كتبت – أسماء حمدي

في قلب المدينة العتيقة بتونس العاصمة، يقع سوق البلاط المختص بالأعشاب والعقاقير الطبية بتاريخه الغني حاملًا بين جنباته كثيرًا من أسرار وحكايات الآباء والأجداد من التجار.

منذ ساعات الصباح الأولى، لا تهدأ الحركة داخل محلات “سوق البلاط” التي يزيد عمر بعضها عن القرن من الزمان، حيث يبحث الناس عن شفاء بأثمان زهيدة في أكثر من 40 محلًا تصطف جنبًا إلى جنب، وتحوي داخلها الأعشاب كافة.

السوق العتيق

من داخل المحلات التجارية العتيقة في سوق البلاط، يحكي المعالجون بالأعشاب التاريخ الغني والرائع لتجارتهم القديمة التي يفتخرون بها، وأيضًا يتشاركون مخاوفهم من أن تختفي، يقول بائع الأعشاب الطبية في هذا الحي التاريخي، مراد بوغانمي: إن “سوق البلاط هو قلب المدينة”.

وعلى مدى قرون، حافظت الأعشاب على أجساد الناس الذين يعيشون هنا، فمنذ أن تطأ قدمك سوق البلاط، تجد تجد حزمًا من الزعتر البري والمريمية والخشخاش والثوم والأوكالبتوس (الكافور) تصطف على جدران هذا السوق الغامض منذ 700 عام.

عندما دخل كورونا تونس أوائل عام 2020، قال بعض المعالجين بالأعشاب: إن الطلب على الأعشاب الطبية ارتفع، مع رغبة أعداد كبيرة من الناس في تقوية جهاز المناعة لديهم بمواد طبيعية، لكن العادات تتغير، وبدون أي دعم من الدولة أصبحت هذه التجارة معرضة للخطر.

قبل خمسة آلاف عام وثق سومريون، بلاد ما بين النهرين، خصائص الأعشاب المعززة للصحة، وأوضحت هذه النصوص الممارسة القديمة للأعشاب، إذ تلتقي البيئة والبيولوجيا والكيمياء معًا، وخلال آلاف السنين التي تلت ذلك تم انتقاء الأعشاب الطبية وإعدادها للمساعدة في معالجة عدد من الأمراض.

تاريخ طب الأعشاب

أسفل شارع باشا هامبة، يمتلك توفيق بن يعقوب متجرًا ذا طابع فوضوي لاستوديو فنان، ممتلئ بالأعشاب المعلقة والقوارير والزجاجات واللوحات وأكياس الأعشاب القديمة ورائحة البخور الحلوة.

لدى توفيق شغف بالفن والتاريخ والموسيقى، يروي التاجر قصته -عبر الزغب الهادئ للراديو بينما تمر الدراجات البخارية- قائلًا: “عندما كنت صبيًا كنت أتنزه مع والدي الليبي في الجبال الخضراء بالقرب من بنغازي، حيث تعرفت على الأعشاب الطبية، وكان يروي لي كيف طور الطبيب التونسي ابن الجزار في القرن العاشر طب الأعشاب في تونس وعبر شمال إفريقيا”.

وتابع بن يعقوب: إنه بعد العصر الذهبي للإسلام ركد الطب في جميع أنحاء العالم الإسلامي مقارنة بأوروبا، حدث ذلك بسبب ضعف المنح الدراسية المؤسسية، مضيفًا: “لقد فقدنا المعرفة بهذا العلم عندما فقدنا النصوص، اليوم يتعلم أطفالنا عن ابن الجزار، ولكن كتاريخ وليس للتدريب العلمي”.

مخاوف من اندثار التراث

في مكان قريب، في متجره المجاور لمسجد الخلوية بلحسن، يرى شوقي الفوت، تاجر أعشاب آخر، مهنته كخيط في تاريخ تونس الغني والمعقد، ويوضح أن الأتراك العثمانيين هم من أسسوا طب الأعشاب هنا منذ القرن السادس عشر إلى القرن الثامن عشر، وتعتبر ممارسته جزء من تراث تونس، “ومثلما لدينا تراث في الملابس واللغة، لدينا طب عشبي، إنه شيء نحتاج إلى الاحتفاظ به”.

رغم تميز سوق البلاط وإقبال المرضى عليه لشراء الأعشاب الطبية، إلا أن الهيئات الطبية التونسية لا تؤكد ولا تنفي نجاعة هذه الأعشاب، ومع تطور الأدوية الكيميائية يمكن أن يبدو هؤلاء المعالجون بالأعشاب حِرفيين، يقول تاجر الأعشاب سمير بن يوسف -الذي ورث أعمال والده وعلاج المرضى في سوق البلاط لمدة 20 عامًا- “نحن نفتقر إلى الدعم، والتهميش بهذه الطريقة أمر محبط”.

في حديث لصحيفة “الجارديان” البريطانية، يضيف بن يوسف: “قبل مائة عام، كان يصطف على جانبي هذا الطريق الممتد حتى مسجد “الزيتونة” بأكمله عشاق الأعشاب، وكان يتجمع العشرات من الناس الذين يذهبون لجمع الأعشاب، لكن الشباب اليوم لا يريدون العمل في هذه التجارة، بالإضافة إلى أن كبار التجار لا يريدون نقل معرفتهم، لذلك سوف تختفي”.

الشعوذة السوداء

هناك بعض المعالجين بالأعشاب الأصغر سنًّا، مثل “ياسين بن موسى”، وهو في الثلاثينيات من عمره، و يعتقد أن الحداثة تقدم مزايا، يقول: “قبل ذلك كنت أعمل فقط مع الأعشاب التي تنمو في تونس، الآن ومع الانتشار الواسع الذي حققه الإنترنت يمكنني الحصول على أعشاب من الخارج عبر الإنترنت”، ومن بين أرفف الأدوية العشبية، التي تشمل القرنفل واليانسون وبذور الشيا، يظهر بن موسى شهادة للعلاج بالنباتات من أكاديمية الطب التكميلي.

من جانبه، أشار سمير بن يوسف إلى أن سمعة تجار الأعشاب قد تحدث مشكلة، فهم مرتبطون بالسحر الأسود، حيث تبيع العديد من المحلات جثث السلاحف على أنها تمائم الحظ، ويُزعم أن البعض يبيعون جثث الإغوانا والقنفذ المسحوقة، وهناك من يبيع قذائف الراعي وبذور حبة البركة السوداء لدرء العين.

يقول توفيق بن يعقوب: “إن كل الأعشاب التي تباع في السوق، مثل كل المواد التي تباع في العالم، يمكن أن تستعمل للخير والشر معًا”، وأشار إلى أن بعض الناس يخلط بين الدواء والبخور والعلاج الروحاني الذي فتح الباب لما يسمى اليوم عقاقير السحر.

وشدد بن يعقوب على أن السوق غني عن هذه المواضيع لأن ما يباع في السوق هو المواد بحالتها الطبيعية، ولا يحتاج من يعملون فيه أن يشوهوا وجهًا مشرقًا للعلم في تونس بحكايات كهذه.

وعلى الرغم من علمانيته، لا يزال الإيمان الروحي يؤثر بقدر كبير على المجتمع التونسي في الطب، وفيما تبنت تونس الممارسات الغربية إلى حد كبير، تستمر العلاقة بين الروحانيات والشفاء.

الشفاء في الطبيعة

ينبت في تونس أكثر من 200 نوع من النباتات البرية التي تستخدم في الوصفات الطبيعية أو تدخل في تركيب أنواع عديدة من العقاقير الطبية.

وكان الأشخاص الذين يعملون في السابق بجمع النباتات والبذور من جميع أنحاء البلاد لشفاء المرضى، يجدون على سبيل المثال الشيح لعلاج أمراض السكري، بين الصخور الوعرة لجبال أوست الجنوبية.

في الوقت نفسه يعمل بعض الأطباء المتخصصين في تونس، داخل مختبرات متواضعة في الغالب لإنتاج عقاقير طبية مستخلصة من أعشاب ونباتات، والسلطات التونسية من الدول القليلة التي تمنح تراخيض لمثل هذه المختبرات.

ويأمل الباحثون والأطباء الذين يعملون في إنتاج العقاقير المستخرجة من النباتات والأعشاب الطبيعية أن تدعم الحكومة التونسية جهودهم في مجال البحث بمختبرات حديثة التجهيزات، وأن تضع حدًّا للأنماط المختلفة لما يسمى “الطب الروحاني”.