسلطة، بعيداً عن المصالح العليا للشعب السودانى. كما تمسك عبد الواحد نور برفض التفاوض من خارج السودان، رغم تعهد الحكومة السودانية بضمان أمنه فى حال عودته إلى البلاد.

رابعاً- المواقف الدولية والإقليمية:

حظيت عملية السلام فى السودان بترحيب دولى وإقليمى واسع النطاق، خاصة أن إحلال السلام وإنهاء الحرب يمثل الضمانة الأساسية للنتقال السياسى الناجح بالسودان، وأن العالم لم يعد يحتمل المزيد من الصراعات.

فى هذا الإطار لم تتوقف المباحثات بين كل من مصر والسعودية والإمارات مع السلطة الانتقالية وقادة الحركات المسلحة لأجل تيسير المفاوضات ودعمها. ومن أهم تلك الجهود استضافة مصر للعديد من قادة الحركات المسلحة للاستماع إلى رؤيتها للسلام والمرحلة الانتقالية، ورعاية دولة الإمارات اجتماعاً ضم ممثلى الحركات المسلحة، ومنها الحركة الشعبية قطاع الشمال، وحركة تحرير السودان/جناح مناوي، وذلك لعرض رؤيتها لتسوية الصراع السودان، والتمهيد لإشراكها فى مفاوضات السلام.

ومع توقيع اتفاق جوبا، توالت بيانات الترحيب من جانب الأطراف الإقليمية والدولية، والتى ثمنت الاتفاق كخطوة مفصلية على طريق السلام. مؤكدة الاستعداد الكامل لدعم إنفاذه. ومثال ذلك البيانات الصادرة عن الأمين العام للأمم المتحدة، ودول الترويكا (الولايات المتحدة، وبريطانيا والنرويج) والاتحاد الاوروبي ومنظمة العفو الدولية …الخ. 

خامساً-  السيناريوهات المحتملة لإنفاذ الاتفاق:

 تحدد موعد التوقيع النهائى على اتفاق جوبا بيوم السبت الموافق 3 أكتوبر2020، وذلك فى عاصمة جنوب السودان، وبمشاركة وفود دولية وإقليمية سيتم دعوتها لحضور تلك المناسبة التاريخية. وبالرغم من هذا الزخم، فلا يزال هناك الكثير من التكهنات بشأن احتمالات إنفاذ الاتفاق. وهنا يمكن الحديث عن سيناريوهين هما:

1-  إنفاذ الاتفاق ومواصلة المرحلة الانتقالية:

يرى البعض أن الاتفاق سوف يصمد هذه المرة، وأنه سيظل الأساس لذى يمكن البناء عليه لإحلال السلام بالسودان، وذلك على ضوء الاعتبارات الآتية:

أ- النص فى اتفاق جوبا على سيادة أحكام هذا الاتفاق على الوثيقة الدستورية، حيث اتفق الطرفان على ادراج اتفاقيات السلام الموقعة ضمن الوثيقة الدستورية. وفي حال التعارض فسوف يتم تعديل الوثيقة الدستورية.

ب- إمكانية تطبيق بنود تقاسم السلطة دون عوائق حقيقية. فمن الممكن زيادة عدد الحقائب الوزارية عبر إزالة الدمج بين بعض الوزارات مثل وزارة الصناعة والتجارة، ووزارة الطاقة والتعدين. كما أن الاتفاق يمنح الحركات المسلحة الحق فى اختيار ممثليها فى المجلس التشريعى، دون إملاءات من السلطة الانتقالية. فضلاً عن إمكانية تعديل نسب تقاسم السلطة والثروة والترتيبات الأمنية فى حال الانضمام اللاحق للحركات المسلحة الأخرى إلى الاتفاق.

ت- شدد اتفاق جوبا على رفض الحلول الصفرية أو الإقصائية، وضرورة مشاركة كافة مكونات دارفور والمنطقتين والمسارات الأخرى إلى عملية السلام، بما يعكس التنوع الجغرافي والاجتماعي والمدني لضمان تحقيق التعايش الاجتماعي واستدامة السلام.

ث- تعهد الحكومة بتوفير الاعتمادات المالية اللازمة لضمان تنفيذ الاتفاق، حيث تعهدت بتوفير مائة مليون  دولار أمريكي خلال شهر من تاريخ التوقيع عليه. بالإضافة إلى الالتزام بدفع مبلغ 750 مليون دولار أمريكي سنوياً، وذلك لمدة عشر سنوات، تحول لصندوق دعم السلام والتنمية المستدامة في دارفور.

2-  تعثر تطبيق الاتفاق وتجدد العنف:

أ- لا تزال هناك ظلال من الشك تخيم على العلاقة بين قادة الحركات المسلحة والقادة العسكريين بالمجلس السيادى، خاصة نائب رئيس المجلس “حميدتى”، قائد قوات الدعم السريع، الذي قامت قواته بشن حملات مروعة لقمع حركات التمرد. وهو ما دفع الحركة الشعبية شمال/ جناح عبد العزيز الحلو للمطالبة بأن يشمل قرار حل الفصائل المسلحة قوات الدعم السريع أيضاً، ليصبح هناك جيش واحد للبلاد، وهو أمر بالغ الصعوبة، قياساً بدور قوات الدعم السريع فى تأمين المرحلة الانتقالية الجارية بالبلاد.

ب- تشرذم الحركات المسلحة داخلياً، وإختلاف رؤاها ومواقفها بشأن قضايا المرحلة الانتقالية. فضلاً عن وجود اثنتين من حركات التمرد الأساسية خارج مظلة الاتفاق. وهما جناح عبد العزيز الحلو بالحركة الشعبية لتحرير السودان/شمال، وحركة تحرير السودان/جناح عبد الواحد محمد نور.

  إذ يطالب الأول بتطبيق العلمانية، ومنح منطقة جبال النوبة بجنوب كردفان حق تقرير المصير. فيما دأب الثانى على الاعتراض دون تحديد دوافعه بدقه. وهو ما يمثل امتداداً لموقفه الرافض للاعتراف بإعلان الحرية والتغيير، بحجة أن حركته لم تكن جزءاً منه، وأن انضمامها اللاحق للإعلان سيجعل من أنجزوا الوثيقة أصلاء والآخرين تابعين. كما رفضت حركته التوقيع على الوثيقة الدستورية.

ت- احتمالات تحالف عناصر الثورة المضادة الموالية لنظام الإنقاذ، لأجل عرقلة مسيرة السلام، استناداً لما تملكه من قواعد جماهيرية، ومقدرات مالية وأدوات إعلامية لا يملكها منافسيهم، واحتمالية تعاونها مع بعض القوى الإقليمية الداعمة للنظام السابق، خاصة فى ظل الصعوبات تفكيك دولة الإنقاذ الوطنى العميقة، وتغلغل فلول النظام وعناصر الإخون المسلمين فى مؤسسات الدولة خلال الأعوام الثلاثين الماضية، والإجراءات المطولة التى ربما تستغرقها محاكمة رموز النظام السابق.

ث- وجود الكثير من الصعوبات التى تكتنف تقديم المشتبه فى ارتكابهم لجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية إلى العدالة، وبالتالى فمن المتوقع أن هؤلاء سوف يعملون على تقويض جهود السلام، مثلما حدث بالنسبة لاتفاقات السلام السابقة، التى لم يكتب لها النجاح.

ج- تفاقم الأزمات الاقتصادية بالسودان، وثورة التوقعات لدى المواطنين، وتنامى مطالبهم الفئوية، المتعلقة بتحسين أحوالهم الاقتصادية والاجتماعية، وصعوبة تأمين المساعدات الاقتصادية الدولية، مما يعنى إمكانية تطبيق البنود المتعلقة بتقاسم السلطة، وصعوبة تنفيذ الجوانب المتعلقة بالمشروعات التنموية بالأقاليم المتضررة من الحرب.

فالسودان لا يزال يعانى الآثار السلبية للسياسات المالية البائسة لنظام الإنقاذ والعقوبات الاقتصادية الأمريكية، وهو ما انعكس على موازنة العام 2020 التى تعكس الكثير من المؤشرات السلبية، وأهمها: معدل نمو الناتج المحلى الإجمالى الذى يبلغ سالب 3.1%، وعجز الموازنة الكلى الذى بلغ نحو 254 مليار دولار، وارتفاع معدل التضخم ليصل إلى 144% فى يوليو2020، وتدهور سعر صرف الجنية السودانى مقابل الدولار.

ويزداد الموقف سوءاً مع تمسك واشنطن بإدراج اسم السودان ضمن اللائحة الأمريكية للدول الراعية للإرهاب، والتى تعنى حرمانه من تلقي المساعدات التنموية والقروض من المؤسسات التمويلية الدولية، والاستفادة من الإعفاءات الأمريكية المتعلقة بالديون الخارجية. والمشكلة أن الإدارة الأمريكية قد أضافت لشروطها المسبقة لرفع اسم السودان من لائحة الإرهاب شرطاً جديداً هو الاعتراف بإسرائيل والتطبيع معها، وهو أمر من المؤكد أنه سوف تكون له تبعاته السلبية على شرعية السلطة الانتقالية، خاصة أنها لا تحمل تفويضاً شعبياً بذلك.

وختاماً، فإنه بالرغم من وجود كثير من التحديات التى تواجه إنفاذ اتفاق جوبا، إلا أنه من المرجح أن يظل هذا الاتفاق هو الأساس لتسوية الصراع بالسودان، وأن يتوالى انضمام الحركات المسلحة إليه، خاصة أنه نابع من الإرادة السياسية لأغلب القوى السودانية، وأن عدم اللحاق بقطار السلام قد يؤدى إلى إجهاض تجربة التحول السياسى بالسودان، وتفويت الفرصه على معارضيه للمشاركة فى السلطة خلال المرحلة الانتقالية، وهو ما يضعف حظوظهم لدى مشاركتهم فى الانتخابات التى ستعقب المرحلة الانتقالية أو تقاسم الثروة.

وبالفعل تعهد رئيس الوزراء السودانى بمواصلة المفاوضات مع معارضى الاتفاق، خاصة جناح عبد العزيز الحلو. كما أن حركة تحرير السودان جناح عبد الواحد نور ليس بوسعها أن تستمر فى معارضة الاتفاق، فى ظل الضغوط الفرنسية على عبد الواحد نور المقيم بباريس، والانشقاقات الداخلية التى تواجهها حركته، والتى قد تؤدى لعزله من قيادتها، وإفساح المجال لقيادة جديدة أكثر مرونة، بعدما أعلن فصيل من قادة الحركة فى مايو2019 تجميد صلاحيات عبد الواحد نور، وتكوين مجلس قيادى جديد مفوض من المؤسسين والقيادة العامة لجيش الحركة، والادارة العامة للنازحين واللاجئين، وممثلى الحركة بدول المهجر، ولجان الطلاب والشباب لادارة شئون الحركة مؤقتاً لحين انعقاد مؤتمرها العام، مما يؤكد الانشقاق التنظيمى بالحركة، ويضعف من قدرتها على الاستمرار خارج معادلة اتفاق جوبا. 

لكن من جهة أخرى، فإن إنفاذ اتفاق جوبا يرتهن بوجود إرادة حقيقية فى إحلال السلام، واتخاذ إجراءات متبادلة لزيادة مستوى الثقة بين أطرافه، مع استمرار الدعم السياسى والاقتصادى الخارجى للسلطة الانتقالية بالسودان.