بقلم د. أماني الطويل
مدير البرنامج الأفريقي بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

تتفق معظم التقديرات السياسية داخل وخارج السودان على أن مسارات المرحلة الانتقالية تواجه لحظة مفصلية حرجة، تتطلب درجة عالية من الانتباه من جانب القوى الثورية، وخاصة التحالف المدني؛ أي الحكومة التنفيذية وتحالف الحرية والتغيير، ذلك أن مسألة تحقيق انتقال ناجح نحو حكم ديمقراطي ينتج استقرارًا سياسيًّا وتقدمًا اقتصاديًّا، مسألة بالغة التعقيد في ضوء معطيات داخلية وخارجية منها ما هو قديم ومنها ما هو مستجد، فضلا عمّا تشكله جائحة كورونا من ضغوطات اقتصادية إضافية على الحكومة السودانية في هذه المرحلة، ويجعل النخب السياسية السودانية تطرح الأسئلة بشأن المستقبل، وذلك بعد مرحلة من التعويل الإيجابي على المخزون التاريخي للخبرات السودانية في عمليات التغيير السياسي، والتي كان من المفترض أن يقودها إلى نجاح في تحقيق أهداف الثورة السودانية المعلنة في الحرية والسلام والعدالة.

وفي هذا السياق نناقش هنا مستجدات المشهد السوداني وطبيعة التفاعلات الراهنة، وذلك بالتعرض لثلاثة محاور هي:-

أولًا: تطورات المشهد السوداني خلال عام

 ثانيًا: موقف الأحزاب السياسية من الحكم الانتقالي.

 ثالثًا: فرص استمرار التحالف الثوري لحجم التحديات المطروحة أمامها وفرص اجتياز هذه التحديات:

أولًا: المشهد السوداني خلال عام

تمّ إنهاء فترة حكم الرئيس عمر البشير في ١١ إبريل ٢٠١٩، نتيجة احتجاجات شعبية استمرت ٥ شهور، انحازت لمطالبها القوات المسلحة السودانية، فاتخذت إجراءات خلعه، وذلك في أعقاب اعتصام أمام القيادة العامة للقوات المسلحة السودانية مطلع إبريل ٢٠١٩، تم الفشل في فضه عبر أكثر من هجوم ليلي على معسكرات المعتصمين من جانب قوى لم يتم تحديد هويتها على وجه الدقة بشكل رسمي حتى الآن، وإن كان يرجح أنها لميليشيات النظام البائد، والتي تنقسم بين أكثر من ميليشيا تتبع جهات مختلفة، ولكنها على أية حال تنتمي إلى قوى الإعلام السياسي على تنوعها في السودان.

وقد أقدمت القوات المسلحة السودانية على تعطيل العمل بدستور البلاد، وحلّ الحكومة والبرلمان، وتشكيل لجنة أمنية عليا برئاسة وزير الدفاع عوض بن عوف، ولكن هذا الاختيار حظي برفض تحالف قوى الحرية والتغيير القائد للحراك الثوري السوداني مؤسس على انتماء وزير الدفاع إلى نظام الرئيس المخلوع والجبهة القومية الإسلامية، وهو ما تمت الاستجابة له فعليًّا في غضون يومين، وتم تشكيل المجلس العسكري الانتقالي برئاسة عبدالفتاح البرهان الذي تم وصفه آنذاك بالعسكري المهني غير المرتبط بتنظيمات سياسية، وهو الرئيس الحالي للمجلس السيادي المنوط به صلاحيات رئيس الجمهورية.

وقد أسفر الحوار بين الأطراف عن توقيع اتفاق سياسي في ١٤ مايو ٢٠١٩ بين المجلس العسكري الانتقالي وتحالف الحرية والتغيير “قحت”، حيث تمت بلورة كيانات الحكم الانتقالي في مجلس سيادي مكون من عناصر عسكرية ومدنية، يمثلون الأقاليم السودانية، ويراعي الحساسية الجندرية بوجود عضوية نسوية فيه، على أن تتولى قوى الحرية والتغيير بمفردها تعيين مجلس الوزراء من الكفاءات الوطنية، وأن يتكون المجلس التشريعي من 300 مقعد، يخصص 67% منها لقوى الحرية والتغيير، فيما تخصص33% للقوى السياسية غير المنضوية في التحالف الثوري، وذلك بعد استبعاد العناصر الموالية للنظام السابق، أو تلك المتورطة في قضايا الفساد وانتهاك حقوق الإنسان.

وفيما يخص الفترة الانتقالية فقد تم التوافق على فترة ٣٩ شهرا، كما تم التوافق أيضًا على تخصيص الــ٦ أشهر الأولى لقضايا وقف الحرب وتوقيع اتفاقيات سلام مع الحركات المسلحة السودانية في كل من مناطق دارفور، والنيل الأزرق، وجبال النوبة.

وقد استقر الطرفان أيضًا على تشكيل مجلس للأمن برئاسة رئيس المجلس السيادي، وعضوية وزراء الدفاع والخارجية والداخلية والعدل والمالية، بحيث يصدر قانون لاحق لتنظيم صلاحيات المجلس.

وقد واجه هذا الاتفاق معارضة من جانب القوى الإسلامية سواء القوى المحسوبة على النظام السابق؛ كحزب المؤتمر الوطني، أو المعارضة له +لحزب المؤتمر الشعبي والذي قاد تحركات شعبية كانت محدودة الأثر في تغيير أسس المعادلة السياسية الحاكمة للتفاعلات، وهو الأمر الذي فتح الباب أمام محاولات المجلس العسكري في التملص من التزاماته بشأن حصص تحالف الحرية والتغيير من المجلس التشريعي، وتحت مظلة تصاعد التوتر بين الأطراف استمر الاعتصام الجماهيري حول القيادة العامة للقوات المسلحة السودانية، وتورطت قوى غير معروفة حتى الآن في ٣ يونيو ٢٠١٩ في عملية فض الاعتصام بالقوة وممارسة عنفٍ ضد المعتصمين، واغتصابٍ ضد المعتصمات، وهو ما أسفر عن توقف الحوار السياسي، وبروز مخاطر المواجهات العنيفة بين الطرفين، وهو التطور الذي هو محل تحقيق قضائي حاليًّا، ويشكل أحد أسباب التضاغط السياسي بين الأطراف.

وبعد تدخل من الاتحاد الإفريقي وإثيوبيا استقرت العلاقة بين أطراف المعادلة السياسية السودانية بمحددات وثيقة دستورية تم التوقيع عليها في أغسطس ٢٠١٩، وتم التعامل بها خلال الشهور اللاحقة، ولكن مع مطلع مارس ظهرت ملامح تأزم في المشهد السياسي لعدد من الأسباب منها:-

  • اعتماد كافة القوى السياسية على مناهج المحاصصة الحزبية أو الجهوية أو العرقية في كافة التفاعلات المرتبطة بتشكيل الأجهزة والتنظيمات المنوط بها تسيير هياكل الدولة وضمان تقديم الخدمات للمواطنين، ومن ذلك تعطل تكوين المجلس التشريعي الذي كان من المفترض أن يبدأ في ممارسة أعماله في نوفمبر ٢٠١٩ طبقًا للوثيقة الدستورية، كما تم تأجيل تعيين الولاة على خلفية إصرار الحركات المسلحة التي دخلت في مفاوضات سلام مع الحكومة أن يكون هؤلاء الولاة من مناطق الولايات وليس من المركز أي وسط السودان.
  •  التباطؤ في تنفيذ إزالة أوزان وقدرات النظام القديم، حيث تم رصد اتجاه يسعى لإعادة التدوير السياسي لبعض رموز نظام البشير خصوصًا قياداته الأمنية، وكذلك لوحظ التباطؤ في ملاحقة فساد رموز نظام البشير على المستوى المالي، كما لم يُعرف على وجه الدقة الموقف من محاكمة البشير أمام الجنائية الدولية.
  • تململ القوى التقليدية خصوصا حزب الأمة، الذي جمد عضويته في تحالف الحرية والتغيير الممثل للثورة، وبدا متعجلًا لإجراء الانتخابات في محاولة لضمان استمرار وزنه مؤثرًا في المعادلات السياسية.
  • تزايد ملامح التصدع في العلاقات بين المكونين المدني والعسكري، على خلفية المزايدات السياسية التي يمارسها النشطاء السياسيون وبعض قوى تحالف الحرية والتغيير ضد المكون العسكري، وكذلك محاولات المكون العسكري التغول على صلاحيات الحكومة التنفيذية في عدد من الملفات فضلًا عن امتلاكه أدوات اقتصادية تجعل وزنه مرجحًا نسبيًّا عن الحكومة التنفيذية التي تبدو ولايتها على المفاصل الاقتصادية للدولة ضعيفة إلى حد ما.
  • تصاعد الأزمة الاقتصادية وسط ارتباك واضح في إدارتها بين الحكومة وقوى الحرية والتغيير وذلك في ضوء جنوح وزير المالية لسياسات تسعى لإلغاء الدعم عن السلع الأساسية، ورفض أحزاب وقوى الحرية والتغيير هذه الخطوة، في وقت لم يكونوا جاهزين بسياسات بديلة، خصوصًا مع وجود تحدي العقوبات الاقتصادية المفروضة على السودان من جانب الولايات المتحدة الأمريكية، وتأجيل مؤتمر المانحين للسودان أكثر من مرة
  • دخول بعض القضايا الإقليمية (سد النهضة) على مسار التفاعلات بين المكونين المدني والعسكري في مجلس السيادة، حيث تم تنازع الولاية على هذه الملفات، وقام الجيش السوداني بفرض سيادته على بعض مكونات وزارة الري.
  • استمرار الفاعلية للنظام السابق خصوصًا على الصعيد الاقتصادي رغم خطوات لجنة التمكين في حصار رموز النظام السابق، ولكن يبدو أن الآليات التنفيذية للجنة غير جاهزة نسبيًّا.

وفي هذا السياق المأزوم تصاعدت الانتقادات السياسية بشكل كاد يؤدي إلى فك التحالف بين المكونين العسكري والمدني، ولكن جرت محاولة لاحتواء تصاعد التوتر السياسي بالبلاد بين مكونات معادلة الحكم الانتقالي، وجرى عدد من الاجتماعات بين المكونين المدني والعسكري تم الإعلان عن نتائجها في الأسبوع الثاني من إبريل ٢٠٢٠، حيث تم تجديد محددات العلاقة بين الطرفين فيما عرف بالمصفوفة، والتي أكدت على أن تكوين المجلس التشريعي وإجراءات تعيين الولاة لن يتجاوز شهرًا، كما جرى تنشيط أعمال لجنة إزالة التمكين للنظام القديم، وملاحقة الفاسدين فتمت مصادرة عقارات ومؤسسات وأسهم في سوق المال، كما تم التخلي عن إعادة تدوير بعض أسماء الأجهزة الأمنية السابقة وهي المحاولات التي تم نسبها إلى المكون العسكري في المجلس السيادي، وذلك من جانب قوى الحرية والتغيير، فضلًا عن إصلاح الأجهزة الأمنية، بما يعني تحجيم أو التخلص من منسوبي الجبهة القومية الإسلامية داخل هذه الأجهزة، وفي الأخير تدشين آليات المتابعة والرقابة على التنفيذ مفردات المصفوفة المتفق عليها.

ثانيًا: موقف الأحزاب السياسية من الحكم الانتقالي

يشكل التنافس بين القوى التقليدية والحديثة في السودان أحد أهم المداخل لفهم التفاعلات السياسية السودانية المعاصرة في مرحلة ما بعد الاستقلال السوداني في منتصف القرن العشرين، ذلك أن تحفّظ القوى التقليدية -خصوصًا حزب الأمة- على الصعود السياسي للقوى الحديثة التي تعد الأحزاب اليسارية خصوصًا الحزب الشيوعي هي روافده التقليدية، ويساهم هذا الموقف السلبي بين الطرفين دائمًا في إنهاء الفترات الانتقالية بعد الثورات، والتعجيل بإجراء الانتخابات، وذلك بغرض سياسي واضح هو عدم إعطاء الفرصة للقوى الحديثة عبر الاستمرار في فترة انتقالية طويلة في فك اللحمة بين الأحزاب التقليدية وقواعدها الجماهيرية في الأقاليم والتي يعد الولاء الطائفي والديني هو أهم أسباب لحمتها.

وفي هذا المقام يمكن التذكير بمجريات الفترة الانتقالية بعد ثورة ١٩٦٤حيث لجأ تحالف الأحزاب الوطنية لإنهاء الفترة الانتقالية، وذلك بالتهديد باستخدام القوة من جانب حزب الأمة، وذلك باستدعاء أنصاره إلى الخرطوم مطالبًا بانتخابات مبكرة، بالمخالفة لتوجهات التحالف الثوري الذي كان يسمى وقتذاك بجبهة الهيئات التي كانت النقابات والقوى الحديثة هي نواته الأساسية، حيث فشل هذا التحالف في حماية رئيس الوزراء الذي اختاره (سر الختم الخليفة) واستقال قبل أن تُكْمِل حكومته شهرها الرابع. وعُقِدت “الانتخابات المبكرة”، وفاز حزب الأمة بغالبية المقاعد، وأصبح السيد محمد أحمد المحجوب رئيسًا للوزراء([i])، ولكن لم يستقر الحكم الديمقراطي ليس فقط بسبب انقلاب نميري العسكري، ولكن بسبب التفاعلات السياسية السلبية التي جرت تحت قبة البرلمان السوداني بين الأحزاب، وعطّلت أي قدرة للحكومة للقيام بوظائفها المنوطة بها لخدمة الشعب السوداني.

ويمكن القول: إن حزب الأمة يحافظ راهنًا على ذات الأداء السياسي التاريخي والمقاوم لإنهاء الفترة الانتقالية، وقيام انتخابات مبكرة تحافظ له وزنه السياسي خلال الفترة المقبلة، وهو بذلك يغازل المكون العسكري في المجلس السيادي، طوال الوقت ويزكي قدراته السياسية مقابل المكون المدني، وفي هذا السياق عرض زعيمه السيد الصادق المهدي في مطلع ٢٠٢٠ انضمام نائب رئيس المجلس العسكري محمد حمدان دقلو قائد قوات الدعم السريع إلى حزب الأمة، وهو الأمر الذي رفضه الأخير.

 ثالثًا: فرص استمرار التحالف الثوري الواسع

ربما يكون من أهم إيجابيات الحراك الاحتجاجي السوداني هو قدرته على بلورة قائد سياسي للحراك في توقيت سريع، في تجربة لم يمثلها أي حراك ثوري عربي لا قبل الثورة السودانية ولا بعدها، وذلك استنادًا إلى خبرات التغيير المخزونة تاريخيًّا في العقل السياسي السوداني، من هنا أعلن عن تكوين تحالف الحرية والتغيير في مطلع ٢٠١٩ وهو يوم ذكري استقلال السودان، وذلك بعد أقل من أسبوعين من بدء الحراك الشعبي منطلقًا من مدينة عطبرة في ١٩/ ١٢/ ٢٠١٩، وقد ضم هذا التحالف القوى السياسية والنقابية الآتية:

١- تجمع المهنيين السودانيين

وهو تنظيم عابر لجيل الوسط السوداني في كافة التنظيمات النقابية؛ حيث نطقت باسم التجمع شخصيات سودانية من أهم العواصم العالمية، وبرز منهم أطباء وصحفيون ودبلوماسيين سابقين ومعلمين وأساتذة جامعات بما يعني أنهم تعبير عن الطبقة الوسطى السودانية بتجلياتها الحديثة، ويعد هذا التجمع أحد أشكال المقاومة التي تبلورت ضد نظام البشير، وهو جسم مستقل عن الأحزاب السياسية تكون عام ٢٠١٣، وحقق وثبة في ٢٠١٦ بميثاق بين كياناته النقابية الثمانية، وقدرته على حماية الحقوق المهنية للعمال والمهنيين، حيث قدم للبرلمان السوداني مذاكرات لتحسن أجور العاملين في يوليو ٢٠١٨، وهي المذكرة التي ترتب عليها ملاحقات أمنية[ii] لأعضائه.

وقد ساهم نضال تجمع المهنيين بشكل فعال في مناهضة نظام البشير قبل ديسمبر ٢٠١٨ في اكتسابه لشرعية سياسية جعلت منه النواة الصلبة لتحالف الحرية والتغيير، كما أن تفاعلاته مع القوى السياسية في الفترة من يوليو إلى ديسمبر ٢٠١٨ جعلته يطور مذكرته لرفع الأجور للتبشير والإسناد لحركة الاحتجاج الشاملة التي برزت نهاية العام([iii]).

٢- قوى الإجماع الوطني:

وينضوي تحت لوائها تكتل الأحزاب المعارضة في السودان التي تمتنع عن المشاركة في الحياة النيابية في البلاد كمؤشر لرفض جذري للنظام، وتضم 17 حزبًا معارضًا، تأسس في سبتمبر/ أيلول 2009 وتزعمه الراحل فاروق أبو عيسى، وزير الخارجية السوداني الأسبق والأمين العام السابق لاتحاد المحامين العرب.

٣- قوى نداء السودان:

انسلخ كل من حزبي الأمة والشيوعي عن قوى الإجماع الوطني ليؤسسوا ما سمي بقوى نداء السودان الذي ضمّ أيضًا عددًا من الأحزاب السياسية؛ مثل حزب المؤتمر السوداني والحركات المسلحة مثل حركة تحرير السودان، حركة العدل والمساواة، حزب البعث، الحزب الوحدوي الناصري.

٤- التحالف الاتحادي المعارض:-

ويضم ثماني فصائل اتحادية أعلنت تكتلها في ٣٠ يناير ٢٠١٨ على أسس المعارضة الجذرية لنظام البشير وهذه القوى الاتحادية هي: الوطني الاتحادي الموحد، الحزب الاتحادي الديمقراطي العهد الثاني، الوطني الاتحادي، الاتحادي الموحد، الحركة الاتحادية، الاتحاديين الأحرار، التيار الحر، اتحاديين معارضين.

٥- الحركات المسلحة

وقّعت حركتا تحرير السودان بقيادة منو ميناوي، والعدل والمساواة بقيادة إبراهيم جبريل، وكذلك الحركة الشعبية قطاع الشمال بقيادة ياسر عرمان على إعلان الحرية والتغيير، بينما امتنع عن ذلك عبدالعزيز الحلو زعيم الحركة الشعبية في جنوب كردفان، ومالك عقار في مناطق النيل الأزرق، وعبدالواحد محمد نور رئيس حركة تحرير السودان الأم وهي الحركات التي أعلنت وقفًا لإطلاق النار في مناطق العمليات السودانية في جبال النوبة ودارفور ولكنها لم توقع على إعلان الحرية والتغيير انتظارًا لنتائج الحراك، ولكن ذلك لم يمنع قواعد هذه الحركات بشكل عام من المشاركة في الحراك الثوري، كما تمركزت عناصرها في اعتصام القيادة العامة للجيش السوداني.

ويمكن القول أنه على مدى عام ونيف لعبت عوامل متعددة في ترهل التحالف الثوري منها ما هو مرتبط بأن صياغة التحالف قد صيغت إزاء مهدد رئيسي واحد، وقد تراجع هذا المهدد نسبيًّا وبدرجة معقولة، مما جعل التناقضات الثانوية بين هذه الكيانات السياسية واضحة للعيان، ومنها طبيعة الانقسامات السياسية بين هذه المكونات والتي لها طابع تاريخي إلى حد ما، ومنها ثالثا المصالح السياسية المتناقضة والتي ربما تصل إلى حالة صراعية وثأرية بين الأحزاب التقليدية وقوى اليسار.

ولعل هذه العوامل الرئيسية هي التي تقوم بدور حاليًا في تفتيت التحالف الثوري لإضعافه وإنهاء المرحلة الانتقالية، حيث انسحب حزب الأمة من إعلان الحرية والتغيير ورهن عودته بعدد من الشروط منها تعيين قيادة لتحالف الحرية والتغيير عوضًا عن المجلس التنفيذي للتحالف([iv])،ـ والمتهم من جانب حزب الأمة وبعض النخب السودانية بالترهل في الأداء وفي سياق مواز تلعب قوى النظام البائد نفس الدور لإنهاء المرحلة الانتقالية، ولكن بآليات مغازلة المكون العسكري، والرهان على عدم جدارة حكومة حمدوك في قيادة مصالح الدولة السودانية، والثانية التحريض على الحكومة من جهة ممارسة بعض الأخطاء في اختيار بعض القيادات التنفيذية، أو انتماء هؤلاء إلى قوى اليسار وحدها دون الآخرين.

وبطبيعة الحال لا يمكن وضع الفريقين في سلة واحدة، إذ إنه رغم سعي حزب الأمة لإنهاء المرحلة الانتقالية، لكن لابد من الإشارة لجدية عدد من ملاحظاته، وتمتعها بخبرة سياسية لا يستهان بها.

في المجمل يمكن القول: إن استمرار التحالف الثوري بشكله الراهن سوف يكون جزءًا من التاريخ، خصوصا في ضوء المحاصصات المنتظر بلورتها في إطار تكوين المجلس التشريعي، وفي ظني أنه يجب على القوى الحديثة أن تستعد لمثل هذا التطور الموضوعي.

رابعًا: آفاق المستقبل السوداني

في ضوء تعقيدات المعادلة السودانية وتركيبها فإنه من المطلوب استمرار المجهودات الرامية إلى استكمال الفترة الانتقالية والحفاظ على التحالف بين المكونين المدني والعسكري، حتى يمكن تغيير قواعد اللعبة السياسية التاريخية في السودان، التي لم تسفر لا عن استقرار سياسي ولا عن تطور ديمقراطي ولا تنمية اقتصادية بطبيعة الحال وهو أمر يتطلب الاضطلاع برؤى يكون لها أفق وطني استراتيجي، وآليات لتفعيل هذا الأفق.

وفي هذا السياق ربما يكون المسئولية الأساسية تقع على عاتق الحكومة التنفيذية، ورئيس الوزراء عبدالله حمدوك التي عليها ممارسة فاعلية سياسية أكبر، والقفز من سفينة المماحكات السياسية التي يتم ممارستها حاليًا تحت مظلة تحالف الحرية والتغيير، وذلك لأن انقسام التحالف لكيانين رئيسيين، ربما يكون أمرًا متوقعًا في ضوء تناقض الأفق السياسي بين القوى الحديثة، والقوى التقليدية تاريخيًّا، ذلك أن استمرار هذا التحالف عامًا ونيف لهو بطولة في حد ذاتها لابد من الإشادة بها.

ويمكن القول: إن نجاح خطوة حمدوك تتطلب مراهنته على مكون حزبي متماسك نسبيًّا ممثلا لقوى الحداثة، ولعل حزب المؤتمر السوداني يمكنه أن يكون مرشحًا لهذا الدور، في ضوء تمثيله للشريحة الأوسع من الشباب وقواهم الثورية ورئيسه الدقير يملك خبرات سياسية وازنة، كما يملك علاقات إقليمية تمكنه من إدارة تفاهمات تحقق تحولًا ديمقراطيًّا في السودان، ويحظى بقبول وربما مباركة إقليمية، ولكن ذلك الإسناد السياسي لن يغني عن المطلوبات الآتية.

  • امتلاك رؤية تملك أفقًا وطنيًّا عامًّا يعلو عن الذهنية الحزبية والانقسامية المؤثرة على الذهنية السياسية السودانية تاريخيًّا.
  • بلورة طرح محدد إزاء إعادة هيكلة الدولة السودانية لتستوعب تنوعها ووحدتها يتم تقديمه للقوى المسلحة للتفاوض عليه وعدم الاستسلام لفكر المحاصصة الذي تطرحه هذه القوى، وذلك مع تقديم آليات واقعية وقومية لإتاحة الولوج للثروة والسلطة في السودان.
  •  القيام بتطوير الحكومة لتكون أكثر كفاءة وفاعلية، ربما بعناصر جديدة تكون متملكة لملامح هذه الرؤية.
  • التفاعل مباشرة مع لجان المقاومة في الأحياء والتي تعد حاضنة سياسية مطلوبة في هذه المرحلة، ولكن بشرط اضطلاع وزارة الشباب بتطوير كفاءات ورفع قدرات عضوية هذه اللجان على المستويين السياسي والثقافي.
  • الاستعداد مبكرًا لنتائج لجنة التحقيق على المستوى السياسي، والتي تحقق في عملية فضّ الاعتصام والاغتيالات السياسية، وهي العملية التي تتطلب تدشينًا سريعًا لآليات العدالة الانتقالية، وشفافية في الإعلان عن نتائج التحقيق، وفعالية للجنة التحقيق ذاتها، وذلك حتى لا ينفجر الوضع السياسي.

وفي تقديرنا أن نجاح هذه المعادلة ممكن في ضوء الزخم الشبابي المناصر لتحديث الدولة، لتكون رصيفة لدول متقدمة في الإقليم على المستويين السياسي والاقتصادي، فضلًا عن عدم قدرة القوى التقليدية على تقديم صيغ مناسبة لهذه المرحلة تأخذ الحداثة بعين الاعتبار، فضلًا عن الحالة الانقسامية للقوى المسلحة، والتراجع الدولي عن إسنادها وتراجع قدراتها العسكرية.

أما على مستوى المكون العسكري فيبدو في تقديرنا أنه لا يملك القدرة على الانفراد بالسلطة بدليل تفاعله الإيجابي مع اجتماعات المصفوفة، وذلك لسببين؛ الأول: الموقف الداخلي المضاد لسيطرة المؤسسة العسكرية على السلطة، وتحسبه لانقلاب قوى النظام السابق عليه، حيث أفصح الفريق أول عبدالفتاح البرهان -رئيس المجلس السيادي- عن واقعية المحاولات الانقلابية فعليًّا[v]، وكذلك موقف قوات الدعم السريع وقائدها الذي يملك ثباتًا في موقفه لدعم الثورة وربما قواها الحديثة.

على أن هذه المعطيات لا تنفي تطلع القوات المسلحة السودانية إلى وزن في عملية صناعة القرار السياسي المستقبلي، وهو أمر يبدو منطقيًّا في ضوء طبيعة التهديدات التي تواجهها الدولة على المستوى القومي.


[i] . الباقر العفيف، متاح على الرابط التالي: 

[ii] .  محضر مقابلة شخصية مع أحمد ربيع رئيس تجمع المهنيين في الخرطوم ١٣/ ١٢/ ٢٠١٩

[iii] . رئيس الحزب الناصري محضر مقابلة مع جمال إدريس.

[iv] .. انظر بيان حزب الأمة السوداني متاح على

https://www.facebook.com/National.Umma.Party/

[v] . حوار الفريق أول عبدالفتاح البرهان للتلفزيون القومي السوداني متاح على:

https://www.searchnewworld.com/search/search2.html?partid=rolbng&p=%D8%AD%D9%88%D8%A7%D8%B1+%D8%A7%D9%84%D8%A8%D8%B1%D9%87%D8%A7%D9%86+%D8%B9%D9%84%D9%8A+%D8%A7%D9%84%D8%AA%D9%84%D9%8A%D9%81%D8%B2%D9%8A%D9%88%D9%86+%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%88%D8%AF%D8%A7%D9%86%D9%8A&subid=004