كتب- محمد الدابولي

لاتزال أزمة إدارة الانتخابات في ظل جائحة كورونا مستمرة، ففي دراسة سابقة لي حملت عنوان «التأثيرات المحتملة لتفشي جائحة كورونا على العملية الانتخابية في أفريقيا» أوضحنا أن سلوك الدول الأفريقية حيال إجراء الانتخابات في ظل الجائحة انقسم إلي أمرين أولهما تجاهل الجائحة والمضي قدما في إجراء الانتخابات والاستفتاءات كما حدث في مالي وغينيا، أما الأمر الثاني فكان خيار التأجيل وهو ما ركنت إليه دول كإثيوبيا وغانا.

يمكن تقسيم الدول الأفريقية التي أجرت الانتخابات في ظل جائحة كورونا إلي قسمين، الأول أجرى الانتخابات في وقت مبكر من انتشار المرض حيث كانت حالات الإصابة محدودة للغاية فعلي سبيل المثال أجرت غينيا انتخاباتها في 22 مارس الماضي وكانت الاصابات بها لا تتعدي 9 إصابات، أما القسم الثاني من الدول فقد أجرى الانتخابات في وقت شهد تصاعد كبير في عدد الحالات المصابة بالمرض في أفريقيا مثل بنين التي أجرت انتخابتها في 20 مايو 2020.

برز على الساحة الانتخابية الأفريقية اتجاه بعض الأنظمة في تجاهل الجائحة العالمية والتقليل من تأثيراتها بغية تمرير الانتخابات الوطنية في تلك الظروف، ومن ثم احتفاظ الحزب الحاكم بهيمنته على السلطة السياسية لفترة طويلة من الزمن وحرمان قوى المعارضة من المشاركة في الحكم، نظرا لانشغال دول العالم والمؤسسات الدولية بمسألة مواجهة الوباء وتراجع الاهتمام بمسألة الديمقراطية والحكم الرشيد في أفريقيا، ويبرز في هذا الاتجاه التجربة البروندية الأخيرة والتجربة التنزانية المحتملة في أكتوبر 2020.

تجاهل كوورنا

اتجهت بعض الأنظمة السياسية في أفريقيا مثل بروندي وتنزانيا في الفترة الأخيرة لتبني خطابا إعلاميا وسياسيا يقلل من أثر  فيروس كورونا على الصحة العامة للمواطنين، وتجاهل الاجراءات الاحترازية التي اتخذتها العديد من الدول لمنع انتشار الجائحة، وأنه ليس هناك أي داعي لوقف الأنشطة اليومية والفعاليات السياسية والتي من أبرزها الانتخابات العامة

ففي بروندي على سبيل المثال، ادعى الخطاب الإعلامي للحكومة أن بروندي محمية من الله وموفورة بالنعم الإلهية التي أبعدت الوباء عن تلك البلاد، وأنها لم تسجل سوي 42 حالة إصابة بالفيروس وحالة وفاة واحدة حتي 18 مايو 2020 أي قبل الانتخابات الماضية بيومين.

ويشير الخطاب السياسي للحكومة البروندية إلي سيطرة النزعة الدينية على النظام السياسي في بروندي بقيادة الرئيس الراحل والمنتهية ولايته «نكورونزيزا» والرئيس الحالي المنتخب الجنرال«إيفاريستندايشيميي» الذي قال في تصريح بعد انتخابه بأن “الله أنقذنا من جائحة الفيروس التاجي وتمكنا من إجراء الانتخابات والمشاركة فيها دون خوف وهذه إشارة إلي أن الله معنا.”

وعلى الجانب الأخر في تنزانيا، فقد أعلن التنزاني «جون ماجوفولي» أن بلاده أصبحت خالية من فيروس كورونا، وذلك بفضل صلاة المواطنين وأن المرض تم القضاء بفضل الله، لذا أعلنت الحكومة التنزانية في منتصف يونيو 2020 أنه سيتم رفع القيود المفروضة على البلاد يوم 29 يونيو القادم وسيسمح بعودة المدارس وإقامة الفعاليات الكبرى.

وجديرا بالذكر  أن كلا الدولتين بروندي وتنزانيا اتخذا اجراءات من شأنها تضليل الرأي العام حول وضع الجائحة في كلا البلدين، فعلي سبيل المثال أقدمت بروندي على طرد مندوبي منظمة الصحة العالمية من البلاد، فيما أوقفت تنزانيا تسجيل الحالات المصابة بفيروس كورونا منذ نهاية إبريل 2020 حيث تم تسجيل 509 حالة إصابة فقط و21 حالة وفاة.

لذا توجه الاتهامات إلي النظامين في بروندي وتنزانيا بإخفاء الحقائق والأرقام الرسمية حول حجم الاصابات بفيروس كوفيد 19، ففي بروندي تتهم المعارضة السياسية الحكومة بتضليل الرأي العام وتسجيل وفيات كورونا على أنها التهابات رئوية، وكذلك الحال في تنزانيا التي أعربت منظمة الصحة العالمية عن قلقها من استراتيجية الحكومة بشأن التعامل مع الفيروس.

لماذا؟

سعى النظام السياسي في كلا البلدين إلي تجاهل أمر الجائحة العالمية، وأقدمت بروندي على إجراء انتخاباتها وتعتزم تنزانيا على اجراء انتخاباتها في الخريف القادم دون مراعاة لأية اجراءات احترازية أو تخوفات من تفشي الجائحة في البلاد، الأمر الذي يثير  تساؤلا حول أسباب رغبة النظامين خاصة البروندي في إتمام الانتخابات وتجاهل تحذيرات كورونا.

قبل الإجابة على السؤال السابق، تشير العديد من المصادر الصحفية ومنها وكالة «فرانس برس» أن رأس النظام السياسي في بروندي اكتوى بنار الجائحة العالمية، إذ تعرض الرئيس المنتهية ولايته «نكورونزيزا» لأزمة قلبية مفاجئة في 8 يونيو الماضي أدت إلي وفاته وعجلت باجراءات تسليم السلطة لخلفه المنتخب «إيفاريستندايشيميي» في 12 يونيو  الماضي بدلا من أغسطس 2020.

وتشير الوكالة الفرنسية إلي زوجة الرئيس الراحل قد تعرضت للاصابة بفيروس كورونا وعلى إثر ذلك تم نقلها إلي أحد مستشفيات العاصمة الكينية نيروبي لتلقي العلاج، ويرجح أيضا أن تكون وفاة الرئيس البروندي جراء اصابته بالفيروس وليس أزمة قلبية كما ادعت الرئاسة والحكومة البروندية.

ونعود للتساؤل السابق حول دوافع الدولتين في تجاهل ثأثيرات الفيروس المتفشي والمضي قدما في إجراء الانتخابات، ونجد أن كلا البدلين يتشابهان في الظروف والدوافع التي دفعت إلي ذلك والتي من أبرزها:

  • خلافة نكورونزيزا

كلا البلدين يمران بأزمات سياسية خانقة، ففي بروندي تعرض الرئيس الراحل «نكورونزيزا»(2005 ـ 2020) لضغوط سياسية كبيرة من قبل الجيش البروندي وقادة الحزب الحاكم «المجلس الوطني للدفاع عن الديمقراطية ـ قوات الدفاع عن الديمقراطية» لأجل عدم ترشحه لفترة رئاسية رابعة في انتخابات 2020، في محاولة من الحزب لتقليل حجم العزلة الدولية التي فرضت على البلاد عقب الانتخابات الأخيرة في عام 2015.

حيث شهدت بروندي أعمال عنف عقب الانتخابات الرئاسية في عام 2015 أسفرت عن مقتل 1200 مواطن وتشريد نحو 400 ألف بروندي نتيجة أعمال العنف المصاحبة للانتخابات، وألقت الأمم المتحدة باللوم على الحكومة البروندية وأعضاء الحزب الحاكم في أعمال العنف التي شهدتها البلاد عقب انتخابات 2015.

حيث تجاوز نكورونزيزا مسألة قيد الدستور البروندي على ترشح الرئيس لأكثر من فترتين وترشح لفترة رئاسية ثالثة في عام 2015 وبرر أنصار الحزب الحاكم وقتها مسألة الترشح لفترة رئاسية ثالثة بالمخالفة للدستور أن الفترة الرئاسية الأولي لنكورونزيزا كانت بالتعيين وليس بالانتخاب.

بالإضافة إلي مسألة تجاوز الدستور نجد أن الحزب الحاكم «المجلس الوطني للدفاع عن الديمقراطية ـــــــ قوات الدفاع عن الديمقراطية» يعبر أيدلوجية إثنية تمثل جماعة الهوتو ، كما اشترك الحزب الحاكم ورئيسه الراحل في الحرب الأهلية البروندية في منتصف التسعينيات وأدين في عام 1998 بزراعة المتفجرات والألغام الأرضية لاستهداف عناصر الجيش وحكم عليه بالاعدام إلا أنه حظي بالعفو العام عقب المصالحة السياسية في عام 2003.

لذا ارتأى الحزب الحاكم أهمية امتصاص الأزمة السياسية في البلاد بعدم الدفع بـ« نكورونزيزا » في الانتخابات، واختيار الأمين العام للحزب والمستشار العسكري للرئيس «إيفارست ندايشيمي» خلفا له، ورغم ذلك يواجه «ندايشيمي» أزمة سياسية طاحنة متمثلة في اتهامه من قبل قوى المعارضة بارتكاب انتهاكات جسيمة لحقوق الانسان حينما كان يشغل منصب وزير الداخلية والأمن العام في عهد «بيارنكورنزيزا».

وبالإضافة إلي ماسبق تتهم قوي المعارضة البروندية الرئيس الراحل بتزوير الانتخابات ونتائجها، وقدم زعيم حزب المعارضة «أغاثون رواسا» التماسا إلي المحكمة الدستورية يدعى فيه حدوث تزوير في الانتخابات ونتائج التصويت إلا أن التماسه قوبل بالرفض.

شعبوية ماجوفولي

أما في تنزانيا فالأمر يختلف قليلاً، فعلي مدار  ثلاثة عقود ماضية برزت تنزانيا على أنها أحد القوى الديمقراطية الصاعدة في شرق أفريقيا محققة التداول السلمي للسلطة في العديد من المواقف التاريخية، إلا أنه مع انتخاب جون ماجوفلي باتت ىهناك تخوفات تسود الساحة التنزانية حول انحدار مستوى الديمقراطية في البلاد.

تعود التخوفات إلي الشعبوية السياسية التي يمارسها ماجوفولي منذ توليه السلطة في عام 2015  ففي السنوات الأخيرة حرص ماجوفولي على استهداف خصومه السياسيين والصحافة والتضييق عليها الأمر الذي دفع أحزاب المعارضة إلي مقاطعة الانتخابات المحلية الأخيرة والتي فاز بها الحزب الحاكم بنسبة 99% في نوفمبر 2019 مما دفع الرئيس ماجوفولي إلي بث رسائل طمأنينة  بأن الانتخابات المقبلة ستكون نزيهة.

ففي بداية توليه السلطة في عام 2015 اتخذ ماجوفولي العديد من الإجراءات التي من شأنها اكتساب المزيد من الشعبية السياسية ودغدغة المشاعر الوطنية للعديد من المواطنين، فعلبى سبيل المثال أقدم على الغاء الاحتفالات الوطنية بعيد الاستقلال وتوجيه الأموال المخصصة لتلك الاحتفالات لتطوير أحد الطرق المهمة في مدينة دار السلام، كما أصدر العديد من القرارات التي من شأنها منع موظفي الحكومة من السفر إلي أوروبا على نفقة الدولة وذلك تقليلا للنفقات كما أن سفريات ماجوفولي اقتصرت على دول شرق أفريقيا كإثيوبيا وأوغندا وكينيا.

وفي المقابل استغل ماجوفولي شعبويته السياسية لأجل تمرير العديد من السياسات التي ترسخ استبداده السياسي، فعلى سبيل المثال سن قوانين الجرائم الإليكترونية التي من شأنها ملاحقة منتقدي الرئيس عبر وسائل التواصل الاجتماعي.

كما شهدت تنزانيا خلال الأيام الأخيرة ملاحقات وأحداث عنف تعرض لها رموز المعارضة مثل «فريمان مبوى» والذي أعلن ترشحه في الانتخابات المقبلة تعرض للهجوم والضرب المبرح من قبل مجهولين مما أدي استياء  قوى المعارضة والعديد من القوي الدولية إذ انتقدت بعثة الاتحاد الأوروبي في تنزانيا الهجوم على مبوى مفسرة ذلك بأنه اعتداء على الديمقراطية، كما أعلنت سفارتي أمريكا وبريطنيا عن قلقهما من تصاعد استهداف قوى المعارضة في تنزانيا، ففي عام 2017 تعرض النائب المعارض في تنزانيا ونقيب المحامين «توندو ليسو» لحادث إطلاق نار أثناء خروجه من منزله مما دفعه إلي هجر بلاده والاقامة في بلجيكا كمنفي.

منحة إلهية

كل من الرئيس التنزاني جون ماجوفولي والرئيس البروندي الراحل نكورونزيزا والرئيس الحالي المنتخب ندايشيمي يعبرون أن مسألة توليهم للسلطة في بلادهم عبارة عن منحة إلهية حيث وهبهم الله إلى شعوبهم، ويتضح ذلك من تعليقاتهم حول أزمة كورونا، ففي بروندي أكد الرئيس الراحل والمنتخب أن الله نجا البلاد من الجائحة العالمية وكذلك فعل ماجوفولي بالتأكيد أن الصلاة كانت سببا في رفع الوباء عن البلاد.

وأخيرا.. يمكن استنتاج أن النظام السياسي في بروندي استغل أزمة الجائحة العالمية في تمرير الانتخابات التي شهدت خروج آمن للرئيس نكورونزيزا من السلطة وعدم محاسبته سياسيا وتوليه أقرب جنرالته السلطة من بعده مما يعني استمرار الحزب الحاكم المنتمي لجماعة الهوتو في السلطة، وكذلك الحال في تنزانيا إذ سيحاول نظام ماجوفولي استغلال الجائحة العالمية وتراجع الاهتمام بمسألة الديمقراطية وحرية الانتخابات من أجل اجراء انتخابات ستسمح له بالاحتفاظ بالسلطة لعام 2025.