كتبت – أسماء حمدي

وسط تفشي جائحة كورونا في بلدان عديدة في أفريقيا، يستمرّ مرض الحصبة في الانتشار بصمت تارك خلفه العديد من الخسائر في الأرواح، وغالبا ما تقع ضحيته أعداد كبيرة من الأطفال.

في جمهورية الكونغو الديمقراطية، تسبّبت حالات تفشي المرض بإصابة مئات الآلاف من الأطفال وقتل الآلاف، وهم وهم محرومون بالكامل من فرصة الحصول على الرعاية الطبية المناسبة، وأقلّ ما يحصلون عليه في بعص الأحيان هو معاينة من معالج تقليدي.

وفي آخر عملية تفش للمرض والتي انتهت في سبتمبر الماضي، وصل عدد الإصابات بالحصبة إلى نحو 440 ألف حالة إصابة، وتوفي ما يقرب من 8 آلاف شخص، معظمهم من الأطفال، بسبب الحصبة بين عامي 2018 و 2020 في البلاد، وفقا لبيانات منظمة الصحة العالمية.

قنبلة موقوتة

بسبب الاضطراب الناجم عن وباء فيروس كورونا، يفقد العديد من الأطفال فرص التلقيح ضد الحصبة، مما يثير المخاوف من احتمال تفشي المرض بشكل كبير.

وحذرت منظمة الصحة العالمية «دابليو إتش أو» من أنه مع فقدان ما يقدر بنحو 140 مليون لقاح ضد الحصبة في جميع أنحاء العالم بسبب الاضطراب الناجم عن كوفيد 19، فإن البلدان التي لديها أنظمة رعاية صحية هشة، مثل جمهورية الكونغو الديمقراطية، يُمكن أن تكون في وضع «قنبلة موقوتة» من تفش محتمل.

وفي مدينة بوكافو الشرقية، وهي مركزا تجاريا مزدحما وموطنا لحوالي مليون شخص، تقول أوغيني نجابو نزيغير، (57) عاما وهي رئيسة قسم الولادة في مستشفى سكيبورن :«لم نتمكن في الشهرين أو الشهور الثلاثة الماضية من إجراء التطعيمات الروتينية ضد الحصبة، وهذا أمر مقلق، لا يتطلب الأمر سوى طفل واحد مريض ليصبح المجتمع بأكمله في خطر».

وفي حديث لـ«بي بي سي» البريطانية، تقول نزيغير، وهي أم لـ 11 من الأبناء، والتي كرست أكثر من 3 عقود من حياتها لعلاج الأطفال، في بوكافو: «كنت أعلم أنني أريد أن أصبح ممرضة في سن مبكرة جدا، لذلك فهي ليست مجرد وظيفة ولكنها مهنة لرعاية الناس».

تحكي أوغيني نجابو نزيغير «رغبتي في أن أصبح ممرضة ولدت في سن الثانية عشرة، عندما أصيبت بمرض شديد ودخلت على أثره المستشفى».

تضيف: «أتذكر أن الممرضة التي كانت تعالجني كانت تستخدم مقياس حرارة زئبقيا قديما كان عليك هزه قبل قياس درجة الحرارة، لقد فتنت به وفكرت.. هذا ما أريد أن أفعله في حياتي».

وتعد بوكافو مركزا لتوزيع اللقاحات التي تصل من العاصمة كينشاسا قبل إرسالها إلى المدن الصغيرة القريبة مثل بونياكيري.

صدمة وخوف

داخل «المنطقة الحمراء»، تقع مدينة بونياكيري الصغيرة في شرق البلاد، والتي ابتليت بعقود من انعدام الأمن والعنف، ويقول ماروكين تشوماك بوروكو، وهو كبير الممرضين في مدينة في بونياكيري: «لقد مرت 4 أشهر منذ أن توفرت لدينا لقاحات الحصبة، وكان لدينا نقص في لقاحات أخرى في الوقت نفسه».

يقول كبير الممرضين: «إن الثقة أمر بالغ الأهمية للعمل، لأن الناس يعيشون في حالة صدمة وخوف، لكن الأخبار والشائعات الكاذبة مؤخرا حول لقاحات كوفيد أدت إلى رفض بعض العائلات تطعيم أطفالهم تماما».

يضيف بوروكو:«شعر كثيرون في المجتمع بالقلق عندما ظهرت أخبار كوفيد 19 لأول مرة حيث قيل للناس إن لقاح كوفيد 19 سيتم تضمينه مع اللقاحات الروتينية الأخرى، لذلك لم يرغب الآباء في تلقيح أطفالهم من جميع الأمراض الأخرى بدافع الخوف».

وفيما يتعلق بالنقص الإقليمي في اللقاح، رفضت السلطات التعليق، لكن وكالات الإغاثة تقول إن ذلك يرجع إلى نقص الاستثمار.

من جانبها قالت توماس نويل جاها من منظمة الأمم المتحدة للطفولة «يونيسيف» في الكونغو الديمقراطية: «في الأشهر القليلة الماضية، كان هناك نقص في بعض اللقاحات التي دفعت الحكومة ثمنها، لم يتم إيقاف التطعيم ضد الحصبة ولكن كان هناك تباطؤ في برامج التلقيح».

قاتل صامت

وتعد الحصبة من أكثر الأمراض المعدية التي يمكن الوقاية منها في العالم، وهي قاتل صامت وأكثر عدوى بكثير من كوفيد 19، وينتشر المرض عن طريق التلامس والقطرات التي يمكن أن تبقى في الهواء لساعات.

لم تتأثر جمهورية الكونغو الديمقراطية فقط بالوباء، فما زال المرض القاتل شائعا، وهناك حالات تفش للمرض حاليا في باكستان واليمن، بالإضافة إلى مخاوف من احتمال انتشار المرض في منطقة تيجراي في إثيوبيا.

فقد تخلفت العديد من البلدان عن برامج التطعيم الهامة مما يهدد صحة ما يقدر بـ 228 مليون شخص، معظمهم من الأطفال، المعرضين لخطر الإصابة بأمراض مثل شلل الأطفال والحمى الصفراء والحصبة، ومن بين أكثر من 20 دولة أوقفت مؤقتا حملات التطعيم ضد الحصبة بالكامل العام الماضي، كانت هناك 15 دولة في إفريقيا.

تقول الدكتورة ناتاشا كروكروفت، كبيرة المستشارين لمرض الحصبة والحصبة الألمانية في منظمة الصحة العالمية: «يمكن أن يصاب الطفل بالحصبة ويموت أينما كان في العالم، ولكن احتمالية الوفاة أعلى بكثير للأطفال الذين تقل أعمارهم عن سنة واحدة، وإذا كانت هناك ضغوط أخرى مثل سوء التغذية أو نقص فيتامين (أ)، فإن ذلك يزيد حقا من خطر الوفاة».

تضيف كروكروفت: «على الرغم من تراجع تغطية اللقاح الروتينية في الربعين الأولين من العام الماضي، تمكنت العديد من البلدان من تحقيق النجاح، لكننا لا نعرف ما إذا كان قد تم الوصول إلى جميع الأطفال في النصف الأول من هذا العام، وكثيرون منا في مجال الحصبة قلقون حقا من أننا نواجه قنبلة موقوتة مع بعض البلدان».

مناعة القطيع

في عام 2019، ارتفعت الإصابات بالحصبة في جميع أنحاء العالم لتصل إلى أعلى عدد من الحالات المبلغ عنها منذ 23 عاما مما أدى إلى وفاة ما يقرب من 208 ألف شخص، ويرجع ارتفاع عدد الحالات وعدد الوفيات يبشكل أساسي لعدم تلقيح الأطفال في الوقت المناسب.

وتعد الكونغو الديمقراطية واحدة من حوالي 50 دولة معرضة لخطر تفشي مرض الحصبة الحاد في السنوات القليلة المقبلة، حيث يوجد صراع وأنظمة رعاية صحية ضعيفة وموارد محدودة، كما يعد توفير جرعة واحدة لكل طفل في البلد دون سن الخامسة أمرا صعبا، وفقا لمنظمة الصحة العالمية.

تقول أوغيني نجابو نزيغير:«يتم تطعيم الأطفال عادة ضد الحصبة هنا في عمر 9 أشهر بحقنة واحدة 0.5 مليمتر».

من جانبها تشير الدكتورة كروكروفت، إلى أن الوقاية من الحصبة تعتمد على «مناعة القطيع» إذ تتمتع الغالبية العظمى من السكان بالحصانة مما يقلل من فرصة انتشار الفيروس لمن هم أكثر عرضة للخطر.

لكن في الكونغو، التي يوجد بها أحد أعلى معدلات المواليد في العالم، يصعب تحقيق ذلك حيث أن مجرد طفل واحد غير محصن يخاطر بنقل الفيروس إلى الجيل التالي من الأطفال حديثي الولادة، وتقول كروكروفت: «كل حالة وفاة بسبب الحصبة هي وفاة يمكن تجنبها، وتفشي المرض هو علامة على حدوث خطأ ما، لذلك نحن نحث البلدان على الاستعداد لما نعتقد أنه قادم».