كتب – أماني ربيع

“لا أغني من الورقة بل من قلبي..”.

امرأة ضئيلة هزيلة القوام، لكن لديها قدرة هائلة على التحمل وقدر كبير من حسّ الفكاهة أعانها على مواجهة تقلبات الزمن، وجهها المنحوت من الأبنوس، صاغه إزميل الأيام ووضع عليه بصمته من التجاعيد، لكن صوتها العذب لم يمسه الزمن، وكان عقدًا تلو عقد يزداد بهاء وقوة، فيصبح ثمينًا كجوهرة عتيقة.

يطلقون عليها بأم كلثوم أفريقيا، فهي كوكب القارة السمراء، التي اعتبرت صوتها هبة إلهية، ولم يمنعها عن الغناء سوى الموت، وظلت بعد تجاوزها المئة تقف بشموخ على المسرح تلبية لجمهورها المحب، إنها فاطمة بنت بركة خميس الشهيرة بـ”بي كيدودي”.

كان للمطربة الزنجبارية صوت قوي وحضور كبير على المسرح، وأصبحت في الثلاثين عامًا الأخيرة معروفة كواحدة من أفضل الموسيقيين بجزيرة شهيرة بتوابلها، وطالما كانت مفتوحة على تأثيرات الشرق، حيث مثلت زنجبار نقطة لقاء الرحلات التجارية بين العرب والهند وأفريقيا، واشتهرت بجزيرة التوابل والقرنفل، ظلت تحت حكم سلطنة عمان منذ عام 1698، حتى أصبحت محمية بريطانية عام 1890، وحصلت على الاستقلال عام 1963.

اشتهرت كـ”يدودي” بغنائها القريب من الأذن العربية، فالطرب السواحيلي هو قالب فني يمزج الأفريقي بالعربي، يرجح البعض عودة أصوله إلى فترة حكم السلطان برغش بن سعيد في القرن 19، حين كان يبسط حكمه على زنجبار وقرر إحضار عازفين من مصر لتعليم سكان زنجبار الموهوبين العزف على الآلات الشرقية، ما يكشف تأثير الثقافة العربية على زنجبار.

كانت تتحدث عن الغناء بصورة شعرية كما لو أنه لديها عشق من نوع خاص وأكثر من مرة وصفت لحظة الغناء بإلقاء الروح في السماء، لتحلق عاليًا وتصدح بالنغم، “يشبه الطرب إلقاء روحك في السماء الكل يجلي على كراسيه العازفين والجمهور، المغني وحده يغيب في الإيقاع مع سحر الموسيقى”.

لم تطمع أبدا في المال أو تسعى لتكوين ثروة؛ فالغناء بالنسبة لها كالحياة، تغني وتعزف على الطبول بقوة رغم ما يحتاجه ذلك من قوة بدنية يفتقده جسدها الهشّ الهزيل، لكن يبدو وكأن الغناء كان يمنحها تلك القدرة لتملأ خشبة المسرح الذي تقف عليها نغمًا وحضورًا وتأثيرًا يغرق فيه المستمعين أمامها.

مطربة الميناء

 ليس هناك تاريخ محدد لولادتها، لكن يرجح أنها ولدت في قرية مفاجيمارينو بزنجبار الفترة من 1910 إلى 1920، لأب مهنته +بيع+ تقول عن نشأتها: لا أعرف تحديدًا، لكني كنت مولودة في وقت كانت الروبية هي العملة”، وتم استخدام العملة الهندية في شرق أفريقيا حتى الحرب العالمية الأولى، لذا يمكن أن يقدر مولد بي كيدودي في عام 1910.

غنت صغيرة أمام سفن التجار على الموانئ وفي الشوارع وعلى المسارح، دومًا بنفس الحماس والشغف حتى آخر لحظة، تقول عن بداياتها مع الغناء: بدأت على مركب صغيرة في سن العاشرة، دون تعليم من أحد، كانت موهبتي تغذي صوتي وأدائي”.

كانت ترى أثناء وقوفها على الميناء التجار الغرب بسفتهم الكبيرة يجلسون للاسترخاء في الميناء، يحبون سمع قرع الطبول، فكنت مع الأطفال نستقبلهم بأغنية Alaminadora، في ذلك الوقت كانت بي كيدودي رثة الهيئة تبدو مثل متشردة.

تأثرت كيدودي برائدة الغناء في زنجبار “ستي بن سعد” (1880- 1950)، وهي أول امرأة تسجل أسطوانة غنائية في شرق أفريقيا، وغنت جنبًا إلى جنب معها، وأصبحت كيدودي واحدة من أولى النساء اللواتي غنين في الأماكن العامة، في خطوة شجاعة داخل مجتمع اتسمت نساؤه بالتحفظ.

وبعد ذلك عملت مع فرقة محلية تقدم موسيقى الدومباك، وهو نوع موسيقي أفريقي يعتمد على إيقاعات الطبول بشكل أساسي، ومستوحى من التراث السواحيلي يستخدم فيه آلات عربية مثل العود والقانون مع الطبول وآلات النفخ الأفريقية جنبًا إلى جنب.

ويعود الفضل في أسلوب الموسيقى الزنجبارية إلى فرقة التخت المصري في ثلاثينيات القرن العشرين، وقبل ذلك كان تأثير الموسيقى الهندية أكثر وضوحًا، اعتبرت كيدودي الغناء وسيلتها للتعبير عن بنات جنسها، وكثيرًا ما حملت أغانيها السخرية من سلوكيات الرجال تجاه النساء وإساءة معاملتهن.

وفي الوقت الذي سافرت فيه ستي بنت سعد إلى بومباي لتسجيل أول أغنية لفنان أفريقي عام 1928، بدأت كيدودي جولة في شرق أفريقيا تنقلت فيها من قطر إلى قطر عبر القطار.

ركود ثم توهج

عانت مسيرتها من الركود فترة طويلة، لكن عندما انضمت لفرقة Twinkling Stars أو النجوم المتلألئة لصاحبها محمد إلياس، عادت للتوهج مجددًا، وأصبحت المطربة الرئيسية للفرقة، وتطورت مهنتها خلال سنوات غنائها بتلك الفرقة، وسافرت معها في جولات غنائية في أوروبا والشرق الأقصى، ليذيع صيتها في الخارج.

انضمت كيدودي بعد ذلك في بداية التسعينيات إلى  فرقة دار السلام  Shikamoo Jazz “شيكامو جاز” وهي فرقة تمزج الطرب بموسيقى الجاز، مكونة من مجموعة من الموسيقيين المسنين من دار السلام قامت بدعمهم المنظمة البريطانية HelpAge International.

وفي جولة ببريطانيا عام 1995، كانت كيدودي نقطة جذب رئيسية، في مهرجان Womad في ريدينج، حيث عبّر صوتها العميق المليء بالمشاعر عن تجربة عمر.

كانت كيدودي تجيد أكثر من لون غنائي تؤديهم بنفس القوة والتمكن، غنت بالعربية واشتهرت بأداء أغاني المطربة المصرية أم كلثوم، وألحان الموسيقار المصري محمد عبدالوهاب، وغنت التراث الزنجباري، وغنت الجاز، لا تحركها نوتة أو آلالات، بل تنطلق بوحي من الموهبة وخبرة السنين.

لم تعرف “الجدة الصغيرة” طعم الشهرة إلا في نهاية مسيرتها، ومنحت عام 2005 جائزة ووميكس العالمية، تقديرًا لمسيرتها وتأثيرها الثقافي، وكونها رمزًا للموسيقى التحررية في العالم، وفي 2006، تم إصدار الفيلم الوثائقي “Old As My Tongue: The Myth and Life of Bi Kidude”، عن سيرة حياتها.

ومنحتها تنزانيا وسام استحقاق الفنون عام 2012، وقال منتجها إنها لو كانت تنتمي لمكان آخر غير تنزانيا لجعلها صوتها مليونيرة.

الجدة الصغيرة

اعتبرها المواطنون في تنزانيا بمثابة أم وجدة، ولقبت بـ”الجدة الصغيرة”، لذا مثل رحيلها يوم 17 أبريل عام 2013، صدمة كبيرة وعم الحزن البلاد، وشيعها الآلاف إلى مدفنها في قرية كيتومبا، بعد الصلاة عليها في المسجد، بحضور الرئيس الرئيس جاكايا كيكويتي الذي شارك في تشييع جنازتها.

كما كانت بي كيدودي سخية بصوتها، كانت أيضًا كريمة على الفقراء والمحتاجين وقامت برعاية الكثير من الأيتام، لم تغلق يومًا بابها في وجه أحد، فقد عانت في طفولتها من الفقر الشديد، وتعرف جيدًا كيف يكون الجوع والحاجة، ومنحت كل ما لديها لمن حولها، حتى لو باتت مفلسة، فالنقود ليست في حساباتها.

وقال مدير أعمالها يوسف محمود: إن زنجبار استيقظت مؤخرًا على حقيقة وجود هذا الكنز داخل جزيرتهم منذ عقود، لكن هذا جعلها مطمعًا للكثيرين، فقد كان معروفًا عنها سخاءها الشديد، وحكى عن موقف حدث عام 2004 في منزلها بستون تاون وكانت لديها 4 آلاف دولار، فقدتها في غضون 10 أيام بعدما استجابت لمطالب العشرات الذين طرقوا بابها طلبًا للمساعدة.

كانت كيدودي، تعالج الربو بالأعشاب الطبيعية وفقًا للثقافة الأفريقية التقليدية، لذا كان من المعتاد مشاهدة المرضى واقفين طلبًا للعلاج، أمام منزلها المتواضع الذي عاشت فيه مع أقاربها.

وفي 2012، اختفت كيدودي وانتشرت في الصحف عناونين مثل “سر اختطاف كيدودي”، وادعى شخص أنه ابن أخيها قام باحتجازها ليمنع استغلالها من قبل الموسيقيين المعاونين لها، وقال إنه سيمنعها من الغناء بسبب وضع رئتيها، ويبدو أنها لم تتحمل الغياب عن الغناء الذي كانت تصفه دومًا بأنه حياتها، لذا رحلت بعد أقل من عام من توقفها عن الغناء.