كتب. محمد الدابولي

رغم مرور شهرين الاضطرابات الأمنية والسياسية التي شهدتها الولايات المتحدة عقب مقتل أمريكي من أصول أفريقية، علي يد شرطي بطريقة وحشية، لاتزال تلك الضطربات مشتعلة إلي الآن ولم تفقد زخمها، فخلال الأسبوع الأخير شهدت ولاية شيكاغو الأمريكية محاولات عديدة من المتظاهرين لإسقاط تمثال المستكشف «كريستوفر كولومبس»، في محاولة من المتظاهرين إسقاط رمز  من رموز العنصرية.

من المحتمل أن تستمر الاحتجاجات والاضطربات في الولايات المتحدة إلي فترة الانتخابات الأمريكية المقررة في نوفمبر المقبل، الأمر الذي يثير  العديد من التساؤلات حول دوافع استمرار تلك التظاهرات، إذ تخطت مسألة التعبير عن الغضب الشعبي لمقتل مواطن أسودعلي يد الشرطة، إلي محاولة خلق واقع جديد في السياسة الداخلية الأمريكية قائم على تفاقم أزمة العنصرية وزيادة حدة الانقسامات العرقية داخل المجتمع الأمريكي، خاصة بعد قرارات الرئيس «دونالد ترامب» الأخيرة بإرسال قوات الأمن الفيدرالية إلي الولايات المستعرة مثل بورتلاند وشيكاغو .

اكتسبت الأحداث الأخيرة زخما مضاعفا مع وفاة اثنين من أشهر  رموز وزعماء مسيرة الحقوق المدنية في الولايات المتحدة والتي كان لهما دورا كبيرا في إقرار المزيد من الحقوق المدنية والسياسية والاجتماعية للسود في الولايات المتحدة، وهما عضو مجلس النواب الأمريكي «جون لويس» (80 عام) والأخر  «كوردي تيندل فيفان» (95 عام)، والذي كان المستشار والمساعد الخاص لزعيم مسيرة الحقوق المدنية الأمريكية «مارتن لوثر كينيج»، إذ توفي القياديين في يوم واحد وهو يوم الجمعة الموافق 14 يوليو 2020، وفيما يلي أبرز مواقف الزعيمين التاريخين ومستقبل مسيرة الحقوق المدنية في الولايات المتحدة خاصة بعد الأحداث الأخيرة وفاة اثنين من أبرز رموزها:

جون لويس وحق التصويت للسود

يتشابه جون لويس مع جورج فلويد في كونهما تعرضا لضرب مبرح من قبل عناصر الشرطة أمام عدسات الكاميرا، فحادثة الاعتداء على جون لويس تعد أولي الحوادث العنصرية التي نجحت الميديا في توثيقها، وتشكيل رأي عام مضاد للحوادث العنصرية مثلما حدث في حادثة جورج فلويد.

يعد جورج لويس من أبرز قادة مسيرة الحقوق المدنية التي أطلقت في 28 أغسطس 1963، والتي كانت سببا في صدور قانون الحقوق المدنية عام 1964 والذي اعترف بالمزيد من الحقوق المدنية والسياسية والاجتماعية للسود في المجتمع الأمريكي.

ضمت المسيرة ستة من كبار حراك الحقوق المدنية في الولايات المتحدة بقيادة مارتن لوثر كينج « رئيس مؤتمر القيادة المسيحية الجنوبية»، بالإضافة إلي راند وولف،  وجيمس فارمر رئيس مؤتمر المساواة العرقية، وروي ويلكينز رئيس الجمعية الوطنية للنهوض بالملونين، ويتنى يونغ رئيس الرابطة الحضرية الوطنية وأخيرا أصغر عضو في قادة المسيرة كان جون لويس والذي كان رئيس لجنة التنسيق الطلابية اللاعنفية.

رغم مشاركته في مسيرة الحقوق المدنية، إلا أن مسيرة نضال جون لويس بلغت ذروتها يوم الأحد 7 مارس 1965 والتي عرفت تاريخيا باسم «مسيرة الأحد الدامي»، وتعود جذور الأحداث إلي ظروف اصدار قانون الحقوق المدنية عام 1964 والذي قيد حق التصويت للسود في الانتخابات العام، إذ طالب القانون بضرورة اجراء اختبار قراءة وكتابة للناخبين السود قبل الادلاء بأصواتهم، الأمر الذي فرغ قانون الحقوق المدنية من مضمونه نظرا لحالة الفقر والجهر المسيطرة على مجتمع السود في ذلك الوقت وانتشار نسبة الأمية بهم.

ولمواجهة هذا المتغير لجأت لجنة التنسيق الطلابية اللاعنفية إلي محاولة تسجيل الناخبين السود إلا أن جهودها باءت بالفشل، مما دفع اللجنة إلى تسيير العديد من التظاهرات في ولاية ألاباما مما أدي إلي اعتقال الآلاف من السود خلال تلك التظاهرات، كما انضم مارتن لوثر كينج إلي تظاهرات ألاباما مما أدي إلي اعتقاله.

وإزاء تلك الانتهاكات، تم تحريك مسيرة كبرى على رأسها جون لويس من مدينة سيلما باتجاه مدينة مونتجمري بولاية ألاباما، إلا أنه مع عبور المسيرة جسر إدمون بيتوس بمدينة سيلما تعرض المشاركون في المسيرة لضرب مبرح من قبل قوات الشرطة مما أدي إلي سقوط المزيد من الضحايا واعتقال الآلاف، وتعرض جون لويس وقتها لضرب عنيف من قبل الشرطة ونجحت كاميرات الأخبار في توثيق حالة الاعتداء على لويس، وسرعان ما تناقلتها المحطات التليفزيونية الأمريكية، مما خلق رأي عام أمريكي مناهض لسياسات العنصرية، وتعد أحداث سليما (7 مارس 1965)           يوما فاصلا في التاريخ الأمريكي الحديث، وإزاء ضغوط الرأي العام تراجعت السلطات المحلية في مدينة سيلما وولاية ألاباما عن سياسة المواجهة العنيفة للحشود ونجحت تلك المسيرات في الوصول إلى مونتجمري في 21 مارس 1965، وفي خريف نفس العام تم إقرار قانون حق التصويت.

وفي مرحلة لاحقة نجح لويس في أن يكون عضو مجلس النواب عن الدائرة الخامسة في ولاية جورجيا، واستمر في مقعهدة حتي وفاته في عام 2020 ليكون بذلك عميد الكونجرس الأمريكي وضميره، وكان له العديد من المواقف داخل الكونجرس التي عبر فيها عن رفضه لسياسات وممارسات اعتبرها تحض على العنصرية، فعلى سبيل المثال دعم ترشيح هيلارس كلينتون في انتخابات 2016، واعتبر أن انتخاب ترامب أمر غير شرعي حيث كان ضمن المعتقدين بأن روسيا هي من وقف وراء نجاح ترامب في الانتخابات الأخيرة، وقاد حملة الكونجرس لعزل ترامب بسبب ما أسماه التدخلات الروسية في  الانتخابات الأمريكية، وكان ضمن داعمي حملة المرشح جو بايدن في الانتخابات المقبلة موصيا بضرورة تعيين نائبة ملونة لبايدن.

من المؤكد أن تولي الرئيس الأمريكي باراك أوباما منصب رئاسة البلاد كان بمثابة تتويج لنضان جون لويس ورفاقه في مسيرة الحقوق المدنية، فلويس ألقي القبض عليه أكثر من 40 مرة خلال الفترة الممتدة من عام 1960 وحتي عام 1966، وكان للويس دورا في إقرار قانون الحقوق المدنية عام 2009، وفي عام 2011 منحه أوباما وسام الحرية الذي يعد أعلى وسام أمريكي يمنح للمدنيين، وفي عام 2019 أعلن اصابته بسرطان البنكرياس من الدرجة الرابعة.

«فيفان» رفيق مارتن لوثر  الأمين

ستخلد ذاكرة مسيرة الحقوق المدنية الأمريكية يوم 17 يوليو 2020، إذ فقدت المسيرة اثنين من أبرز قيادتها التاريخين جون لويس وكوردي تيندل فيفان، حيث انخرط فيفان ضمن صفوف لجنة التنسيق الطلابية اللاعنفية بقيادة جون لويس، كما كان قيادي في مؤتمر القيادة المسيحية الجنوبية بقيادة مارتن لوثر كينج.

ونشط في تنظيم مسيرات القيادة المسيحية خلال الفترة ما بين 1960 وحتي عام 1966، كما كان ضمن المشاركين في مسيرة الحقوق المدنية عام 1963 والتي كان لها دورا في إقرار قانون الحقوق المدنية عام 1964، وفي عام 1970 أصدر كتابه الأول «القوة السوداء والأسطورة الكروية»والذي يعد أول كتاب ينشره أحد قيادات مؤتمر القيادة المسيحية الجنوبية، وفي هذا الكتاب تناول مسألة الاخفاقات التي تعرضت لها مسيرة الحقوق المدنية.

وفي مرحلة لاحقة نشط فيفان في مسألة تحقيق السلام وإقرار التعايش بين الجماعات الدينية مثل المسلمين والمسيحين والأعراق المختلفة، مؤسسا العديد من المراكز الثقافيبة العاملة على تحقيق ذلك ففي عام 1977 أسس مركز العمل واستراتيجيات العمل السوداء، وفي عام 1979 أسس مركز التجديد الديمقراطي لتحقيق التقارب بين البيض والسود في الولايات المتحدة، وأخيرا كرمه أوباما عام 2013 بوسام الحرية.

مستقبل مسيرة الحقوق المدنية

الآن وبعد ما يقارب نصف قرن على انطلاق مسيرة الحقوق المدنية، باتت المسيرة معرضة لتحديات جسيمة أبرزها استمرار الممارسات العنصرية من قبل الشرطة تجاه السود في الولايات المتحدة، فضلا عن وفاة رموز المسيرة الذين لعبوا خلال السنوات الماضية دور الضابط لتطلعات وطموحات الجماعة السوداء في الولايات المتحدة، إذ عبر قادة المسيرة منذ انشائها على فلسفة اللاعنف في تحقيق الأهداف السياسية كما آمن هؤلاء بمبدأ التعايش بين الأعراق المختلفة في أمريكا، كما كانوا حائط صد أمام التيارات الفكرية المتطرفة التي انتشرت في مجتمع السود مثل دعاة الانفصال والتغيير بالوسائل العنيفة وأخيرا دعاة سمو وتفوق العنصر الأسود على باقي عناصر المجتمع الأمريكي.

وصلت أفكار التعايش بين البيض والسود في الولايات المتحدة ذروتها خلال فترة تولي الرئيس السابق باراك أوباما، إلا أنها بدأـ في الانحدار بصورة شديدة خاصة مع نجاح دونالد ترامب في انتخابات 2016 والتفاف قوي اليمين المتطرف والعنصريين البيض حوله، الأمر الذي صعد تخوفا كبيرا في أوساط الأمريكين من أصل أفريقي حول مستقبل السود وحقوقهم المكتسبة خلال الفترة الماضية.

ولعل السجال التاريخي بين ترامب وجون لويس مطلع عام 2017 كان مؤشرا على ذلك فجون لويس اعتبر فوز ترامب غير شرعي وأعلن أنه لن يحضر حفل التنصيب، وفي المقابل هاجم ترامب لويس مطالبه باصلاح دائرته التي تعد من أفر الولايات وينتشر بها العصابات الإجرامية، حملت كلمات ترامب إشارة عنصرية للسود نظرا لسيطرتهم على دائرة جون لويس واتهامهم بالفقر والاجرام في البلاد.

بيد أن الأمور اتخذت منعطفا أكثر خطورة  في 3 أغسطس  2017 حين أصدر مكتب التحقيقات الفيدرالي FBI تقرير مكافحة الإرهاب وفيه تحدث لأول مرة عن خطر  جديد يهدد سلامة المجتمع الأمريكي أسماه خطر “متطرفي الهوية السوداء” (BIE- black identity extremists).

وأشار هذا التقرير أن استمرار اعتداءات الشرطة الأمريكية على الأمريكين من أصل أفريقي من شأنه أن يعلي النعرات الانفصالية والارهابية لدي البعض ويكون دافعا لاستهداف عناصر الشرطة في مرحلة لاحقة، ولعل التوقع الذي تناوله التقرير في عام 2017 بدأ يتجسد بصورة كبيرة في عام 2020، فمنذ مقتل فلويد مازالت أحداث العنف والاضطرابات تشهدها بعض الولايات.

وتعرض التقرير للعديد من الانتقادات مفاداها أن مكتب التحقيقات الفيدرالية حاول اختلاق عدو جديد للمجتمع الأمريكي عبر إزكاء العنصرية، كما أنه لا توجد أية حركات أو جماعات تحمل الإسم ذاته، كما طالت الاتهامات للمكتب بأنه لم يتخلي عن ميراثه العنصري ضد السود. الأمر الذي دفع المكتب لتغيير المصطلح في عام 2019 ليصبح جرائم التطرف العنيف بدوافع عنصرية Racial Violent Extremism.

وأخيرا.. يمكن القول بأن الانتخابات الأمريكية المقبلة في نوفمبر 2020 ستكون فاصلة في مسيرة الحقوق المدنية الأمريكية، فلو  نجح جو بايدن في الانتخابات المقبلة سيشكل ذلك انتصارا تاريخيا لمسيرة الحقوق المدنية وإعادة تأصيلها في المجتمع الأمريكي، أما في حال فوز ترامب في الانتخابات فإن ذلك سيؤدي إلي زيادة التوتر العرقي في البلاد ومن المحتمل أن الأخطار التي تحدث عنها تقرير مكتب التحقيق الفيدرالي عام 2017 ستكون واقعا خلال الفترة المقبلة، فنظرا لتنامي النزعات العنصرية لدي البيض، فمن المؤكد أن يتنامي في المقابل نزعات عنصرية لذوي البشرة السوداء.