كتب – محمد الدابولي

في التاسع من أبريل 2021 حل الرئيس التونسي «قيس سعيّد» ضيفًا على القاهرة -في زيارة استمرت ثلاثة أيام- التقى خلالها كلا من الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي وعقدا قمة مشتركة، كما التقى -في مقر إقامته بقصر القبة- كلا من رئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي، ورئيس البرلمان العربي «عادل بن عبدالرحمن العسومي»، كما حل ضيفا على مشيخة الأزهر مُلتقيا شيخ الأزهر الدكتور «أحمد الطيب»، كما حرص على الالتقاء بثُلة من أفراد الجالية التونسية في القاهرة.

بعيدا عن الملفات السياسية والاقتصادية التي حملتها زيارة الرئيس التونسي، فإن زيارته للقاهرة حملت طابعا ثقافيا بامتياز؛ إذ حرص على زيارة معالم القاهرة التاريخية مُبتدئًا بزيارة ضريحي الرئيسين الراحلين جمال عبدالناصر وأنور السادات، ثم زيارة متحف الحضارة القومي والعديد من المناطق الأثرية في القاهرة الفاطمية؛ كشارع المعز وخان الخليلي، واختتم جولاته في القاهرة بأمسية في دار الأوبرا المصرية.

إحياء التاريخ القديم

قبل الدخول في مآلات زيارة «سعيّد» إلى القاهرة ينبغي الإشارة إلى أن الرئيس التونسي حرص على إبراز وإحياء الروابط التاريخية المشتركة بين البلدين، فزيارته لشارع المعز والأزهر الشريف كانت بمثابة إعادة التذكرة بتاريخ الدولة الفاطمية التي نشأت في مدينة «المهدية» الساحلية الواقعة حاليا جنوب تونس، وانتقلت عاصمة الفاطميين بعد ذلك إلى مدينة المنصورية أو ما يطلق عليها حاليا مدينة صبرة جنوب مدينة القيروان التاريخية، وأخيرا استقر بها المقام في مدينة القاهرة التي بناها المعز لدين الله الفاطمي عام 969 لتكون عاصمة الخلافة الفاطمية التي استمرت قرابة قرنين من الزمان.

ومع حرص الرئيس التونسي على إبراز العلاقات التارخية القديمة بين الشعبين المصري والتونسي، تناولت منصات التواصل الاجتماعي التونسية تغريدات تطالب الرئيس التونسي بضرورة حثّ الجهات الحكومية المصرية المتعلقة بالآثار بالكشف والبحث عن رفات العلامة ورائد علم الاجتماع والعمران البشري «عبدالرحمن بن خلدون» الذي انتقل من تونس إلى مصر في عهد دولة المماليك ومؤلف «مقدمة ابن خلدون» التي تعد مرجعا أساسيا في تأصيل علم الاجتماع.

زيارة تاريخية

تعتبر زيارة الرئيس قيس سعيّد للقاهرة بمثابة زيارة تاريخية، رغم أنه ثاني رئيس لتونس يزور القاهرة بعد ثورة 30 يونيو 2013 إذ سبقه الرئيس الراحل الباجي السبسى في عام 2015، وتأتي أهمية زيارة “سعيّد” لكونه محسوبا على التيار الثوري التونسي عكس الرئيس الراحل “السبسي” المحسوب على النظام البورقيبي المحافظ.

دفعت زيارة الرئيس “سعيّد” إلى القاهرة إلى إثارة غضب حركة النهضة التونسية المحسوبة على جماعة الإخوان المسلمين، وإن كانت لا تصرح بذلك بشكل مباشر؛ إذ اكتفت بدفع المحسوبين والمقربين منها بانتقاد الزيارة، فعلى سبيل المثال الرئيس الأسبق للبلاد “المنصف المرزوقي” -والمتحالف مع حركة النهضة- اتهم الرئيس قيس سعيّد بخيانة الثورة التونسية.

دلالات الزيارة

رغم غلبة الطابع الاقتصادي والثقافي والاحتفالي على زيارة الرئيس التونسي للقاهرة، إلا أنها حملت في طياتها أبعادا سياسية وإقليمية متعلقة بتوازنات القوى في تونس وأفريقيا ومنطقة الشرق الأوسط، وهو ما سيتم إبرازه في النقاط التفصيلية التالية:

  • أزمة سد النهضة ومجلس الأمن: تحتل أزمة سد النهضة مرتبة الصدارة حاليا في دائرة الاهتمامات السياسية الأفريقية والشرق أوسطية خاصة في ظل تصاعد التعنت الإثيوبي في مسألة الملئ الثاني للسد دون مراعاة الحقوق المصرية والسودانية الأمر الذي ينذر بتصعيد سياسي على أعلى مستوى بين مصر وإثيوبيا قد يصل إلى حد المواجهة العسكرية المباشرة، الأمر الذي سيدفع مجلس الأمن إلى التدخل في الأزمة الحالية.

وهنا يبرز دور تونس باعتبارها حاليا عضو غير دائم في المجلس (يناير 2020 ـ ديسمبر 2021)، لذا بات على القيادة التونسية تكوين رؤية واضحة تجاه أزمة سد النهضة، فمبدئيا عبّر الرئيس التونسي عن تأييده لحلول عادلة لأزمة السد تضمن الحفاظ على الحقوق المائية لمصر باعتبارها قضية مصيرية، لذا قد تُمثل زيارة الرئيس التونسي محاولة طمأنة للقاهرةبموقف تونسي داعم للحقوق المصريةفي مجلس الأمن.

  • ليبيا في الواجهة: أتت زيارة قيس سعيّد للقاهرة بعد أسبوعين تقريبا من زيارته للعاصمةالليبية طرابلس التقى خلالهارئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي، وتتلاقى وجهة نظر القيادة التونسية مع نظيرتها المصرية بخصوص الأزمة الليبية إذ يتفق الجانبان على أهمية إدارة المرحلة الانتقالية بنجاح ووقف التدخلات الخارجية في الشأن الليبي وإخراج المرتزقة والجماعات الإرهابية من الأراضي الليبية.

وعضّدت زيارة الرئيس قيس سعيّد للقاهرة وطرابلس الموقف المصري إزاء الأزمة الليبية خاصة في الشق المتعلق باخراج الجماعات المرتزقة، وللقيادة السياسية التونسية سابقة تاريخية في رفض إرسال المرتزقة للأراضي الليبية، ففي نهاية ديسمبر 2019 قام الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بزيارة تونس في محاولة منه استقطاب الموقف التونسي لصالح التدخل التركي في الأزمة الليبية، إلا أن الرئاسة التونسية أعلنتها صريحة في 7 يناير 2020 بأنها ترفض رفضا قطعيا أية تدخلات أجنبية في الشأن الليبي ولن تسمح باستخدام أراضيها في عمليات إنزال تركية تجاه ليبيا.

  • دور إقليمي لتونس وإزالة الجفاء: منذ استقلالها في مارس 1956 اتخذت تونس سياسة خارجية اتسمت بالهدوء والحيادية والابتعاد عن الانخراط في الأحلاف الإقليمية وتجنب الصراعات الإقليمية قدر الإمكان، بيد أن التحولات السياسية في تونس خلال العقد الماضي أدت لتشابك السياسة التونسية مع سياسات محيطها الإقليمية، فمبدئيا انطلقت شرارة ثورات الربيع العربي من أراضيها وما لبثت أن امتدت تقريبا إلى باقي الدول العربية.

كما لعبت بعض القوي التونسية “حركة النهضة” على جر تونس إلى المزيد من الصراعات والأزمات الإقلمية، فدعم الحركة لحلفائهم في مصر “جماعة الإخوان” أدى إلى وجود فتور وجفاء في العلاقات المصرية التونسية خلال السنوات السبع الأخيرة، فحركة النهضة كانت حريصة على أن تظل الأجواء متوترة أو جافية بين البلدين.

لذا جاءت الزياة لتحقيق غرضين أولهما كسر حالة الجفاء في العلاقات بين البلدين التي تسببت فيها “النهضة وشركائها مثل حزب المؤتمر من أجل الجمهورية الذي يتزعمه المنصف المرزوقي” وثانيا محاولة اكتساب دور إيجابي وفعال للسياسة التونسية في المنطقة بعيدا عن تحركات النهضة، وذلك من خلال توطيد العلاقات المصرية التونسية باعتبار أن القاهرة تمتلك مفاتيح العديد من قضايا وأزمات أفريقيا ومنقطة الشرق الأوسط.

  • رسالة للداخل التونسي: ربما تعد الدلالة الأبرز، فتونس حاليا تعيش أزمة سياسية كبرى تسمى أزمة تضارب الصلاحيات بين الرئاسيات الثلاث بين رئاسة الجمهورية ورئيس الحكومة وأخيرا رئيس البرلمان، فرئيس الحكومة “هشام المشيشي” تحالف مع زعيم حركة النهضة ورئيس البرلمان “راشد الغنوشي” من أجل تهميش دور قيس سعيّد في المشهد السياسي التونسي، وذلك من خلال إقالة العديد من الوزراء المحسوبين على الرئيس وتعيين حلفاء حركة النهضة وحزب قلب تونس الذي يتزعمه نبيل قروي في الحكومة الحالية على عكس رغبة رئيس الجمهورية، الأمر الذي دفع قيس سعيّد خلال اجتماعات مجلس الأمن القومي التونسي في 25 يناير 2021 إلى اعتبار تلك الإجراءات بمثابة عدم احترام للدستور ورفض توجيه الدعم للوزراء الجدد بأداء اليمين الدستورية، وتطورت الأمور بشكل لافت مع أزمة الطرود السامة التي تم ارسالها إلى الرئاسة التونسية ومحاولة تسميم الرئيس بمادة الريسين السامة.

وإزاء حالة الاستقواء التي تقوم بها حركة النهضة وحزب قلب تونس، يحاول الرئيس قيس سعيّد إعادة ترتيب أوراقه السياسية والبحث عن حلفاء داعمين له داخليا وإقليميا، فزيارة القاهرة رسالة غير مباشره منه إلى حركة النهضة بأن مصر تدعم الجبهات المعتدلة في المشهد السياسي في تونس وترفض التحركات المشبوهة التي تقوم بها “النهضة سواء داخل تونس أو خارجها.

وأخيرًا.. وبعد سرد دلالات الزيارة وأهميتها التاريخية نعود للإجابة على التساؤل الرئيسي للمقال و”هو هل تُذيب الزيارة حالة البرود التي فرضتها حركة النهضة على العلاقات المصرية التونسية خلال السنوات السبع الماضية”، تبدو الإجابة على هذا السؤال أكثر تعقيدا نظرا لحالة الصراع المسيطرة على السياسة الداخلية التونسية حاليا، فمبدئيا لم يرافق أي عضو في الحكومة التونسية الرئيس قيس سعيّد على عكس المتبع في الزيارات الرسمية التي تكون مليئة بالعديد من المسئوليين السياسيين والتنفيذين الذي ينحصر دورهم الأساسي في إبرام اتفاقيات وبروتوكلات التعاون بين البلدين، لكن يمكن اعتبار أن تلك الزيارة بمثابة خطوة أولية جيدة يجب استثمارها بعناية شديدة من أجل دعم الأطراف المعتدلة في تونس ووقف سياسات حركة النهضة الداعية لدعم الجماعات المتطرفة في المنطقة.