كتب – د. سمر أبوالسعود
باحثة في الشئون الأفريقية

جرت العادة على أن يتم تحويل مبالغ نقدية ضخمة بصورة ممنهجة من الدول الغنية إلى الدول الفقيرة تحت شعار المساعدات الدولية، حيث تكون إما على هيئة قروض ميسرة، أو على هيئة هبات[1]، وعلى الرغم من أن تاريخ المساعدات الدولية يرجع إلى العصور القديمة، إلا أنها أصبحت منتشرة وشائعة بدءًا من القرن التاسع عشر، ثم أصبحت نشاطًا رئيسيًّا بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية خاصة في أعقاب نجاح خطة مارشال في تحقيق أهدافها، لا سيما وأنها تعد تاريخيًّا النموذج الأنجح للمساعدات الدولية، فتحولت أنظار الدول الصناعية الكبرى إلى الدول النامية المستقلة حديثًا خلال حقبة الستينيات لتوجيه المساعدات لها، فكانت الستينيات والسبعينيات تمثل العصر الذهبي للمساعدات الدولية، والذي انتهى بوقوع أزمة الديون الخارجية في نهاية السبعينيات، وبحلول التسعينيات ومع نهاية الحرب البادرة وتفكُّك الاتحاد السوفيتي، وظهور الأجندة العالمية الجديدة دخلت منظومة المساعدات في مرحلة جديدة تمامًا تختلف تمامًا وكليًّا عن سابقاتها، فمع اختلاف ظروف وأوضاع البيئة الداخلية والخارجية للدول النامية عامةً والأفريقية خاصةً، اختلفت الدوافع والمحددات التي كان يتم تقديم المساعدات وفقًا لها.

وعلى الرغم من أن المانحين دائمًا ما يروجون لفكرة أن الأساس من وراء تقديمهم للمساعدات هو الدوافع والاعتبارات الإنسانية، إلا أن الواقع يشير إلى أن المساعدات لا تُقدم مجانًا إلا في حالات قليلة وربما تكون نادرة؛ فالغالبية العظمى من المساعدات المقدمة تكون في هيئة قروض ميسرة، والنذر اليسير منها هو الذي يُقدم في شكل منح وهبات لا تُرد، فالمساعدات تُمنح في الأصل بهدف خدمة المصالح الاقتصادية والسياسية للمانحين، وخدمة استثماراتهم في الدول المتلقية، وليس لخدمة مصالح الدول المتلقية، وكان برين أتوود (Brian Atwood) المدير المسئول عن وكالة التنمية الأمريكية قد صرح في وقت سابق أمام لجنة العلاقات الدولية في الكونجرس الأمريكي أن “تحقيق وضع قيادي عالمي للولايات المتحدة الأمريكية يُعد واحدًا من أهم أهداف المساعدات الأمريكية”. وهو ما يفسر ارتباط عملية تقديم المساعدات دائمًا بفرض شروط محددة، فالمساعدات والمشروطية وجهان لعملة واحدة، فهما متلازمتان لا تفترقان، فلا توجد مساعدات غير مشروطة، ولم تكن المساعدات مطلقًا تحويلًا غير مشروط للموارد، ودائمًا ما تكون الشروط المفروضة من جانب المانحين تستهدف تحقيق تغيير في سياسات الدول المتلقية بما يتماشى مع مصالح دولهم[2].

أولًا: السمات العامة للمساعدات المقدمة إلى أفريقيا:

المساعدات المقدمة إلى الدول الأفريقية تتسم بعدد من السمات المحددة والمميزة لها عن باقي المساعدات التي تقدم لباقي دول العالم، ويرجع ذلك لخصوصية العلاقة بين الدول المانحة والدول الأفريقية؛ فغالبية الدول المانحة للمساعدات في أفريقيا هي من الدول الاستعمارية، وغالبية الدول المتلقية لتلك المساعدات هي دول تابعة اقتصاديًّا للدول المانحة، وهو ما يثير الكثير من الجدل بشأن الدافع الحقيقي لدى الدول المانحة من وراء تقديمها لتلك المساعدات، ولكن ما لا جدال فيه هو أن الدول المانحة لا تُقدم المساعدات مجانًا، وإنما تُقدمها بالأساس لخدمة مصالحها سواء كان ذلك معلنًا أو لا، ولعل السمة الأبرز فيما يتعلق بطبيعة المساعدات الدولية المقدمة إلى أفريقيا هي أن الغالبية العظمى منها هي من المساعدات الثنائية، المُقدمة من حكومة دولة إلى حكومة دولة أخرى، حيث تزيد نسبة المساعدات الثنائية عن 70% من إجمالي قيمة المساعدات الدولية المقدمة إلى أفريقيا، مقارنة بالمساعدات متعددة الأطراف، ويمكن إيجاز السمات العامة للمساعدات الدولية المقدمة إلى أفريقيا في أنها:

  • لا تخضع لمبدأ المكسب والخسارة:

فعلى الرغم من أن المساعدات المقدمة إلى أفريقيا تقدر بمبالغ طائلة، إلا أنها سواء استُخدِمَت في دعم وتمويل مشروعات ناجحة أو فاشلة، لا يتم محاسبة الدول المتلقية بشأنها، وفي كلتا الحالتين يستمر تدفقها بذات القدر، وهو ما أدى إلى عدم اكتراث المسئولين والحكام لأوجه وكيفية إنفاق أموال المساعدات، فكانت النتيجة هي إهدار أموال المساعدات وإساءة استخدامها من جانب الحكام والمسئولين، فهم لا يجدون أي مشكلة في المخاطرة بهذه الأموال واستخدامها في دعم وتمويل مشروعات غير منتجة، لا سيما وأنهم في الأغلب الأعم لن يتعرضوا للمساءلة بشأنها، وحتى إن تعرضوا للمساءلة وثبت سوء استخدامهم لها، فلن تتم محاسبتهم، بل وسيستمر تدفق الأموال عليهم برغم كل شيء.

  • يسهل التلاعب بها:

فأموال المساعدات المقدمة إلى أفريقيا عرضة للفساد أيًّا كان نوعها أو شكلها أو الجهة المتلقية لها[3]، واقتصادات الدول الأفريقية الفقيرة هي اقتصادات استهلاكية بطبيعتها، لذلك فإنها لن تكون قادرة على استيعاب التدفقات النقدية الضخمة المقدمة لها من خلال المساعدات، لذلك فإنه عندما تتدفق أموال المساعدات عليها فإنها تُوفر للنخب الحاكمة مبالغ ضخمة يسهل الاستيلاء عليها والتلاعب بها، ففي أفضل الأحوال تتجه هذه النخب إلى استيعاب تلك التدفقات من خلال زيادة الإنفاق على السلع الاستهلاكية بدلًا من الاتجاه لتعزيز الادخار والاستثمار[4]، وبمرور الوقت يُساء استخدام هذه المبالغ الضخمة، ويصل الأمر في بعض الأحيان إلى درجة أن يتم استخدام أموال المساعدات في تمويل مشروعات وهمية بالتواطؤ بين كبار المسؤولين في الجهات المانحة والمتلقية على حد سواء، كالمشروعات المتعلقة بالزراعة والثروة الحيوانية والتي تُعد مثالية من حيث إمكانية التهرب من الرقابة والمسائلة بشأنها، فغالبًا ما يتم الزعم بأنها تُنَفَذُ في مناطق نائية وبعيدة، بحيث يكون من الصعب على الجهة المانحة الوصول للفئات المستهدفة بالمساعدة للتأكد مما إذا كانوا يحصلون على المنافع المرجوة من تنفيذ هذه المشروعات أم لا؟ كما أنه يسهل في حال اكتشاف الأمر أن يتم الزعم بأن المحاصيل التي تمت زراعتها أو الحيوانات التي تمت تربيتها قد أصابتها آفة ما وقُضِيَ عليها![5]

  • قابلة للاستبدال:

أموال المساعدات يمكن أن تُبَدّل وجهتها في أي وقت بصورة مباشرة أو غير مباشرة، فحكومات الدول المتلقية تقوم بإعادة توزيع مواردها الخاصة عندما تحصل على حزمة من المساعدات لدعم قطاع أو مشروع محدد، فعندما يقوم المانحين بتقديم تمويل مخصص لدعم ميزانية إحدى القطاعات أو الوزارات في الدولة المتلقية، تتجه الدولة المتلقية إلى الحد من الإنفاق الحكومي على هذا القطاع أو هذه الوزارة من ميزانيتها، وتقوم بإعادة توجيهه وتخصيصه لقطاع أو وزارة أخرى، فمثلًا إذا حصلت الدولة المتلقية على حزمة من المساعدات الموجهة إلى قطاع التعليم بقيمة مليون دولار، تقوم الدولة بتخفيض إنفاقها على قطاع التعليم بذات القيمة، وعلى الرغم من أن مفهوم الاستبدال نفسه في حد ذاته ليس بالضرورة أن يكون ضارًّا، إلا أنه غالبًا ما يتم بصورة سلبية، فإمكانية الاستبدال تساعد المسئولين الفاسدين على إخفاء فوائض التمويل من خلال زيادة حجم المصروفات والتكاليف بصورة احتيالية، وطالما أن لديهم ما يكفي من نتائج يمكنهم تقديمها لمانحيهم، فهم قادرون على القيام بما يشاءون به مع ما تبقى من تمويل هؤلاء المانحين[6].

  • لا يتوافر بشأنها أية بيانات تفصيلية:

تُنفق الجهات المانحة للمساعدات ما يقرب من 100 مليار دولار سنويًّا بهدف مساعدة الفقراء على مستوى العالم، وبرغم ذلك كثيرًا ما تُصَرِّح تلك الجهات بأن معرفة أين تذهب تلك الأموال هو أمر صعب، فالبيانات والمعلومات المتاحة لها بهذا الشأن غالبًا ما تكون معلومات عامة ومجزئة وليست تفصيلية[7]، وقد أدت ندرة البيانات وعدم توافرها بشأن المساعدات سواء من جانب المانحين أو المتلقين إلى الحدّ من قدرة منظمات المجتمع المدني في الدول المتلقية على ممارسة دورها في مراقبة الحكومات الفاسدة ومحاسبتها في حال إهدارها لأموال تلك المساعدات، كما أن عدم توافر بيانات كاملة وتفصيلية بشأن أموال المساعدات ترتب عليه عدم وجود إمكانية للتنسيق بين الجهات المانحة وبعضها البعض، وبالتالي عدم القدرة على تلافي التمويل المتعدد أو المزدوج للأنشطة المعتمدة على المساعدات، وهو ما أدى إلى ظهور فئة المتربحين من تلقّي المعونة، سواء على المستوى الحكومي الرسمي أو على مستوى المجتمع المدني، حيث يتجه هؤلاء إلى تمويل نفس النشاط بصورة مزدوجة من أكثر من مصدر، فعلى سبيل المثال قامت وكالة الإغاثة الرئاسية الطارئة لمرضى الإيدز التابعة للولايات المتحدة الأمريكية (PEPFAR) بإنفاق مبلغ 140 مليون دولار في تنزانيا خلال عام 2008 وهو مبلغ ضخم جدًّا، وبرغم ذلك فقد وُجِدَ أن هناك 36 جهة من الجهات المانحة الأخرى شاركت في دعم وتمويل ذات البرنامج[8]!

  وحتى عندما تتوافر المعلومات والبيانات المتعلقة بمنظومة المساعدات في الدول المتلقية، فلا يمكن من خلالها -في أغلب الأحيان- تقدير حجم التأثير الحقيقي لها في الدول المتلقية، فعلى سبيل المثال، يتم احتساب المساعدات الموجهة بغرض تحسين البيئة والحفاظ عليها بهدف خفض مستويات ثاني أكسيد الكربون في الجو من إجمالي أموال المساعدات المقدمة للدول المتلقية دون معرفة قيمة المبالغ المخصصة لذلك الغرض تحديدًا، وهي مساعدات لا يمكن اعتبارها مساعدات تنموية، فالاستفادة منها لا تقتصر على الدول النامية فقط، وإنما يستفيد منها العالم في مجموعه، كما أنه في بعض الأحيان لا يؤخذ في الاعتبار أثر التضخم على القيمة الحقيقية لأموال المساعدات، والتي غالبًا ما تكون أقل من القيمة الإسمية لها، ومثالًا على ذلك، ارتفعت نسبة المساعدات المُقدمة من الولايات المتحدة الأمريكية خلال الفترة (1960-1990) اسميًّا بمقدار 130%، في حين أن القيمة الحقيقية لها انخفضت بما يقرب من 30% بسبب أثر التضخم[9].

ثانيًا: المساعدات تدعم الفساد في أفريقيا:

يجادل الكثير من مؤيدي المساعدات بأنه لا يوجد دليل ثابت على أن المساعدات المقدمة إلى أفريقيا تسبب الفساد، وأنه لا يوجد اقتصاديًّا علاقة سببية مباشرة بين زيادة تدفقات المساعدات وزيادة نسبة الفساد في الدول المتلقية لها في أفريقيا، ولكن الدراسات التي تثبت بالأدلة القاطعة -وبما لا يدع مجالًا للشك- وجود علاقة سببية مباشرة بين المساعدات والفساد في الدول المتلقية للمساعدات في أفريقيا كثيرة ومتنوعة، وأقصى الدراسات تفاؤلًا بهذا الصدد توصلت إلى أن المساعدات تؤدي لانخفاض مستويات الفساد في حالة المساعدات منخفضة القيمة فقط، بينما المساعدات الضخمة ومرتفعة القيمة كتلك التي تُقدم للدول الأفريقية هي بالضرورة تزيد من حدة الفساد فيها[10]، فاستمرار تدفق مبالغ المساعدات الضخمة للحكومات الفاسدة يجعلها مصدر دائم للربح وتراكم الثروات، ويتيح لها مبالغ كبيرة من الأموال السهلة التي تمنحها انطباعًا بأن هذه الأموال سوف تكون المنقذ لها عندما تسوء الأمور -وهو ما يحدث بالفعل في الأغلب الأعم- فأصبح استمرار تدفق المساعدات على الدول التي تخضع لحكم النخب الفاسدة هو بمثابة تأمين لبقائهم في السلطة واستمرارهم فيها في مواجهة شعوبهم[11].

لقد أكدت العديد من الدراسات والهيئات والمنظمات الدولية على أن أموال المساعدات المقدمة لأفريقيا كثيرًا ما تغذي الأنشطة غير المشروعة، أو أنها على أدنى تقدير تكون عرضة للسرقة والإهدار، ولا يمكن الجزم بأن ذلك يتم بصورة مقصودة، ولكن سواء ذلك يتم بصورة مقصودة أو غير مقصودة فالنتيجة واحدة، وهي أن أموال المساعدات تغذي الفساد في أفريقيا بل وتُفرخ المزيد منه، ففي عام 2002 قدر الاتحاد الأفريقي تكلفة الفساد في أفريقيا بمعدل 150 مليار دولار سنويًّا، مؤكدًا على أن الجهات المانحة للمساعدات الأجنبية تغض الطرف عن أموال المساعدات التي تغذي أنشطة الكسب غير المشروع، لا سيما وأن الرقابة والقيود المفروضة على إنفاق تلك الأموال كانت ضعيفة جدًا وفي بعض الأحيان لم يكن هنالك أية قيود من الأصل، وهو ما سهل مسألة استغلالها والاستيلاء عليها دون أن تحقق الغرض التنموي الذي مُنِحَت من أجله[12].

وفي عام 2004 صرح جيفري وينترز -الأستاذ في جامعة نورث وسترن في إحدى جلسات الاستماع الخاصة بلجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ الأمريكي- بأن البنك الدولي كان شريكًا في خسارة ما يقرب من 100 مليار دولار من قروضه المخصصة للدول النامية، خاصةً تلك المقدمة للدول الأفريقية، مؤكدًا أن أموال تلك القروض كان لها صلة وثيقة بتفشي واستشراء الفساد في هذ الدول[13]، وبإضافة تكلفة الفساد المترتبة على أموال القروض الممنوحة لأفريقيا في ذات الفترة من قبل بنوك التنمية الدولية متعددة الأطراف، ستصل تكلفة الفساد إلى ما يزيد عن 200 مليار دولار أمريكي، وقد ذكرت بعض الدراسات والتقديرات الأخرى أن البنك الدولي قدم قروضًا بقيمة 525 مليار دولار للدول النامية خلال الفترة (1946-2008)، كانت نسبة المفقود منها نتيجة للفساد وإساءة الاستخدام 25% أي ما يقرب من 130 مليار دولار أمريكي[14]، وتشير تقديرات البنك الدولي نفسه إلى أن زيادة تدفقات المساعدات بمقدار 10 مليارات دولار سنويًّا من شأنه انتشال ما يقرب من 25 مليون نسمة من الفقر، في حال ما كان يتم استخدام أموال تلك المساعدات بصورة سليمة، ولكن وجد أنه في أفضل الأحوال لم يتم انتشال سوى 7 ملايين نسمة فقط سنويًّا إلى، وأن السبب في ذلك يرجع عشوائية البنك المُتَّبعة في عملية الإقراض[15].

  • أثر مشروطية المساعدات على دعم الفساد في أفريقيا:

غالبًا ما تفرض الدول المانحة ومنظمات التنمية ووكالات المساعدات شروطًا معينة على الدول المتلقية للموافقة على منحها المساعدات التي تحتاج إليها، ولعل من أبرز وأشهر تلك الشروط أن يتم انتداب الخبراء أو المستشارين المسئولين عن تنفيذ المشروع من الدول المانحة، أو أن يتم اشتراط استخدام أدوات ومعدات وتقنيات معينة يتم استيرادها من الدول المانحة، وهو ما يشوبه دائمًا قدر كبير من الفساد، فمن جهة يحرم الجهة المتلقية من الاستفادة من الاستثمار في مشروعات التنمية في توفير فرص عمل لمواطنيها، ومن جهة أخرى يتم في بعض الأحيان انتداب موظفين غير مؤهلين وعديمي الخبرة وباهظي الأجور من الجهات المانحة، أو أن يتم إرسال معدات وتقنيات وأدوات متهالكة أو غير مواكبة لتطورات الحديثة، وهو ما يترتب عليه تدني مستوى مشروعات التطوير التي يتم تمويلها من خلال أموال المساعدات في الدول النامية، مثل الطرق سيئة التصميم والتنفيذ على سبيل المثال[16].

وعلى الرغم من أن عملية فرض الشروط على الجهات المتلقية بشأن كيفية استخدام أموال المساعدات تضع قيودًا على إمكانية إساءة استخدامها نظريًّا، إلا أن الواقع يؤكد على أن هذه الشروط فشلت فشلًا ذريعًا في ذلك، وأنها عجزت بكافة أشكالها وصورها عن كبح جماح الفساد في أفريقيا، ففي إحدى الدراسات التي أجراها البنك الدولي في مطلع الألفية الجديدة وجد أن نحو 85% من أموال المساعدات التي قدمها البنك استخدمت في أغراض تختلف عن تلك التي أُرسِلَت من أجلها، وأنه غالبًا ما تم تحويلها لتمويل أنشطة غير منتجة، وأحيانًا كان يتم تحويلها إلى أنشطة ترفيهية غير مقبولة، ولكن المثير للدهشة حقًّا هو استمرار البنك في تقديم المساعدات بنفس الوتيرة لذات الدول التي شملتها الدراسة، حتى بعد اكتشاف إساءة استخدامها وإهدارها والتأكد منه[17].

ولعل المساعدات المشروطة بتطبيق برامج التكيف الهيكلي تعد خير مثال على فشل مشروطية المساعدات في الحد من انتشار الفساد وتفشيه في أفريقيا بل العكس هو الصحيح، فقد اعترف المانحون أنفسهم بذلك[18]، حيث أوضحت مؤشرات الفساد الخاصة بالبنك الدولي أن تطبيق برامج التكيف الهيكلي في أفريقيا ترافق معها تهريب رؤوس الأموال غير المشروعة إلى الخارج، وظهور عمليات غسيل الأموال بصورة ملحوظة، وهو ما يعني أن تطبيق برامج التكيف الهيكلي نتج عنه تزايد الممارسات والأنشطة الفاسدة في الدول المعنية[19].

  • الدول الأكثر فسادًا تتلقى قدرًا أكبر من المساعدات:

في ظل اعتماد الدول الأفريقية على المساعدات كمصدر رئيسي للدخل، وُجِد َأن الجهات المانحة دائمًا ما تطبق سياسة التسامح والتغافل مع فساد الدول الأفريقية، فهي تتغاضى كثيرًا -بل وفي بعض الأحيان تمامًا- عن الفساد، ولا يتوقف الأمر على تجاهل الفساد المتفشي في تلك الدول، بل حتى ذلك الفساد الذي تتعرض له أموال المساعدات التي يقدمونها[20]، وقد ظلت الجهات المانحة لعقود طويلة تتحاشى الحديث عن الفساد المستشري في الدول الأفريقية وتأثيره على أموال المساعدات التي يقدمونها، وتتجاهله تمامًا، فالبنك الدولي لم يشرع في مناقشة مسألة الفساد المتفشي في الدول الأفريقية بصورة علنية إلا في منتصف التسعينيات، أي بعد مرور ما يزيد عن 50 عامًا من ممارسته لعمله، والأدلة على التجاهل المتعمد للفساد في الدول الأفريقية كثيرة ومتعددة، وكذلك الأدلة على تجاهل إساءة استخدام أموال المساعدات وإهدارها[21]، فلا يوجد دليل على أن الحكومات الفاسدة في أفريقيا تتلقى مبالغ أقل من أموال المساعدات، بل إن رصد وتحليل الواقع يفيد بالعكس، فالحكومات الفاسدة تتلقى مبالغ أكبر من المساعدات، ولعل من أشهر الوقائع في تاريخ المساعدات في هذا الصدد ما حدث عام 1987 في زائير (الكونغو الديمقراطية حاليًا) عندما حذر محافظ البنك المركزي المعين من قبل صندوق النقد الدولي في زائير “إروين بلومنتال” الصندوق من تفشي الفساد في زائير بصورة تفوق أية تصورات حيث جاء في المذكرة التي تضمنت استقالته من منصبه بعد مرور أقل من عام على توليه إياه[22]:

“إن النظام في زائير فاسد بصورة كبيرة وشريرة إلى درجة أنه لا يوجد أي بارقة أمل أو أي فرصة -وأكرر كلمة لا يوجد للتأكيد- لدائني زائير لكي يستعيدوا أموالهم”.

وعلى الرغم من ذلك سرعان ما قام صندوق النقد الدولي بتقديم أضخم قرض ممنوح إلى دولة أفريقية على الإطلاق في تاريخ الصندوق إلى زائير في نفس العام! وبنهاية التسعينيات أصدرت وكالة مراقبة الفساد التابعة لمنظمة الشفافية الدولية تقريرًا جاء فيه أن الرئيس الزائيري موبوتو “سيسي سيكو” استولى على ما لا يقل عن 5 مليارات دولار في الفترة من (1965- 1984)، وخلال السنوات العشر التالية لعام 1987 تلقى نظام موبوتو الغارق في الفساد قرضًا إضافيًّا من صندوق النقد الدولي بقيمة 700 مليون دولار أمريكي، حتى أنه في عام 1997 قُدِّرَت ثروة موبوتو الشخصية بـ 8 مليارات دولار في البنوك السويسرية، وهو ما كان يعادل حينها إجمالي الديون الخارجية المستحقة على بلاده بالكامل، وفي الوقت الذي كان يطالب فيه الجهات المانحة بتخفيض فوائد القروض على بلاده، قام باستئجار طائرة كونكورد لكي تقل ابنته في ليلة عرسها إلى ساحل العاج، وقد اتهم التقرير نفسه “باكيلي مولوزي” رئيس مالاوي الأسبق باختلاس 12 مليون دولار من أموال المساعدات، وكذلك اختلاس رئيس زامبيا الأسبق “تشيلوبا” ملايين الدولارات من أموال المساعدات المقدمة لقطاع الصحة والتعليم والبنية التحتية وتحويلها مباشرةً إلى حسابه الخاص، وبرغم ذلك فما زالت تدفقات المساعدات المقدمة للدول الثلاث مستمرة بذات القدر والكم والكيفية، رغم ثبوت اختلاس وسرقة هذه التدفقات بصورة رسمية لا تقبل الشك[23].

وخلال الثمانينيات كانت غانا من الدول المرشحة بقوة من أجل الحصول على حزمة من المساعدات، حيث جاء في الدراسات التي أجرتها وزارة الخارجية الأمريكية أن النظام السياسي في غانا ديمقراطي، وأن الأوضاع فيها مستقرة بشكل ملحوظ، وأن الحكومة تتمتع بشعبية كبيرة، وأنها جادة فيما يخص مجال الإصلاح الاقتصادي والإداري، وبالفعل تم تخفيف عبء الديون الغانية بمبلغ 3.5 مليار دولار على مدار 20 عامًا، وأسهمت المساعدات بمقدار مليار دولار سنويًّا كدعم لموازنتها العامة، ولكن على الرغم من كل ذلك فقد ظلت البلاد غارقة في الفساد، فجهاز الخدمة المدنية عانى من التضخم، وفشلت جميع جهود البنك الدولي خلال الفترة (1987-1993) في تحسين أدائه، وتم الاستيلاء على ما يقرب من 70-80% من إجمالي 31 مليون دولار من المساعدات خلال 10 سنوات، وقد جاءت تقارير منظمة الشفافية الدولية لتؤكد على ما سبق، حيث أكدت على أن الفساد مستشرٍ في كافة المستويات والقطاعات الحكومية في غانا، حيث احتلت المركز الثالث عشر باعتبارها واحدة من الدول الأكثر فسادًا في العالم[24].

   وفي عام 2003 ما لا يقل عن 10 مليارات دولار غادرت أفريقيا، من خلال تحويلات مالية مباشرة إلى حسابات سرية في بنوك أجنبية لمسئولين حكوميين، وهذا المبلغ يمثل نصف ما تلقته أفريقيا من مساعدات أجنبية في نفس العام، وبرغم ذلك فقد تجاهلت مؤسسات المساعدات الأمر تمامًا، واستمرت في تقديم الأموال للدول المتورطة، وبحلول عام 2004، قام البنك الدولي بتقييم مشروعات مكافحة الفساد التي قام بتمويلها في 52 دولة خلال الفترة من (1997- 2002)، حيث ثَبُت أن تلك المشروعات لم تحقق سوى قدر ضئيل من النجاح بسبب تفشي وانتشار الفساد السياسي في دولها، وعدم رغبة الحكومات القائمة في تغيير الوضع الراهن، ومع ذلك وافق البنك في نفس العام على منح قرض ميسر بقيمة 140 مليون دولار أمريكي إلى نيجيريا لمكافحة الفساد على الرغم من أنها كانت واحدة من الدول التي شملها التقييم، وهو ما يظهر بمنتهى الوضوح أنه برغم علم البنك الدولي وتأكده من أن الفساد يقوّض من إجراءاته ويتسبب في إهدار أمواله، إلا أنه يُصرّ على الاستمرار في تقديم أمواله كمساعدات دون وجود أية ضمانات بشأن النتائج المرجوة منها[25].

كما تعد موزمبيق واحدة من أبرز الأمثلة على وضوح دعم المساعدات للفساد في الدول المتلقية، فبانتهاء الحرب الأهلية فيها عام 1992 بدأت أموال المساعدات في التدفق عليها؛ أولًا في إطار برامج التكيف الهيكلي، ثم في إطار سياسة الحدّ من الفقر، وعندما تم دراسة مدى ودرجة انتشار الفساد وتفشيه في موزمبيق قبل وبعد هذا القدر الهائل من المساعدات، وُجِدَ أن الفساد في موزمبيق كان منخفضًا نسبيًّا خلال السبعينيات، ثم بدأ في الانتشار بصورة قوية خلال التسعينيات، أي بالتزامن مع تدفق المساعدات، كما وجد أن معدل تفشي وانتشار الفساد كان يزداد بزيادة تدفقات المساعدات خاصةً تلك التي كانت تُقدم في إطار مكافحة الفساد، وقد جاء في إحدى الدراسات التي قامت بها الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية في عام 2005 أن الفساد في موزمبيق ظهر بمستويات كبيرة ومرتفعة في النخبة السياسية الحاكمة بالتزامن مع تدفق أموال المساعدات عليها[26].

ولم يقتصر الأمر على البنك الدولي وصندوق النقد الدولي فقط، ففي 26 نوفمبر 2002 عرضت صحيفة النيويورك تايمز تفاصيل برنامج تحديات الألفية الجديدة المقدم من البيت الأبيض بشأن توزيع حزمة من المساعدات المقدر قيمتها بـ5 مليارات دولار سنويًّا على مجموعة من الدول صاحبة أفقر الاقتصاديات في العالم، وكان من المثير للاستغراب والدهشة أن تكون مالاوي ضمن قائمة الدول المرشحة للفوز بحصة من هذه المساعدات، حيث كان قد أُعلن قبل أسابيع قليلة من تقديم الاقتراح عن تورط وزارة الزراعة المالاوية في فضيحة علنية أمام صندوق النقد الدولي عندما فُقدت شحنات حبوب الذرة المرسلة من الصندوق كمساعدة غذائية لتدارك خطر المجاعة الذي كانت تواجهه مالاوي في ذلك الوقت، وازدادت الأوضاع سوءًا عندما اختفى أحد كبار المسئولين في وزارة الزراعة وهو المسئول المختص بتوزيع شحنات الحبوب المختفية، وأحد أبرز شهود العيان في قضيتي فساد سابقتين، وبرغم ذلك صرَّحت الولايات المتحدة الأمريكية بأنه لا يوجد ما يستدعي شطب مالاوي من قائمة الدول المؤهلة لتلقي المساعدات ضمن برنامج تحديات الألفية الجديدة! بل إنه حتى صندوق النقد الدولي ذاته استأنف برنامج القروض المقدمة لمالاوي دون اتخاذ أي إجراء حاسم بشأن قضية حبوب الذرة[27].

  ووفقًا لمؤشرات عام 2009، كانت أكثر الدول تلقيًا لمساعدات منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية(OECD)، والمساعدات الثنائية المقدمة من الولايات المتحدة الأمريكية عام 2008 هي الدول الأكثر فسادًا في ذات العام[28]! وفي إحدى الدراسات التجريبية التي أجريت عام 2012 وتناولت “أثر المساعدات على الفساد في الدول النامية”، تم فحص البيانات المتعلقة بـ 146 دولة من الدول النامية خلال الفترة (2005 – 2009) ، فكانت من أبرز النتائج التي توصل إليها فريق البحث هي أن الدول الأكثر فسادًا تتلقى قدرًا أكبر من المساعدات، وأن العلاقات الاستعمارية والتحالفات السياسية هي المحددات الرئيسية لتدفقات المعونة الثنائية للدول محل الدراسة[29]، وأن عملية منح المساعدات تتبع الروابط الثقافية والتاريخية بصورة رئيسية، وليس مقدار الحاجة إليها أو مدى استحقاق الدولة المتلقية لها، كما توصلت هذه الدراسة إلى أن غالبية المساعدات الرسمية التي قدمت للدول الـ 146 لم يكن لها علاقة بالنمو الاقتصادي في تلك الدول، فالمساعدات المقدمة لم يتم توجيهها لتمويل أنشطة إنتاجية، ولا الحد من الفقر، ومن ثم الاحتمال الوحيد المتوقع بشأن إنفاق تلك المساعدات هو تحولها إلى أنشطة تعزز الفساد[30].

وفي عام 2008 قدمت مجموعة من الجهات المانحة 81 مليون دولار أمريكي كدعم للميزانية التنزانية، وفي العام التالي تم تقديم 831 مليون دولار أمريكي، أي بزيادة قدرها 750 مليون دولار، مما أثار التساؤل والدهشة بشأن الأسس التي تم وفقًا لها منح الحكومة التنزانية هذه الزيادة الهائلة في لدعم ميزانيتها على الرغم من أن معدل الفساد زاد فيها وذلك وفقًا للمؤشرات الدولية، فبعد أن كانت تحتل المركز 102 عام 2008 أصبحت تحتل المركز 126 عام 2009[31]!

ثالثًا: لماذا يستمر المانحون في تقديم المساعدات للدول الأكثر فسادًا؟

يتضح مما سبق، أن البنك الدولي اتَّبع سياسة “الموافقة” بصورة دائمة على منح المساعدات لحكومات الدول المتلقية أيًّا كانت درجة الفساد فيها، وأيًّا كان تاريخها في تحقيق الأهداف المرجوة من تلقيها لتلك المساعدات أم لا؟ وذلك على الرغم من أن التقييم العام للمساعدات سواء كان من جانب الجهات المانحة أو المتلقية أثبت فشل تلك المساعدات في تحقيق أهدافها التنموية، فالمساعدات التي تمكنت من النجاح في تحقيق أهدافها المرجوة هي الاستثناء وليست القاعدة، خاصةً في أفريقيا[32]، ففي دراسة أجرتها إدارة تقييم العمليات في البنك الدولي اتضح أن نسبة موافقة البنك على شرائح المساعدات كادت تصل إلى 100% حتى في الحالات التي كانت نسبة التزام الدولة فيها بالشروط أقل من 50%[33]، وقد بررت الجهات المانحة عملية الاستمرار في الإقراض وتقديم المساعدات للحكومات الفاسدة في أفريقيا بأنها تتم من أجل دعم جهود مكافحة الفساد، ولكن حتى لو كانت هذه الحُجة تعبر عن النوايا الحقيقية للجهات المانحة، فالواقع يؤكد على أن حكومات الدول الفاسدة تستولي على أموال المساعدات بمنتهى السهولة، وأن توافر هذه الأموال بصورة دائمة دون قيد أو شرط كانت سببًا في زيادة جشع القادة والمسؤولين مما زاد من مستويات الفساد لديهم، خاصةً وأنهم فاسدين بالفعل، فكانت النتيجة هي ضياع أموال المساعدات في ظل صمت وتجاهل تام من المانحين تجاه ذلك![34]

  • الأهداف المعلنة لتقديم المساعدات للدول الأكثر فسادًا:

  دائمًا ما يروج المانحين إلى أن اتّباعهم لسياسة “الموافقة” على تقديم المزيد من المساعدات للدول الأكثر فسادًا يكون لدوافع إنسانية، وأنهم في حال امتنعوا عن تقديم المساعدات لتلك الدول، فإن الفقراء هم من سيتضررون بصورة كبيرة من جراء ذلك، فحكومات تلك الدول لن تتمكن من تأمين المبالغ اللازمة لتمويل ميزانيات الصحة والتعليم وغيرها من الخدمات، وهو ما سيزيد من معاناة الفقراء، بل وربما يؤدي إلى انهيار تلك الدول تمامًا، ولكن الحقيقة هي أن الفقراء لم يحصلوا أبدًا على أموال المساعدات -وما زالوا لا يحصلون عليها- وأنه على الرغم من توافر برامج المساعدات في الكثير من الدول الأفريقية بغزارة وسخاء، إلا أنها ترنحت بالفعل نحو الانهيار، ولعل الصومال تمثل واحدة من أوضح الأمثلة على ذلك.

  • الأهداف الحقيقية الكامنة وراء تقديم المساعدات للدول الأكثر فسادًا:

  في إطار كل ما سبق، يتضح أن المساعدات فشلت في تحقيق التنمية في الدول الأفريقية، وأنها فشلت في مكافحة الفساد والحدّ منه، كما أنها فشلت حتى في التخفيف من آثار وحدة الفاقة على الفقراء، وهنا يثور تساؤل جوهري بشأن تقديم أموال المساعدات، ألا وهو، لماذا إذًا تُمنح المساعدات طالما أنها غير قادرة على تحقيق أي من أهدافها؟

  ببساطة، لقد أصبحت حاجة وكالات المساعدات إلى الإقراض تفوق الحاجة إلى الاقتراض، وأصبحت الجهات والمؤسسات المانحة تواجه ضغوطًا شديدة للاستمرار في عملية الإقراض، وصارت الشروط المفروضة على تلك الدول بشأن مكافحة الفساد والتصدي له لا تساوي أكثر من قيمة الورق المكتوبة عليه، ففي دراسة أجراها البنك الدولي عام 1997 وُجد أن نسبة 72% من مساعدات البنك المخصصة لغرض إعادة جدولة القروض الممنوحة للدول خلال الفترة (1980 – 1996) قد تم تقديمها إلى دول معروفة بسجلها الرديء فيما يتعلق بمسألة الالتزام بشروط السداد[35]! وفي دراسة أخرى وجد أن المقترضين احترموا 22% فقط من القروض التي تم فحصها، وبرغم ذلك استمر تقديم القروض إليهم[36].

لقد أصبحت الجهات المانحة تسعى إلى الإقراض بأي ثمن كان، حتى وصل الأمر إلى حدود منافية للعقل، حيث أصبح تقديم المساعدات يتم بصورة أكبر من حاجة الدول المتلقية إليها؛ فمن جهة، تحولت المساعدات الدولية إلى تجارة، وليس ذلك فحسب، بل إنها أصبحت تجارة مربحة جدًّا بالنسبة لأولئك الذين يديرون برامجها، فتحديد دخل العاملين في الوكالات المانحة يتم وفقًا لمبدأ أنه ينبغي أن تكون رواتب موظفيها مرتفعة بما يكفي لجذب أفضل الخبراء حتى يتمكنوا من إدارة برامج المساعدات بكفاءة وفعالية، فأصبحت رواتب الموظفين في تلك الوكالات أعلى من رواتب أكبر الموظفين في المستويات العليا في أغنى دولة على وجه الأرض وهي الولايات المتحدة الأمريكية، مما جعل الخبراء يتهافتون على العمل في وكالات المساعدات والالتحاق بها من جهة[37]، ودَفَعَ البعض منهم للتحفظ بشأن تناول المسائل الشائكة المتعلقة بتنامي الفساد بالتزامن مع زيادة المساعدات في الدول المتلقية خوفًا من تشويه الوكالات التي يعملون بها حفاظًا على مصدر كبير من مصادر الربح الخاصة بهم من جهة أخرى[38].

ومن جهة أخرى، زاد حجم تجارة المساعدات بصورة كبيرة جدًّا، حتى أن الإحصائيات العالمية المتوفرة على الرغم من قلتها وندرتها في هذا الشأن تثير الدهشة بصورة مذهلة؛ فهناك ما يقرب من 280 وكالة مانحة ثنائية، و24 وكالة مانحة متعددة الأطراف، و40 وكالة تابعة للأمم المتحدة، و24 بنكًا للتنمية، باستثناء المؤسسات الخاصة، والمنظمات غير الحكومية، وفي عام 2008 فقط كان هناك ما يزيد عن 340.000 مشروع تنموي حول العالم[39]، أما فيما يتعلق بالعاملين في تلك الوكالات؛ فالبنك الدولي وحده يوظف ما يقرب من 10.000 موظف، وصندوق النقد الدولي يوظف أكثر من 2500 موظف، وهناك أكثر من 5000 موظف آخرين لدي المنظمات الفرعية التابعة للأمم المتحدة، يضاف إليهم ما لا يقل عن 25.000 موظف في المنظمات الأخرى غير حكومية، بخلاف الجمعيات الخيرية الخاصة، وجيش من الموظفين في مؤسسات المعونات الحكومية، أي أن إجمالي عدد العاملين في مجال المساعدات يقدر بما يزيد عن 500.000 موظف في أدنى التقديرات، مهمتهم الرئيسية هي إما منح القروض أو منح الهبات، وهؤلاء جميعًا يعملون بدوام كامل ويتقاضون رواتبهم عن هذا العمل، أي أن كل هؤلاء يعتمدون على المساعدات كمصدر للدخل وسبيل للرزق، وكل هؤلاء تقاس كفاءتهم في تقديم عملهم بناءً على حجم محفظة القروض التي ينجحون في تقديمها، وليس بناءً على مدى نجاح أموال هذه القروض في تحقيق الأهداف المرجوة منها من عدمه، وبالتالي فقد أصبحت المؤسسات والوكالات المانحة تُكرس لسياسة الإقراض بشكل عام، بغض النظر عن مدى أحقية واستحقاق الدولة المتلقية لتلك القروض من عدمه[40].

كما أن هنالك وجها آخر خفيًّا بشأن الاستفادة التي تحققها الدول المانحة من وراء استمرار منظومة المساعدات، وهو الوجه المتعلق بمسألة التدفقات العكسية لأموال المساعدات، والتي كان البنك الدولي نفسه قد أشار إليها عام 2004، وذلك عندما جاء في تقريره السنوي بشأن الفساد أن الرشوة أصبحت بمثابة تجارة دولية بلغت قيمتها ما يزيد عن تريليون دولار أمريكي، وأن زيادة المساعدات المقدمة إلى الدول الفقيرة ماثلها زيادة مماثلة في التدفق العكسي للتحويلات المالية منها إلى الدول الغنية، وفي عام 2001 بلغت تدفقات المساعدات من الدول الغنية إلى الدول الفقيرة تريليون دولار أمريكي بينما بلغت التدفقات العكسية من الدول الفقيرة للدول الغنية في صورة غسيل أموال في نفس العام 1.5 تريليون دولار أمريكي، وفي إحدى الدراسات التي أُجريت على 30 دولة أفريقية وجد أن قيمة الثروات التي تمتلكها النخب الحاكمة لتلك الدول في الخارج بلغت ما يعادل 145% من الديون العامة المستحقة على دولهم، و40% من ثروة القارة كلها[41]، أما في عام 2008 فقد بلغ إجمالي المساعدات المرسلة من الولايات المتحدة الأمريكية للدولة النامية ما يقرب من 50.1 مليار دولار، بينما بلغ إجمالي الأموال المتدفقة من تلك الدول ذاتها إلى الولايات المتحدة الأمريكية 500.9 مليار دولار! أي أن تلك الدول مقابل كل دولار تسلمته من المساعدات قامت بإرسال 10 دولارات بصورة غير مشروعة[42].

وفيما يتعلق بسياسات وممارسات الولايات المتحدة الأمريكية تجاه الدول المتلقية لمساعداتها، فقد وجد أنها تسعى دائمًا إلى دفع الدول المتلقية لمزيد من الاعتماد على المساعدات، ربما بغرض ضمان استمرارية منظومة المساعدات كما تمت الإشارة سابقًا، وربما لضمان استمرار تبعية تلك الدول لها وهيمنتها عليها، فعلى سبيل المثال تقدم الولايات المتحدة الأمريكية دعمًا سنوّيًا بمقدار 3 مليارات دولار لمزارعي الذرة الأمريكيين، مما يترتب عليه تصدير الذرة بثلثي تكلفة زراعتها في الدول الأفريقية، وهو ما يستحيل معه أن يتمكن مزارعي الذرة الأفارقة من منافسة محصول الذرة الأمريكي في الأسواق العالمية، وبالتالي انحسار وتوقف زراعة محصول الذرة في العديد من الدول الأفريقية، وكذلك الأمر بالنسبة لمحصول الفول السوداني الذي تحصل الولايات المتحدة الأمريكية على إعفاءات جمركية تصل إلى 64٪ في حال تصديره، وهي نسبة من الإعفاءات لا تحصل عليها أي دولة أفريقية مصدرة لنفس المحصول، وهو ما أثر سلبًا على الدول الأفريقية التي تعتمد على زراعة وتصدير تلك المحاصيل -مثل أوغندا- وزاد من اعتمادها على المساعدات[43]، ومن ثمَّ، إذا كانت الولايات المتحدة الأمريكية حقًّا ترغب في مساعدة الدول الأفريقية، فما عليها سوى مراجعة سياساتها وممارساتها التي تضر باقتصادات تلك الدول، وتزيد من اعتماديتها على أموال المساعدات، بدلًا من أن تمنحها المزيد من المساعدات التي تضر باقتصادات تلك الدول أكثر مما تنفع.


[1] القروض الميسرة: يقصد بها أن يتم إقراض حكومات الدول المتلقية بأسعار فائدة أقل من السعر السائد في السوق ولفترات سداد طويلة جدا أطول من الفترات المعهودة في الأسواق التجارية العادية، أما الهبات فيقصد بها منح الأموال دون مقابل… للمزيد انظر:

  • د. عبداللطيف مصطيفي، د. عبدالرحمن بن سانية، دراسات في التنمية الاقتصادية، (بيروت: مكتبة حسن العصرية، الطبعة الأولى، 2014)، ص ص 243 – 250.

[2]  المرجع السابق نفسه.

[3] Africa All Party Parliamentary Group (AAPPG), The Other Side of the Coin: The UK and Corruption in Africa, (London:  Africa All Party Parliamentary Group (AAPPG), March 2006), p. 57.

[4] دامباسيا مويو، مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية (مترجم)، المساعدات المميتة: لماذا تهدر المساعدات الدولية بلا طائل وما هو الطريق الأفضل لتنمية أفريقيا؟، )أبوظبي: إصدارات مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، الطبعة الأولى، 2011)، ص ص 100- 101.

[5] Brian Cooksey, “Do Aid Agencies Have A Comparative Advantage In Fighting Corruption In Africa?”, (Durban: Paper Presented to the 9th International Anti-Corruption Conference, 10th -15th  October 1999,), p. 8.

[6] يتم ذلك إما من خلال إدراج مصروفات وهمية في الميزانية، أو زيادة أسعار المشتريات عن الأسعار الفعلية وغيرها من الأساليب الاحتيالية وغير المشروعة… للمزيد في هذا الصدد انظر:

– Farah Abuzeid, “Foreign Aid and the “Big Push” Theory: Lessons from Sub-Saharan Africa”, in Stanford Journal of International Relations, (Stanford: International Relations Program, Stanford University, Vol. 11, No. 1, Fall 2009), P.19.

[7] Transparency International (TI), “Poverty, Aid And Corruption”, (Berlin: The Global Coalition Against Corruption, Policy Paper, June 2007), p.9.

[8] Brian Cooksey, “Can Aid Agencies Really Help Combat Corruption? An Overview Of Donor Policies And Practices In East Africa”,(Lisbon: paper presented to Protecting Aid Funds in Unstable Governance Environments: Towards an Integrated Strategy, Sedas Nunes Hall, Institute of Social Sciences, University of Lisbon, 18th -19th  May 2010), Pp. 13-18.

[9] د. عمر عبدالحي صالح البيلي، “دور المساعدات الأجنبية في التنمية الاقتصادية مع دراسة للمساعدات الإنمائية العربية”، في مجلة البحوث التجارية المعاصرة، (سوهاج: كلية التجارة، جامعة سوهاج، مجلد رقم (14) العدد رقم (2)، ديسمبر 2000)، ص 100.

[10] Ivar Kolstad, Verena Fritz & Tam O’Neil, “Corruption, Anti-corruption Efforts and Aid: Do Donors Have the Right Approach?”, (Amsterdam: Good Governance, Aid Modalities and Poverty Reduction: Linkages to the Millennium Development Goals and Implications for Irish Aid Research project of the Advisory Board for Irish Aid, Working paper No. 3, January 2008), Pp. 61-62.

[11] Farah Abuzeid, Op.Cit., Pp. 19-21.

[12] Adeoye O.Akinola, “Foreign Aids in Africa: From Realities to Contradictions”, in Global Advanced Research Journal of Social Science, (Global Advanced Research Journals, Vol. 1, No. 1, June 2012), p. 15.

[13] Idem.

[14] دامباسيا مويو، مرجع سبق ذكره، ص ص 90.

[15] Farah Abuzeid, Op.Cit., P.21.

[16] Munyae M. Mulinge & Gwen N. Lesetedi, “Corruption in sub-Saharan Africa: Towards a More Holistic Approach”, in African Journal Of Political Science, (Vol. 7, No. 1, 2002), p.63.

[17] دامباسيا مويو، مرجع سبق ذكره، ص ص 11، 72.

[18] Africa All Party Parliamentary Group (AAPPG), Op.Cit., p.58.

[19] عبدالخالق أحمد ناصر ناجي، أثر سياسات البنك الدولي على التنمية السياسية في الجمهورية اليمنية (1990-2006(، رسالة ماجستير، (اليرموك: كلية الآداب، جامعة اليرموك، 2007)، ص 134.

[20] Brian Cooksey, “Can Aid Agencies Really Help Combat Corruption? An Overview Of Donor Policies And Practices In East Africa”, Op.Cit., p. 5.

[21] Africa All Party Parliamentary Group (AAPPG), Op.Cit., p. 57.

[22] Adeoye O.Akinola, Op.Cit., p. 15.

[23] Kempe Ronald Hope, Sr., “Corruption and Development in Africa” in Kempe Ronald Hope, Sr. & Bornwell C. Chikulo (eds.), Corruption and Development in Africa: Lessons from Country Case Studies, (Basingstoke: Palgrave Macmillan UK, 2000), Pp. 17-20.

[24] Herbert H. Werlin, “Corruption and Foreign Aid in Africa”, in Orbis, (New York: Elsevier Limited on behalf of Foreign Policy Research Institute, Vol. 49, Issue 3, Summer 2005), Pp. 520-521.

[25] Ibid., p. 526.

[26] Ivar Kolstad, Verena Fritz & Tam O’Neil, “Corruption, Anti-corruption Efforts and Aid: Do Donors Have the Right Approach?”, (Amsterdam: Good Governance, Aid Modalities and Poverty Reduction: Linkages to the Millennium Development Goals and Implications for Irish Aid Research project of the Advisory Board for Irish Aid, Working paper No. 3, January 2008), p. 70.

[27] دامباسيا مويو، مرجع سبق ذكره، ص ص 94-95.

[28] Olga Nazario, “Choosing The Right Countries For Development Assistance”, (Bangkok: Paper Presented At The  14th IACC Conference – Bangkok, Thailand, November 2010), Pp. 7-8.

[29] José Tavares, “Does Foreign Aid Corrupt? An Empirical Investigation”, (Nottingham: Project Presented In Part Fulfilment Of The Requirements For The Completion Of An Undergraduate Degree In The School Of Economics, University Of Nottingham, May 2012), Pp.5 – 11.

[30] B.B.A Vanarith Chheang , The Effect Of Foreign Aid On Econmic Growth And Corruption In 67 Developing Countries, Master Thesis, (Washington, D.C.: The Faculty Of The  Graduate School Of Arts And Sciences, Georgetown University, April 2009), p. 12.

[31] Brian Cooksey, “Can Aid Agencies Really Help Combat Corruption? An Overview Of Donor Policies And Practices In East Africa”, Op.Cit., p. 11.

[32] Brian Cooksey, “Do Aid Agencies Have A Comparative Advantage In Fighting Corruption In Africa?”, Op.Cit., p. 2.

[33] Joseph Hanlon, “Do Donors Promote Corruption? The Case Of Mozambique”, in Third World Quarterly, (London: Routledge Publications, Vol. 25, No. 4, 2004), Pp. 747.

[34] Olga Nazario, Op.Cit., p 6.

[35] Joseph Hanlon, Op.Cit., p. 747.

[36] Brian Cooksey, Do Aid Agencies Have A Comparative Advantage In Fighting Corruption In Africa? Op.Cit., p. 20.

[37] موسى علاية، “عدم فاعلية المساعدات الخارجية للدول النامية بين المطرقة والسندان”، في بحوث اقتصادية عربية، (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، العددان 69 ، 70، شتاء/ ربيع 2015)، ص 154.

[38] Joseph Hanlon, Op.Cit., p. 747.

[39] Brian Cooksey, “Can Aid Agencies Really Help Combat Corruption? An Overview Of Donor Policies And Practices In East Africa”, Op.Cit., p. 10.

[40] دامباسيا مويو، مرجع سبق ذكره، ص ص 92-93.

[41] Herbert H. Werlin, Op.Cit., Pp. 517- 518.

[42] James Lewis, “Corruption: The hidden perpetrator of under-development and vulnerability to natural hazards and disasters”, in JÀMBÁ: Journal of Disaster Risk Studies, (Cape Town: Alliance of Small Island States (AOSIS) Publications Vol. 3, No.2, May 2011), p. 466.

[43] Herbert H. Werlin, Op.Cit., 517.