كتبت – أماني ربيع

توفي رئيس الأساقفة ديزموند توتو، رجل الدين الإنجليكاني الحائز على جائزة نوبل للسلام، والذي جعلته روح الدعابة والعمل الدؤوب من أجل الحقوق المدنية والإنسانية زعيماً محترماً خلال الكفاح لإنهاء الفصل العنصري في موطنه جنوب أفريقيا.

كان توتو في حالة صحية سيئة منذ سنوات، ومنذ 2013، أدخل المستشفى عدة مرات، حتى توفي عن عمر ناهز 90 عاما.

وأعرب رئيس جنوب أفريقيا رامافوزا سيريل، أمس الأحد عن تعازيه لأسرة توتو وأصدقائه، واصفا إياه بـــ”الرجل الوطني الذي لا نظير له”.

وقال رامافوزا: “كان رجلا يتمتع بذكاء ونزاهة لا تقهر ضد قوى الفصل العنصري، وكان أيضًا رقيقًا وعطوفا مع أولئك الذين عانوا من الاضطهاد والعنف في جميع أنحاء العالم”، وفقا لشبكة سي إن إن.

وأعربت مؤسسة نيلسون مانديلا  عن حزنها لخسارة توتو في بيان قالت فيه: “لقد كان أكبر من الحياة ، وبالنسبة للكثيرين في جنوب أفريقيا وحول العالم كانت حياته نعمة”.

وأضافت: “مساهماته في النضال ضد الظلم محليًا وعالميًا، لا يدانيها سوى عمق تفكيره في صنع مستقبل أفضل للمجتمعات البشرية.”

وقال ثابو ماكجوبا، رئيس أساقفة كيب تاون الحالي وعاصمة الكنيسة الإنجليكانية بجنوب أفريقيا: إن الكنيسة ستخطط لطقوس جنازة توتو وإحياء ذكراه.

وأضاف، في بيان: “يتمثل إرث ديزموند توتو في القوة والشجاعة المعنوية والوضوح، لقد شعر بالناس، وبكى علنًا وبمفرده لأنه شعر بألم الناس، وكان يضحك بفرح عندما يشاركهم فرحتهم.”

وقال جون ستينهوزين، زعيم حزب التحالف الديمقراطي المعارض في جنوب أفريقيا: “لقد تركنا عملاق جنوب أفريقي حقيقي اليوم، لكن روحه ستعيش في اللطف اليومي الذي نظهره نحن الجنوب أفريقيين لبعضنا البعض، وفي جهودنا المستمرة لبناء جنوب أفريقيا موحدة وناجحة وغير عنصرية للجميع، عندما ضللنا طريقنا كان البوصلة الأخلاقية التي أعادتنا”.

وقال الرئيس الكيني أوهورو كينياتا: إن وفاة توتو تعتبر “ضربة كبيرة ليس فقط لجمهورية جنوب لأفريقيا، ولكن للقارة الأفريقية بأكملها حيث يحظى باحترام عميق ويُحتفى به باعتباره صانع سلام”.

وكتب زعيم المعارضة الأوغندية بوبي واين على تويتر: “رحل عملاق”.

وأضاف: “نشكر الله على حياته الهادفة التي عاشها في خدمة الإنسانية، لترقد روحه في سلام، تعازي لجميع الناس في جميع أنحاء العالم الذين تأثروا بحياته وخدمته”.

صوت الشعب

لستة عقود، كان توتو، أحد الأصوات الرئيسية التي طالبت حكومة جنوب أفريقيا بإنهاء نظام الفصل العنصري، التي كانت السياسة الرسمية في البلاد، وبعد انتهاء الفصل العنصري في أوائل التسعينيات وانتخاب نيلسون مانديلا الذي سجن لفترة طويلة رئيسًا للبلاد ، تم تعيين توتو رئيسًا للجنة الحقيقة والمصالحة في جنوب أفريقيا.

أدى عمل توتو في الحقوق المدنية وحقوق الإنسان إلى تكريم مرموق من جميع أنحاء العالم، منحه الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما وسام الحرية الرئاسي في عام 2009.

وفي عام 2012 ، حصل توتو على منحة قدرها مليون دولار من مؤسسة مو إبراهيم “لالتزامه مدى الحياة بقول الحقيقة للسلطة”، وفي العام التالي، حصل على جائزة تمبلتون “لعمله المستمر في تعزيز المبادئ الروحية مثل الحب والتسامح الذي ساعد على تحرير الناس في جميع أنحاء العالم”.

وحصل على جائزة نوبل للسلام عام 1984، على خطى مواطنه، ألبرت لوتولي، الذي حصل على الجائزة في عام 1960.

عززت جائزة نوبل مكانة توتو كشخصية فعالة في جنوب أفريقيا، وساعدته في تأجيج الاحتجاجات ضد الفصل العنصري، وبجانب الغضب من هذه السياسة داخل جنوب أفريقيا، ساهم في زيادة الرفض العالمي واسع النطاق لهذه السياسة العنصرية، حيث تم حظر البلاد من المشاركة بالألعاب الأولمبية من عام 1964 حتى عام 1988، بسبب قيام حكومة جنوب أفريقيا بإخماد المعارضة وحظرها حزب المؤتمر الوطني الأفريقي وسجن قادته، بما فيهم مانديلا.

في تلك الفترة الحرجة، كانت الكنيسة أكثر من مجرد مكان لممارسة الشعائر الدينية، وبحسب القس فرانك تشيكاني، الرئيس السابق لمجلس الكنائس في جنوب أفريقيا وزميل توتو: “وصلنا إلى مرحلة كانت فيها الكنيسة حامية للشعب، وصوت الشعب، وأصبح الأمر متروكا لرجال الدين لأخذ زمام المبادرة في التحدث علانية”.

نضال ضد الظلم

في الخمسينيات من القرن الماضي ، استقال توتو من منصبه كمدرس احتجاجًا على القيود الحكومية على تعليم الأطفال السود، الذي يعرف بـ “قانون تعليم البانتو”، ورُسم  بالكنيسة عام 1960 وقضى فترة الستينيات وأوائل السبعينيات بين لندن وجنوب أفريقيا.

في عام 1975 تم تعيينه عميدًا لكاتدرائية القديسة ماري في جوهانسبرج وعلى الفور استخدم منصبه الجديد للإدلاء ببيانات سياسية.

سار توتو على خطى تريفور هدلستون، وهو كاهن وناشط  في مناهضة الفصل العنصري كان يعمل في أحد الأحياء الفقيرة في جوهانسبرج خلال خمسينيات القرن الماضي، وخلال مسيرته في هذا الطريق ألهم الآلاف من مواطنيه، وغيرهم حول العالم.

ولد ديزموند مبيلو توتو في 7 أكتوبر 1931 في كليركسدورب ، وهي بلدة تقع في مقاطعة ترانسفال بجنوب أفريقيا، كان والده مدرسًا وكانت والدته عاملة منزلية، وكان الشاب توتو يخطط ليصبح طبيبًا، ويرجع الفضل في ذلك جزئيًا إلى معاناته خلال صباه من نوبة من مرض السل، ألزمته المستشفى لأكثر من عام، لكن والديه لم يتمكنا من دفع رسوم كلية الطب، لذا اتجه للتدريس.

وكانت الحكومة تقدم منحا دراسية لمن يريدون أن يصبحوا مدرسين، وقال توتو -في تصريحات صحفية فيما بعد- “أصبحت مدرسًا ولم أندم على ذلك”.

وأصيب توتو بالرعب من حالة مدارس السود في جنوب أفريقيا، وشعر بالغضب عندما تم تمرير قانون التعليم في بانتو عام 1953 الذي يفصل عنصريًا في نظام التعليم في البلاد.

واستقال احتجاجا، بعد فترة وجيزة، ووافق أسقف جوهانسبرج على قبوله للكهنوت، بسهولة فهو رجل أسود حاصل على تعليم جامعي، وهو أمر نادر في الخمسينيات، وتولى مهنته الجديدة.

كانت الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي أوقاتًا مضطربة في جنوب أفريقيا، في مارس 1960، قُتل 69 شخصًا في مذبحة شاربفيل ، عندما فتحت الشرطة النار على حشد من المتظاهرين.

وحصل لوتولي، زعيم حزب المؤتمر الوطني الأفريقي الذي دعا إلى اللاعنف، على جائزة نوبل للسلام في وقت لاحق من ذلك العام ، بينما مُنع من مغادرة البلاد، لكن سمحت له الحكومة أخيرًا بالذهاب لبضعة أيام لقبول جائزته.

اعتقل مانديلا -الذي كان آنذاك مثيرا للجدل بقيادته جناحًا مسلحًا لحزب المؤتمر الوطني الأفريقي- وحوكم وحُكم عليه في عام 1964 بالسجن مدى الحياة.

 في أوائل السبعينيات، أجبرت الحكومة الملايين من السود على الاستقرار فيما أطلق عليه “البانتوستانات”.

أمضى توتو العديد من هذه السنوات في بريطانيا العظمى، يشاهد من بعيد ، لكنه عاد أخيرًا في عام 1975، عندما تم تعيينه عميدًا لكاتدرائية سانت ماري في جوهانسبرج.

في العام التالي تم تكريسه أسقف ليسوتو، واكتسب شهرة بسبب رسالة بعثها في مايو 1976 إلى رئيس الوزراء، يحذر فيها من الاضطرابات، وقال عن تلك الفترة: إن الأوضاع في البلاد كانت مخيفة وقتها.

بعد شهر، انفجرت أعمال عنف في سويتو، قتل خلالها أكثر من 600 شخص، وتزايد قمع الحكومة، وتزايدت اعتقالات السود، وتم سن قوانين صارمة.

في ذلك، الوقت بدأ توتو في مكافحة الفصل العنصري بشكل أكثر صراحة، وقال أليكس بورين العضو السابق بلجنة الحقيقة والمصالحة: “كان مكروهًا ، خاصة من جانب البيض في جنوب أفريقيا، بسبب الموقف الذي اتخذه”، وفقا لشبكة “سي إن إن”.

وأضاف تشيكاني -زميل مجلس الكنائس في جنوب أفريقيا- “كانت سلطته الأخلاقية سلاحه ودرعه معًا ، مما مكنه من مواجهة مضطهديه بحصانة نادرة”.

أصبحت جنوب أفريقيا دولة منبوذة، واحتج المتظاهرون في الولايات المتحدة على استثمار الشركات ا لأمريكية فيها، وأيد الكونجرس موقف الشارع بتعديل رانجيل عام 1987، وأقامت الأمم المتحدة مقاطعة ثقافية، وأدانت الأغاني الشعبية ، مثل “Free Nelson Mandela” لفرقة AKA الخاصة، و Artists United Against Apartheid’s Sun City ، سياسات البلاد.

ورغم ذلك تزايد الظلم، والاغتيالات، والتفجيرات، وفي عام 1988، بعد عامين من تعيينه رئيس أساقفة كيب تاون، ليصبح أول رجل أسود يترأس الكنيسة الإنجليكانية في جنوب أفريقيا، تم القبض على توتو أثناء تقديم التماس ضد الفصل العنصري إلى برلمان جنوب أفريقيا.

الخلاص

لم ينل السجن من عزيمة توتو، وفي العام التالي ، قاد مسيرة من 20 ألف شخص شخص في كيب تاون ضد الفصل العنصري.

وفي عام 1989 أيضًا ، بدأ الرئيس الجديد، ف.دبليو.دي كليرك، الذي توفي الشهر الماضي، في تخفيف قوانين الفصل العنصري، وأخيرًا، في 11 فبراير 1990، أطلق سراح مانديلا من السجن بعد 27 عامًا.

بعد أربع سنوات، في عام 1994، تم انتخاب مانديلا رئيسًا،  قارن توتو السماح له بالتصويت لأول مرة بـ “الوقوع في الحب”، وقال بعد ولادة طفله الأول، كان انتخاب مانديلا كرئيس جديد للبلاد أعظم لحظة في حياته.

وفي تصريحات صحفية بعدها قال: “وقتها قلت، لا أمانع إذا مت الآن”.

في عام 1995، عينه مانديلا رئيسًا للجنة الحقيقة والمصالحة لمعالجة انتهاكات حقوق الإنسان في سنوات الفصل العنصري، وقدمت اللجنة تقريرها إلى الحكومة في عام 1998، وهو نفس العام الذي أسس فيه توتو صندوق ديزموند توتو للسلام.

عاد إلى التدريس، وأصبح أستاذًا زائرًا في جامعة إيموري في أتلانتا لمدة عامين، ثم ألقى محاضرات في مدرسة الأسقفية اللاهوتية في كامبريدج ، ماساتشوستس.

نشر عددًا قليلاً من الكتب، منها “لا مستقبل بدون غفران” (1999)، “الله ليس مسيحيًا” (2011) ، وكتاب للأطفال “ديزموند والكلمة القوية جدًا” (2012).

تقاعد من الخدمة العامة في عام 2010، ودعا إلى مقاطعة إسرائيل في عام 2014، وقال: إن الرئيس الأمريكي السابق جورج دبليو بوش ورئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير يجب “إجبارهما” على المثول أمام المحكمة الجنائية الدولية محاسبة على أفعالهما فيما يتعلق بحرب العراق.

وبجانب نضاله، تميز أيضًا بروح الدعابة التي جسدها في ضحكة مميزة وروح دعابة فريدة

على الرغم من كل الثناء والشهرة، كان يقول دائما إنه لا يشعر بأنه “رجل عظيم،  عندما تبرز وسط حشد من الناس، يكون ذلك دائمًا فقط لأنك تُحمَّل على أكتاف الآخرين”.

عاش توتو في زواج مستقر دام أكثر من 60 عاما من زوجته نوماليزو ليا ، وأنجب منها أربعة أطفال، تريفور وتيريزا ونعومي ومفو.