كتب – حسام عيد

فوضى كبيرة، نهب وحرق وتدمير للمراكز التجارية في مدن مختلفة في جنوب أفريقيا في أسوأ موجة أعمال عنف تشهدها البلاد منذ فترة الفصل العنصري قبل نحو 30 عامًا.

إنها كارثة فالخسائر في كل مكان، والحصيلة حتى الآن عشرات القتلى ومئات الجرحى وما يقارب ألفي معتقل بعد أسبوع من الاحتجاجات التي أعقبت تسليم الرئيس السابق جاكوب زوما، نفسه، للمحكمة؛ ليقضي عقوبة السجن لمدة 15 شهرًا بتهمة تحقير وازدراء المحكمة بتشبيهه لقضاة المحكمة الدستورية بحكام نظام الفصل العنصري من الأقلية البيضاء الذين حاربهم ذات يوم، حيث قام أنصاره من قبيلة الزولو التي ينحدر منها “زوما” بإغلاق الطرق الرئيسية التي تعد الشرايين الاقتصادية للبلاد مطالبين بالإفراج عن بطلهم السياسي، الذي يُعد ضلعًا أساسيًا بمنظومة الفساد المتجذر في مؤسسات البلاد والتي يخوض الرئيس الحالي سيريل رامافوزا معركة واسعة ضدها آذنًا بالتطهير الكامل وبدء حقبة جديدة قد تنهض معها البلاد من أزماتها الراهنة.

«جاكوب زوما» وتأجيج موجة غضب ضارية

في كل مراحله التي مرّ بها سواء قبل وصوله إلى السلطة أو حتى بلوغه سدة الهرم السياسي كنائب للرئيس تابو مبيكي ثم رئيسًا كانت تواجهه تُهمًا عديدة، من بينها؛ إساءة استخدام السلطة واستغلال النفوذ وغسيل الأموال والفساد، ورغم ذلك كان ينجح في الوصول إلى البراءة بذريعة عدم وجود أدلة قاطعة ضده أو تمييع هذه القضايا. وحتى مع مغادرته للسلطة لم يتوارَ عن المشهد السياسي، ولكونه شخصية جدلية لم ينأ بنفسه عن إثارة القلاقل والأزمات، والتي سرعان ما تأججت بوتيرة وحجم غير متوقع فور تسليمه نفسه للشرطة يوم الأربعاء الموافق 7 يوليو 2021، لتنفيذ عقوبة السجن 15 شهرًا لتحديه تعليمات في فبراير الماضي للإدلاء بشهادة في تحقيق في الفساد خلال السنوات التسع التي قضاها في السلطة حتى عام 2018.

يومان فقط بعد سجن الرئيس السابق، كانا كفيلين بإشعال موجة غضب هي الأعنف والأكبر في جنوب أفريقيا منذ العام 1994، حيث اندلعت يوم السبت 10 يوليو 2021 في مدينة ديربان بمقاطعة كوازولو ناتال، قاعدة “زوما”، ثم تمددت سريعًا إلى عدة مدن أخرى.

موجة الغضب العارمة بلغت حد الفوضى، من أعمال عنف ونهب وحرق واسعة النطاق، لتستنفر معها قوات الشرطة بهدف تأمين مقاطعتي كوازولو ناتال وجوتينج المكتظتين بالسكان، لكن محاولات احتواء تلك الموجة تحلو إلى اشتباكات عنيفة ودامية؛ أسفرت عن مقتل 76 شخصًا حتى الآن وإصابة أكثر من 340 واعتقال 1754 بحسب ما أعلنت سلطات جنوب أفريقيا مساء يوم الخميس 15 يوليو.

تداعيات اقتصادية مؤسفة

بطبيعة الحال أُجبرت العديد من المؤسسات في جنوب أفريقيا، بينها أكبر الشركات في البلاد، على تعليق عملياتها بعد أن شهدت مناطق مختلفة بعض أسوأ الاحتجاجات منذ انتهاء حكم الأقلية البيضاء؛ إذ قام مثيرو الشغب بإحراق الشاحنات، وسرقة المتاجر.

وقد أغلقت أكبر أربعة مصارف في البلاد، بينها “ستاندارد بنك غروب”، و”فيرست راند”، كل فروعها في إقليم “كوازولو ناتال”، مركز الاحتجاجات العنيفة، وفي إقليم “خاوتينج”، مركز الثقل الاقتصادي لجنوب أفريقيا، بحسب ما أفادت به الشركتان.

كما أغلقت متاجر “ماسمارت هولدينجز” المملوكة لشركة “وولمارت”، وعمالقة الاتصالات “فوداكوم”، و”إم تي إن جروب” فروعها، في حين تستمر الأخيرة في تشغيل مركز الاتصال الرئيسي التابع لها بأقل سعة.

وأغلقت سلسلة صيدليات “ديس – كيم” فروعها كافة في “كوازولو ناتال”، مما تسبَّب في عرقلة فحوصات كورونا وتوزيع اللقاحات، بحسب الرسائل النصية التي تلقَّاها الزبائن.

وأغلقت المتاجر الصغيرة في وسط مدينة جوهانسبرج أبوابها مع انتشار مرتكبي أعمال السلب والنهب في الشوارع، فيما أغلق مركز التسوق الراقي “روزبانك” الواقع قرب المركز المالي في “ساندتون” مبكِّراً كإجراء احترازي.

وكانت أعمال السرقة والتدمير قد أدت إلى إفراغ رفوف المتاجر، وإغلاق الطرقات الرئيسية في البلاد، ومن بينها الطريق السريع “إن 3” الرابط بين مدينة دوربان الساحلية ومدينة جوهانسبرج.

وبحسب شبكة “بي بي سي”؛ أبدى العديد من المواطنين مخاوفهم المتصاعدة من مواجهة أزمة نفاد الطعام للمرة على الإطلاق، بعد أن كانوا يعيشون حياة مريحة في مدينة ديربان الساحلية. كما أصبحت مهمة أفراد الطبقة الوسطى في الوقت الراهن هي البحث عن أماكن توزع الخبز والحليب حتى وإن تطلب ذلك الوقوف في طوابير من أجل رغيفين من الخبز ولترًا من الحليب.

ولا تزال كوازولو ناتال، القلب السياسي لـ”جاكوب زوما” نقطة الاشتعال الرئيسية؛ حيث وصلت أعمال الشغب أو اقتربت من بعض الأحياء الغنية، مما أدى إلى رعب أصحاب المتاجر والسكان مثل “جون” أحد أفراد الطبقة الوسطى بالمدينة، حيث قال إن متجرين أو ثلاثة فقط في ضاحيته ظلوا مفتوحين، وكان ذلك لساعات قليلة فقط في اليوم.

نقص الطعام يبدو نقطة في أفق أزمة نقص إمدادات الغذاء والدواء والوقود، فبعض سلاسل الأدوية الكبيرة تعرضت للنهب أو أغلقت، كما أعلنت أكبر مصفاة في البلاد إغلاق مصنعها قرب ديربان في كوازولو ناتال، التي توفّر حوالى ثلث الوقود المستهلك في البلاد، “لسبب قاهر”.

وأعلنت جمعية سائقي السيارات أن هناك خشية من حصول نقص في الوقود “في الأيام أو الأسابيع المقبلة”. وقد نفد الوقود في بعض المحطات فيما تقلّص أخرى كميات تسليم المحروقات، لذلك لم يكن الأمر مفاجئا؛ مع اصطفاف طوابير طويلة أمام نصف خزان وقود متبقي يغذي مضخة واحدة مفتوحة في محطة بنزين.

الجيش يتدخل.. ونقاط المراقبة الشعبية تتزايد

ساعد نشر 2500 جندي لدعم شرطة جنوب أفريقيا في إبطاء وتيرة أعمال النهب المتفشية، رغم استمرار ورود أنباء عن اضطرابات في بعض مناطق جوهانسبرج، مثل بلدة فوسلوروس جنوب المدينة.

علاوة على ذلك، تم إغلاق بعض الضواحي المجاورة من قبل السكان الذين شكلوا مجموعات شعبية لمراقبة الأحياء، أو ما تسميه وسائل الإعلام المحلية “فرق الدفاع”، لمنع تجدد موجات العنف والنهب، فهم لا يسمحون لأي شخص غير مقيم بالدخول، ولا حتى أثناء النهار، بعضهم يحمل بنادق، لكن السواد الأعظم منهم يحملون فقط العصي والأنابيب والمشاعل بغرض الدفاع عن مناطقهم وحياتهم وسبل عيشهم؛ في وقت أصبحت الشرطة فيه منهكة وغير قادرة وحدها على إخماد الفوضى.

ردود فعل محلية وقارية ودولية

في محاولة لاحتواء الموقف فرضت السلطات المحلية في ديربان -أحد أكثر مرافئ الشحن ازدحامًا في أفريقيا والمركز الرئيسي للاستيراد والتصدير- ومدن أخرى حظرًا للتجوال من الساعة التاسعة مساء وحتى السادسة صباحا.

وأدان الرئيس الجنوب أفريقي، سيريل رامافوزا، أعمال العنف التي اندلعت على خلفية حكم حبس سلفه، جاكوب زوما، مؤكدًا على عدم التهاون في مواجهة أعمال التخريب التي تستند في الأساس على التعبئة العرقية. وفي الوقت ذاته؛ شدد على أن سيادة القانون تحمي من إساءة استعمال السلطة، وتحمي الفقراء والضعفاء.

فيما قالت ترودي ماكايا، مستشارة الرئيس رامافوزا، للشؤون الاقتصادية في ندوة عبر الإنترنت نظَّمها البنك الدولي: “نبذل كل ما بوسعنا من أجل التخفيف من الاضطرابات”.

وأضافت: “بالطبع، يبدأ ذلك مع اعتقال المجرمين، والتدخل في البؤر الساخنة التي تشهد تحديات”.

وبدوره، ندّد الاتحاد الإفريقي في بيان “بأكبر قدر من الحزم بتصاعد العنف الذي أودى بمدنيين وبمشاهد نهب مرعبة”، داعيًا إلى “استعادة النظام بشكل عاجل مع الاحترام الكامل لسيادة القانون”.