أماني ربيع

خصصت الحكومة السودانية عام 2022، للاحتفاء بالموسيقار والمطرب الراحل محمد وردي، بمناسبة مرور 10 سنوات على رحيله، حيث توفي في فبراير عام 2012.

عام وردي

وفي يوليو الماضي، أطلق رئيس الوزراء السوداني عبدالله حمدوك احتفالية “مهرجان محمد وردي لعام 2022″، باعتبار الراحل كان مشروعا فنيا ضخما ساهن في تشكيل وجدان السودانيين.

وتعهد حمدوك بتوفير كل ما يلزم لخروج الاحتفالات بالأيقونة السودانية تليق بقيمته وما قدمه للبلاد، ويشمل ذلك إقامة مهرجانات فنية تتمحور حول فن وردي وكذلك إقامة المركز الثقافي لمحمد وردي

ولعقود ساهم وردي في تشكيل وجدان السودانيين وإشعال حماستهم الوطنية، كما عكس وحدة السودان الوطنية، ودافع بالكلمة والنغم عن قيم الحرية والسلام في السودان، وارتبطت أغانيه بالنضال الوطني السوداني، وكانت وقودا للثورات السودانية الثلاث في أعوام 1964، و1985، و2019.

كان وردي طوال مسيرته الحافلة داعما للحرية والديموقراطية، غنى للأرض والإنسان والحب، وحتى رحيله ظل يُلقب بفنان السودان وأفريقيا الأول.

وعلى مدى 60 عاما كانت أغانيه داعما لوحدة السودان، عندما شارك وردي في حفل استقلال جنوب السودان عام 2011 كان حزينا على الانفصال وعبر عن ذلك بأغنية: “أبدا ما هنت يا سوداننا يوما علينا”.

ومن فرط حب الجنوبيين لوردي، ظلت أغانيه تبث عبر تلفزيون جنوب السودان حتى بعد الانفصال.

ورغم أن مسيرته بدأت منذ زمن بعيد إلا أن أصداء موسيقاه لا زالت تلهم شباب اليوم وتجد صدى لديهم، تلهب قلوبهم وعقولهم عاطفة وثورة.

 وكما ألهمت أغانيه شباب ثورة 1964 السودانية قبل 55 عاما؛ فقد كانت أيضا محركا لوجدان شباب ثورة 2019 التي أطاحت بنظام عمر البشير.

نداهة الفن

ولد محمد وردي عام 1932 بقرية صواردة في أقصى شمال السودان، وفقد والديه في سن مبكرة، ودرس في المدرسة الأولية بقريته، ثم ذهب إلى المدرسة المتوسطة ثم الثانوية في مدينتي عطبرة وشندي شمال الخرطوم، وبدأ حياته مدرسا للغة العربية، بعد تخرجه من معهد التربية، لتأهيل المعلمين، بشندي.

 كان مغرما بالعزف على العود وتقليد كبار مطربي السودان القدامى، وبعد انتقاله إلى الخرطوم  في بداية الخمسينيات عمل بالفن كهاو، وفي عام 1957، بعد استقلال السودان عن الاستعمار البريطاني، زار أول رئيس وزراء وطني مدينة شندي، التي كان وردي عمل مدرسا بها، وبادر وردي باستعراض موهبته في الغناء أمامه، واختار أغنية للشاعر عبد الواحد يوسف تقول:

 “اليوم نرفع راية استقلالنا ويسطر التاريخ مولد شعبنا

 يا إخوتي غنوا لنا، يا نيلنا ويا أرضنا الخضراء، يا حقل السنا”.

ولم يكن الشاب وقتها يعرف أن هذه اللحظة ستغير حياته إلى الأبد ويتحول من مدرس لا يعرف به أحد إل فنان السودان الأول.

وفي نفس العام، 1957، اعتمدته الإذاعة السودانية كمن هاو بعد اجتياز اختبارات الصوت، وسجل في العام الأول 17 أغنية فتحول إلى فنان محترف في إذاعة “أم درمان”، التي بدأت في منحه مقابل مادي مقابل أغانيه.

ومع احتراف الغناء عمل وردي مدرسا بالمدارس الوسطى ثم الثانوية العليا في حلفا وشندي وعطبرة والخرطوم، وعندما شعر أن العمل بالتدريس يقيد شغفه بالفن، تقدم باستقالته عام 1959 ليتفرغ للغناء، وكانت مدرسة الديوم الشرقية بالخرطوم آخر مدرسة عمل فيها.

ساهم وردي في تطوير الأغنية السودانية، وأدخل القالب النوبي بنغماته وأدواته الموسيقية ومنها الطنبور إلى الطرب السوداني، وغنى باللغتين النوبية والعربية، ومنح الأغنية السودانية نفسا ثوريا ومد جذورها في أفريقيا، ونال شهرة واسعة بالقارة السمراء رغم غنائه باللغة العربية.

غنى وردي من كلمات العديد من الشعراء، لكنه تعاون بشكل مكثف مع الشاعرين إسماعيل حسن ومحجوب شريف، ومثل إسماعيل حسن الجانب العاطفي في أغاني وردي في الخمسينيات، ومن أشهر الأغنيات التي تعاونا فيها سويا “الوصية”، وكذلك “سؤال” و “المستحيل” و”خاف من الله” و”بعد إيه”.

صوت الثورة

أما الجانب الثوري فمثله التعاون مع محجوب شريف ليصبح صوت السودان الحر الذي يبني وطنا ومن أبرز أعمالهما معا أغنية “حنبنيهو” ويقول فيها:

“حنبنيهو البنحلم بيهو يوماتي

وطن شامخ وطن عاتي

مكان السجن مستشفى مكان المنفى كلية

مكان الأسرى وردية مكان الحسرة أغنيّة

مكان الطلقة عصفورة تحلّق حول نافورة

وطن بالفيهو نتساوى نحلم نقرا نتداوى.”

وتعد أغنية ” يا شعبا تسامى”، واحدة من أكثر الأغنيات إلهاما للشعب السوداني وتقول كلماتها:

“يا شعبا تسامي .. يا هذا الهمام

تفج الدنيا ياما .. وتطلع من زحاما.. زي بدر التمام

تدي النخله طولها .. والغابات طبولها .. والأيام فصولها

قدرك عالي قدرك .. يا سامي المقام

وطنا الباسمك كتبنا ورطنا.. أحبك .. مكانك صميم الفؤاد

أحبك حقيقه..وأحبك مجاز.. أحبك بتضحك.. وأحبك عبوس

بناتك عيونن صفاهن سماى ..وهيبة رجالك بتسند قفاى

بحضرة جلالك..يطيب الجلوس ..مهذب أمامك يكون الكلام

لأنك.. محنك وعميق الدروس.. مجيد المهابه ومديد القوام

وبأناشيده الثورية الحماسية، شارك وردي في الانتفاضتين الشعبيتين اللتين أطاحتا بنظامي إبراهيم عبود (1958- 1964)، وجعفر النميري (1968- 1985)، وغنّى من كلمات محمد المكي إبراهيم:

“باسمك الأخضر يا أكتوبر الأرضُ تغني،

والحقول اشتعلت  قمحاً ووعداً وتمني،

والكنوز انفتحت  في باطن الأرض تنادي،

باسمك الشعب انتصر، حائط السجن انكسر،

والقيود انسدلت جدلة عـُرس في الأيادي”.

وغنّى لمحمد الفيتوري:

 “ﺻﺒﺢ ﺍﻟﺼﺒﺢ، ﻭﻻ ﺍﻟﺴﺠﻦ ﻭﻻ ﺍﻟﺴﺠﺎﻥ ﺑﺎﻗﻲ،

 ﻭإﺫﺍ ﺍﻟﻔﺠﺮ ﺟﻨﺎﺣﺎﻥ ﻳﺮﻓّﺎﻥ ﻋﻠﻴﻚ،

ﻭإﺫﺍ ﺍﻟﺤُﺰﻥ ﺍﻟﺬﻱ ﻛﺤَّﻞَ هاتيك ﺍﻟﻤﺂﻗﻲ،

ﻭﺍﻟﺬﻱ ﺷﺪَّ ﻭﺛﺎﻗﺎً ﻟﻮﺛﺎﻕِ

ﻭﺍﻟﺬﻱ ﺑﻌﺜﺮﻧﺎ ﻓﻲ ﻛﻞّ ﻭﺍﺩٍ،

ﻓﺮﺣﺔ ﻧﺎﺑﻌﺔ ﻣﻦ ﻛﻞّ ﻗﻠﺐ ﻳﺎ ﺑﻼﺩﻱ”.

ورغم غنائه بالعربية، يحظى وردي بشعبية واسعة في العديد من الدول الأفريقية وبخاصة إثيوبيا وإريتريا والصومال وجيبوتي وتشاد ونيجيريا والكاميرون، والمفارقة أنه غير معروف للدول العربية.

كان وردي حريصا عند اختيار أغانيه على انتقاء الكلمة والمواضيع التي تعبر عن رؤى جديدة تناسب العصر وتقدم معانٍ شعرية عصرية ومختلفة.

واشتهر بمجموعة “الأكتوبريات” بالتعاوم مع الشاعر محمد المكي إبراهيم  التي مجدت ثورة الشعب السوداني ضد نظام الرئيس عبود، ومنها:

 “باسمك الأخضر يا أكتوبر الأرض تغني،

والحقول اشتعلت قمحاً ووعداً وتمني،

 والكنوز انفتحت في باطن الأرض تنادي،

باسمك الشعب انتصر،

 حائط السجن انكسر،

 والقيود انسدلت جدلة عـُرس في الأيادي”

إلى جانب الدور الفني، آمن وردي بالوظيفة الاجتماعية للفنان، حيث دوره في تنمية الوعي وحشد الناس ضد الظلم، وقدم أغنية بعنوان “سلم مفاتيح البلد”، دعا فيها نظام البشير إلى تسليم الحكم في البلاد إلى الشعب، تقول:

 “عليك الزحف مُتقدِّم

وليك الشعب مُتلَملِم ومتحزم،

 يقول سلم، سلم، وما بتسلم..

سلم عبايتنا وملاحفنا،

ومصاحفنا وجوامعنا وكنايسنا،

 وتراث أجدادنا سلمنا،

عقول أولادنا سلمنا”.

وإبان ثورة 2019، تغنت الميادين بموسيقاه وترنم الثوار بـ “عَشانَك يا بَلَد، يا نيل، يا ليل، يا سَمِح.. يا زين، يا بَلدي يا حَبوب، أبو جلابيَّة وتوب”.

كما تغنوا بقصيدته من كلمات الشاعر مرسي صالح سراج،:

“قالوا تخاذل واندثر، ومضى وليس له أثر،

 قالوا تملّكه الحذر،

ورأى السلامة في التمنّي واستكان إلى الخدر،

 قالوا سهى.. قالوا لهى من قالها؟،

اليوم جاءهم الخبر،

كالفجر كالبوق المدوي في ركاب المنتصر،

 الشعب ليس بغافل مهما تمالك أو صبر،

 الشعب إن رام المحال له مضى وبه ظفر،

الشعب يعرف كيف يملي ما يريد على القدر”

ولا ننسى قصيدة “يقظة شعب” التي يقول فيها:

 “هامَ ذاك النّهرُ يستلهـمُ حُسنا،

فإذا عبْرَ بلادي ما تـمنّى،

 طرِبَ النّيلُ لَدَيْها فتثنَّىَ،

 فأروي يا تاريخ للأجيالِ عنـّا،

ثائرٌ إذ هبَّ من غفوتِهِ،

 ينشدُ العلياءَ في ثورتِهِ،

 كاندفاع السّيلِ في قوّتِهِ”

منفى اختياري

بعد استقلال السودان برزت التيارات السياسية التي نادت  بالتحرر الوطني واختار الحزب الشيوعي السوداني، إيمانا منه بالعدالة الاجتماعية والديمقراطية والوحدة الأفريقية، وتسبب اختياره في مشكلات مع الحكومة، رغم أنه لم يكن عضوا عاملا بالحزب.

وزادت المشكلات، بخاصة مع نظام جعفر النميري الذي أيّده وردي في أعوامه الأولى، ثم أصبح معارضا له، وتم اعتقاله حتى توسط له الرئيس التشادي وقتها، فرانسوا تمبلباي، لدى النميري، حيث كان تمبلباي من أشدّ المُعجبين بوردي، وطلب منه الحضور إلى تشاد، والإقامة فيها، ونيل جنسيتها، وهو ما اعتذر عنه وردي.

وفي 1989خرج من السودان بعد الانقلاب العسكري في منفى اختياري، بين مصر وأمريكا ليعود بعد 13 عاما، إلى السودان، وحصل على الدكتوراه الفخرية من جامعة الخرطوم عام 2005، واستقر بالسودان حتى وفاته عام 2012.

ظل وردي يحارب من أجل أفكاره عبر الكلمات والنغم، وعاش 79 عاماً؛ وقال قبل وفاته: “لولا الغناء لما عشت ربع هذا العمر”.

تربع خلال هذه السنوات على عرش الغناء في السودان ملحنا ومطربا وملهما، ومواكبا لمعظم أحداث السودان في التاريخ الحديث بدءاً من الاستقلال في عام 1956 ليغني أشهر أغنية أصبحت شعار الاحتفال بعيد الاستقلال في الأول من يناير كل عام:

“اليومُ نرفع راية استقلالنا..

ويُسطّر التاريخ مولد شعبنا

 يا إخوتي غنوا لنا..

غنوا لنا.”