كتب – محمد الدابولي

أسدل تنظيم داعش في غرب أفريقيا والمسمى “تنظيم الدولة الإسلامية في غرب أفريقيا” الستار على الجدل الذي دار خلال الأسبوعين الماضيين حول مصير قائد التنظيم الأسبق وزعيم تنظيم بوكو حرام “أبوبكر شيكاو”؛ إذ أعلن التنظيم عبر تسجيل صوتي  وصل إلى وكالات الأنباء العالمية عن مقتل شيكاو في معركة دارت بينه وبين مقاتلي داعش في غابات سامبيسا.

سبق أن انتشرت معلومات يوم 20 مايو الماضي حول احتمالية وفاة شيكاو، أو بالأحرى انتحاره؛ إذ تشير الملابسات إلى إقدام شيكاو على تفجير نفسه بواسطة حزام ناسف أو إطلاق رصاص على نفسه بعد اقتراب مقاتلي تنظيم داعش من الفتك به، مفضلا الموت بهذه الطريقة والتي تعتبر مغايره للشريعة الإسلامية على التعرض للمذلة والمهانة على يد زملائه السابقين.

تكاد كافة المصادر -ومنها مصادر مقربة من الاستخبارات النيجيرية-  أن تُجْمِع على فرضية انتحار شيكاو، وهو ما ينسف كافة المقولات والأفكار التي حاول التنظيم التغني بها طيلة العقدين الماضيين، وهي التطبيق الصارم للشريعة الإسلامية، فقائد التنظيم فضل الموت منتحرًا مخالفًا لأوامر الشريعة على أن يقع في أسر تنظيم منافس له.

مثلما كان مقتل “محمد يوسف”، مؤسس تنظيم بوكو حرام في عام 2009 على أيدي قوات الجيش النيجيري نقطة فاصلة في التاريخ النيجيري وتاريخ التنظيم؛ إذ سعى التنظيم بعدها إلى مزيد من التوحش والتغول، وصلت ذروتها بين أعوام 2014 و2016، وتحول بوكو حرام وقتها من مجرد تنظيم متطرف محلي إلى تنظيم دولي وإقليمي فائق الخطورة يهدد مصالح جميع دول غرب أفريقيا؛ إذ أدت الاشتباكات مع التنظيم إلى مقتل ما يربو عن 30 ألف شخص وتهجير ما يقارب مليوني شخص من محيط بحيرة تشاد التي ينشط بها.

السطر الأخير

منذ أحداث 2009 في نيجيريا خرجت قوى الأمن والجيش في البلاد لتعلن مرارا وتكرارا عن مقتل أبوبكر شيكاو في إحدى مداهماتها، الأمر الذي تحول لسخرية من قبل شيكاو نفسه؛ إذ كان يعقب بيان الجيش ببيان خاص به يوضح كذب ادعاءات القوى الأمنية والعسكرية بتمكنها من اغتياله وتكرر هذا الأمر أكثر من أربع مرات تقريبًا.

لكن الأمر اختلف، فلم يكن عدو “شيكاو” قوى الأمن والجيش هذه المرة، بل أقرانه في الماضي القريب، حيث تنظيم الدولة الإسلامية في غرب أفريقيا (ISWAP) بقيادة “أبومصعب البرناوي” أحد مساعديه السابقين ونجل مؤسس تنظيم بوكو حرام “محمد يوسف”؛ إذ نجح البرناوي مؤخرًا في اختراق تنظيم شيكاو وساهم في تمرد العديد من أتباع شيكاو، الأمر الذي سهّل وقوع الأخير في غابات سامبيسا، لكي يبقى المجال فسيحًا أمام تنظيم داعش في غرب أفريقيا من أجل التمدد والانتشار.

يعد استهداف أبوبكر شيكاو من قِبَل تنظيم داعش أمرًا محرجًا للغاية لقوى الجيش والأمن في منطقة بحيرة تشاد، ونقصد هنا كافة القوى الأمنية والعسكرية العاملة في بحيرة تشاد (النيجيرية – التشادية – النيجرية – الكاميرونية)، فاستخبارات الدول السابقة رغم امتلاكها أدوات وآليات وإمكانيات متقدمة فشلت فشلا ذريعا في تعقب شيكاو واصطياده على مدار سبع سنوات، وهو الأمر الذي يفتح الباب أمام تساؤلات حول شبهات الفساد التي تطال تلك القوى الأمنية والعسكرية.

قضم رؤوس الإرهاب

خريطة التنظيمات الإرهابية أشبه بالكثبان الرملية المتحركة التي سرعان ما يتغير  موضعها من وقت لآخر، فخلال العامين الأخيرين وتحديدًا منذ عام 2019 تغيرت خريطة التنظيمات الإرهابية في العالم تقريبًا خاصة بعد موجة اغتيالات طالت كبار قادة التنظيمات الإرهابية والتنظيمات التي تعد متطرفة؛ ففي 27 أكتوبر  2019 أعلنت الولايات المتحدة نجاحها في استهداف قائد تنظيم داعش ومؤسسه أبوبكر البغدادي، وفي الأيام الأولى من عام 2020 قتل زعيم فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني “قاسم سليماني” بغارة جوية قرب مطار بغداد رفقة أبوعلي المهندس نائب رئيس هيئة الحشد الشعبي في العراق، وفي أفريقيا لم يطل الأمر كثيرًا ففي منتصف 2020 تم استهداف عبدالمالك دروكدال زعيم تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، بالإضافة إلى العديد من قادة الصف الثاني المؤثرين في تنظيم نصرة الإسلام والمسلمين بقيادة إياد أغ غالي.

تغير خريطة قادة التنظيمات الإرهابية من شأنه إعادة هيكلة الجماعات الإرهابية في أفريقيا والعالم وبلورة الأمور من أجل إخراج نموذج جديد  مستحدث من تلك الجماعات لم نألفها من قبل، وهو ما سوف يزيد عبء التحديات الأمنية والسياسية.

سياق محلي إقليمي ملتهب

جاء مقتل شيكاو في ظل سياق إقليمي ومحلي ملتهب للغاية، فإقليميًّا بات تمدد داعش في أفريقيا هو الخبر المزعج لدول القارة؛ إذ تمكن التنظيم -خلال الشهور الماضية- من تثبيت أقدامه في وسط وجنوب أفريقيا، خاصة بعد هجمات مدينة بالما الساحلية في موزمبيق في مارس الماضي، وتهديده للمنشآت النفطية، وكذلك الهجمات المتتالية في شرق الكونغو الديمقراطية.

وتبدو حالة الهدوء والاستقرار التي سعت لها دول القارة -خلال الفترة الماضية- لتوحيد قواها، لمواجهة التنظيمات الإرهابية أوشكت هي الأخرى على الانحدار والانزلاق، خاصة بعد التطورات الأخيرة المتمثلة في انقلاب مالي الأخير، ومقتل رئيس تشاد إدريس ديبي فضلًا عن ازدياد التوترات الأمنية والسياسية في أفريقيا الوسطي والتي تنذر بعودة الحرب الأهلية في البلاد عام 2014.

أما فيما يخص السياق المحلي، فتبدو الأمور أكثر سخونة؛ فخلال الأيام القلائل الماضية تصاعدت إلى السطح في نيجيريا العديد من الأزمات المنهكة لقوى الدولة، فعلى سبيل المثال لا الحصر تجددت الملاسنات بين الرئيس محمد بخاري وبين متمردي إقليم بيافرا، كما تصاعدت العديد من النداءات المطالبة باستقالة الرئيس بخاري على خلفية تُهم فساد والفشل في إدارة البلاد، كما لاح في الأفق إشاعات تفيد بتدبير عدد من قادة الجيش انقلاب على الرئيس.

ومن المثير للدهشة أيضا أن انتحار شيكاو تزامن تقريبًا مع خبر وفاة رئيس أركان الجيش النيجيري إبراهيم أتاهيرو الذي تم تعيينه حديثًا في شهر يناير الماضي، وذلك خلال حادث تحطم طائرته يوم 21 مايو الماضي في ولاية كادونا الشمالية والتي تشهد مواجهات بين الجيش النيجيري والتنظيمات المتطرفة.

دلالات أكثر رعبًا

لا يمكم بأي حال وصف مقتل شيكاو بأنه خطوة في سبيل دحر الجماعات المتطرفة، فملابسات مقتله أو انتحاره والتي تمت على يد جماعة متطرفة أخرى وكذلك السياقات المحلية والإقليمية تدفعنا للحذر الشديد حول مستقبل الإرهاب في أفريقيا، لذا يحمل انتحار شيكاو دلالات أكثر رعبًا، وهي:

    خسفٌ بالمشرق وتمدد بأفريقيا: تعرّض تنظيم داعش في منشأة بسوريا والعراق بالمشرق العربي لهزائم كبرى أدت إلى اضمحلال نفوذه وضمور قوته نظرًا لتكاتف الجهود الدولية والإقليمية في محاربة التنظيم الذي نجح في إقامة دولته المزعومة في يونيو 2014.

وصل التنظيم لأضعف مراحله في أكتوبر 2019 حينما تم اصطياد مؤسسه أبوبكر البغدادي في قرية باريشا السورية والتي تقع على الحدود العراقية السورية، ونتيجة خسف قوى التنظيم الإرهابي في المشرق العربي باتت قيادة التنظيم تحث أتباعها على التوجه إلى أفريقيا، ففي التسجيلات الأخيرة للبغدادي دائمًا ما كان يحث أتباعه على ذلك مطالبًا بتعزيز وجود التنظيم هناك، ومشيدًا -في نفس الوقت- بالتحركات التي يقوم بها أتباعه في أفريقيا، لذا يمكن القول بأننا على موعد مع إعادة تموضع جديد لداعش في أفريقيا بعيدًا عن منشأه في سوريا والعراق.

السيطرة الكاملة: باتت الساحة في نيجيريا وبحيرة تشاد متاحة أمام فرع تنظيم داعش في غرب أفريقيا بقيادة أبومصعب البرناوي، فمنذ عام 2015 لم يتمكن داعش من بسط سيطرة كاملة على غرب أفريقيا نظرا لانشقاق أبوبكر شيكاو عن التنظيم في عام 2016 ومقارعته لداعش، منذ ذلك الوقت وإلى لحظة وفاته، ولم يتبق أي تنظيم منافس لداعش في نيجيريا سوى تنظيم أنصارو  لكنه ما زال محدود العدد والقوى.

استعادة الحاضنة الشعبية: يعود الخلاف بين أبومصعب البرناوي وأبوبكر شيكاو إلى اختلاف وجهة نظر الطرفين إزاء التعامل مع القرويين، فشيكاو الذي تميز بالدموية المفرطة كان ينظر إلى القرويين على أنهم أعداء وجب قتلهم والقضاء عليهم وحرق متاجرهم وأقواتهم، وذلك عكس البرناوي الذي ينظر إلى ضرورة توجيه وتركيز ضرباته المؤثرة ضد قوى الجيش والأمن.

أما فيما يخص القرويين فيرى أنهم حواضن شعبية محتملة لتنظيمه إذ يسعى إلى تجنيد المزيد من شبابهم وتشغيلهم فيما يخدم أهداف التنظيم؛ لذا من المحتمل أن يلعب داعش على وتر المظلومية الاجتماعية والاقتصادية للجماعات المهمشة المنتشرة في محيط بحيرة  تشاد لأجل التوسع والتمدد وإقامة دولته في غرب أفريقيا.وأخيرًا.. تبدو الأمور في أفريقيا عمومًا مرشحة لتصاعد نفوذ الجماعات المتطرفة في ظل فشل الأنظمة السياسية في تحقيق الاستقرار السياسي والأمني وتصاعد اتهامات الفساد والاستبداد إلى الأنظمة الحالية وهو ما يتيح مناخ مناسب أمام الجماعات الإرهابية التي تري أنه بوفاة شيكاو انقضت الصورة الدموية المأخوذة عن تلك التنظيمات لتبرز صورة جديدة متماهية مع المظلومية الاجتماعية والاقتصادية للجماعات المهمشة.