كتبت – د. أميرة محمد عبدالحليم

خبيرة الشئون الأفريقية ومدير تحرير مجلة مختارات إيرانية بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

على مدى أكثر من ست عقود متتالية نمت العلاقات بين القارة الأفريقية وجمهورية الصين الشعبية، حيث جمعت العديد من الروابط بين الجانبين وتزايدت هذه الروابط متأثرةً بالتحولات التي يشهدها النظام الدولي، حيث لم تشارك الصين في احتلال دول القارة، ومثلت أحد الأقطاب الفاعلة في العالم الثالث واندمجت في الأطر المنافسة للغرب، والمواجهة للهيمنة الأمريكية على العالم.

 وقد برزت حالات التقارب بين الجانبين الصيني والأفريقي في إطار كفاح الدول الأفريقية للحصول على الاستقلال منذ الخمسينات من القرن العشرين، ومحاولة الصين نشر أيديولوجيتها الاشتراكية وتكوين كتلة من دول الجنوب لمواجهة الامبريالية الغربية، ومع انتهاء الحرب الباردة زادت العلاقات بين الصين والدول الأفريقية في إطار حالة التهميش التي تعرضت لها القارة الأفريقية بعد انتهاء دورها في إطار الصراع بين القطبين الغربي والشرقي أثناء الحرب الباردة.

وخلال العقود الثلاثة الأخيرة، حققت بكين تقدمًا كبيرًا في القارة، وبرزت كمصدر رئيسي (ومتزايد) للمساعدات والاستثمارات “غير المشروطة”، حيث حلت محل العديد من القوى الخارجية وخاصة الولايات المتحدة كأكبر شريك تجاري لأفريقيا منذ عام 2009، إلا أن الولايات المتحدة حاولت الوقوف في طريق الصعود الصيني في القارة الأفريقية كجزء من استراتيجيتها لمواجهة النمو الصيني العالمي، وأثارت العديد من الشكوك حول الدور الصيني في أفريقيا، ومدى حرص الجانب الصيني على عدم الإضرار بالدول الأفريقية، حيث تزايدت التصريحات والكتابات الأمريكية التي تؤكد أن الصين تمثل نوعًا جديدًا من الاستعمار لدول القارة الأفريقية، وأن السياسة المرنة التي تتبعها الصين في التعاون مع الدول الأفريقية ستؤدي إلى إغراق هذه الدول في الديون بما يتيح في المستقبل للحكومة والشركات الصينية السيطرة على أجزاء واسعة من دول القارة الأفريقية.

ووفقا لهذا الإطار يسعى التقرير الحالي إلى البحث في سمات التوجهات الصينية نحو القارة الأفريقية خلال العقد الأخير، ومدى صحة المقولات التي تشكك في التقارب الصيني مع دول القارة الأفريقية.

أولا – سمات التوجهات الصينية إزاء القارة الأفريقية

على الرغم من أن التقارب الصيني الأفريقي خلال العصر الحديث قد ارتكز على الأبعاد السياسية، في ظل مساندة الصين لحركات التحرر الوطني، ومحاولاتها نشر الاشتراكية بمفهومها الصيني بين ربوع القارة خلال القرن العشرين، ويرى البعض أن أسس العلاقات بين الصين وأفريقيا قد بنيت خلال الحرب الباردة، عندما كان ينظر إلى القارة الشاسعة على أنها ساحة معركة بين الشرق والغرب، وبعد الخلاف بين موسكو وبكين الذي دفع الحلفاء الشيوعيين السابقين إلى حافة الحرب.

ووفقا لجريج برازينسكي -أستاذ التاريخ والشئون الدولية بجامعة جورج واشنطن في كتابه لعام 2017 “الفوز بالعالم الثالث، التنافس الصيني الأمريكي خلال الحرب الباردة”- فإن الحزب الشيوعي سعى إلى تقديم عقائد الماويين في حروب حرب العصابات ودعم الجماعات التي اعتبروا أنها من المحتمل أن تحاكي التجربة الصينية([1]).

 إلا أن التحولات التي شهدتها الصين وسعيها لتصبح أكبر قوة اقتصادية في العالم هذا فضلًا عن تغير شكل النظام الدولي عقب انتهاء الحرب الباردة، قد ساهم في اتجاه الصين لتبني سياسات تركز على المصالح الاقتصادية مع دول القارة الأفريقية، مع التخفيف من التعاون السياسي بين الجانبين، هذا فضلا عن تزايد الاهتمام الصيني بتبني مبادرات أمنية وعسكرية جديدة.

ويمكن توضيح أهم السمات المتعلقة بالتوجهات الصينية في القارة الأفريقية فيما يلي:

  1. التركيز على الأنشطة الاقتصادية

فقد نشطت العلاقات الصينية الأفريقية في منتصف التسعينات، خاصة في الجوانب الاقتصادية والتجارية، حيث ظهرت مجموعة من الاعتبارات التي تدعم هذا التوجه الصيني والمرتبطة بتطور المشروع الاقتصادي الصيني أهمها:

  • عودة كل من هونج كونج في عام 1997 وماكاو في عام 1999 للسيادة الصينية، والذي وفر احتياطات مالية ضخمة ساعدها على توسيع استثماراتها الخارجية.
  •  تبني الصين لاستراتيجية “الخروج” (Going Out) في عام 1996 من قبل الرئيس جيانج زيمين بعد رحلته إلى ستة بلدان أفريقية، وموافقة المكتب السياسي على الاستراتيجية في عام 2000 كاستراتيجية وطنية وظلت سارية حتى اليوم. واستكملت مبادرة الحزام والطريق تعميق العلاقات بين الجانبين منذ عام 2013.

ج- ساهمت التطورات الدولية في تدعيم هذا التوجه الصيني، في ظل الفراغ الذي تركته الدول الغربية التي وجهت اهتمامها ودعمها التنموي، الذي كانت تستفيد منه الدول الأفريقية لدول شرق أوروبا، من أجل دمج الأخيرة واستيعابها في النظام الغربي بتوجهاته الرأسمالية الليبرالية.

 كما لم تعد الدول الأفريقية قادرة على منافسة دول أوروبا الشرقية في جذب الاستثمارات الغربية نتيجة للفجوة الكبرى بين الإقليمين في البنيات التحتية الجاذبة للاستثمار الخاص وتوفر مناخ الاستقرار السياسي، وعمقت هذه التحولات حالة عزلة وتهميش القارة الأفريقية وزادت هذه الحالة في أعقاب أزمة الديون، وتدهور شروط تبادل التجارة الدولية.

حيث تزامنت هذه التحولات مع التزام عدد من الدول الأفريقية بتنفيذ برامج اقتصادية قاسية فرضتها عليها الدول الغربية في إطار التعاون الاقتصادي وتقديم المساعدات المالية، كما لم تعد برامج الإصلاح قادرة على تحقيق أهدافها، مما عرض الحكومات الأفريقية إلى حرج سياسي مع الدول والمؤسسات المالية المانحة.

د- أمن الطاقة، فقد أصبح تأمين الطاقة أمرا حيويا في عام 1993، عندما أصبحت الصين مستوردا صافيا للنفط، وسعت إلى الاستفادة من احتياطيات النفط الأفريقية لتنويع مصادر الطاقة لديها.

وعقب أحداث الحادي عشر من سبتمبر واجهت الصين تهديدات نظرا لاعتمادها على إمدادات النفط غير المستقرة في الشرق الأوسط (أكثر من 60%). ردا على ذلك، بدأ صناع السياسة الصينيون في تفعيل سياسة “الخروج” والتي ركزت أساسا على استراتيجية تشجيع الشركات المملوكة للدولة الصينية (SOE) في المقام الأول على المغامرة في الخارج، للوصول إلى الموارد الطبيعية والانفتاح على أسواق تصدير جديدة للسلع الصينية، في أفريقيا وآسيا الوسطى وأمريكا الجنوبية لتأمين مواد خام جديدة([2]).

ونمت مشاركة الصين الاقتصادية في أفريقيا بشكل سريع منذ الإطلاق الرسمي لسياسة “الخروج” في عام 2001، ونظرا لأن الصين اتجهت متأخرة إلى أفريقيا ما بعد الحرب الباردة، فإن استراتيجية الشركات المملوكة للدولة الصينية للوصول إلى موارد النفط والمعادن كانت في كثير من الأحيان تواجه بمعارضة من الشركات الغربية الخاصة، وكذلك المخاطر الأمنية في البلدان الأفريقية الغنية بالموارد الطبيعية، فكانت تسعى إلى تقديم القروض إلى الحكومات الأفريقية في مقابل الحصول على الموارد الطبيعية.

وظلت بالنسبة للبلدان الأفريقية بديلاً جذابا للقروض المقدمة من الغرب؛ لأنها تأتي دون أي قيود سياسية، وفي ظل الأزمة المالية العالمية لعام 2008، والتي أدت أيضا إلى انخفاض حاد في التجارة بين الاتحاد الأوروبي وأفريقيا، أصبحت الصين في عام 2009 أكبر شريك تجاري لأفريقيا، واحتفظت بهذا الموقف منذ ذلك الحين.

وخلال عقدين من الزمن، تحولت الصين من فاعل هامشي في الحياة الاقتصادية للقارة إلى أكبر شريك تجاري لها. وتعمل الآن أكثر من عشرة آلاف شركة صينية -(90٪) من القطاع الخاص- في أفريقيا، وتبعها مستوطنات كبيرة من رواد الأعمال الصينيين في أماكن مثل نيجيريا والسنغال.

هـ- وعلى الصعيد الداخلي، يشير النمو السكاني والتحديث السريعان في الصين إلى أن البلاد ستواجه ندرة في الغذاء والمياه والطاقة والموارد المعدنية؛ فبحلول عام 2025، من المتوقع أن يصبح أكثر من 520 مليون صيني من الطبقة العليا والمتوسطة، وسوف يسيطر هؤلاء على 60% من ثروة البلاد المتراكمة؛ فارتفاع الدخل والطبقة الوسطى المتنامية أدى إلى خلق طلب متزايد بسرعة على المنتجات ذات القيمة العالية -وعلى وجه الخصوص اللحوم- وعلى الرغم من أن الصين تمتلك ثروة حيوانية حيث تعد أكبر دولة مستهلكة للحم خنزير، فإنها لا تزال تستورد ملايين الأطنان من الذرة وفول الصويا اللذين يستخدمان في المقام الأول كعلف حيواني؛ فالصين لديها أكثر من 20% من سكان العالم، ولكن الأراضي الصالحة للزراعة لديها لا تمثل سوى 9% من الأراضي في العالم، ورغم مكاسب الإنتاج الزراعي المحلي، وخاصة من الحبوب، تحتاج الصين إلى الاعتماد على واردات الأغذية لتلبية الطلب المحلي.

كما تمثل ندرة المياه هي أيضا واحدة من أعظم التحديات التي تواجه الصين؛ فقد أدت تداعيات تغير المناخ والاستخدام المكثف للموارد الحالية والري غير الفعال إلى تعريض إنتاج الغذاء والطاقة للخطر في المناطق الزراعية الأكثر إنتاجية في الصين، ومنذ الثمانينيات يهدد نقص المياه الحاد مباشرة نمو الصين المستمر، وبحلول عام 2050، قد يصل عجز المياه إلى 80% من طاقته السنوية.

هذه التحديات جعلت التنمية في أفريقيا حاسمة للتنمية المستقبلية للصين، فلا يزال شحن المنتجات الزراعية الأفريقية إلى الصين مكلفًا للغاية، وعلى المدى الطويل، ومع بنية تحتية أفضل في ظل مبادرة الحزام والطريق (BRI)، قد يكون من الممكن للصين خلق شبكات تجارة مواتية لاستيراد البضائع كثيفة الاستخدام للمياه، ولتطوير هذه الشبكات الآن تقوم الصين بتأسيس البنية التحتية التي يمكن أن تعتمد عليها أسواق الأجيال القادمة، وتعد الصين الآن أكبر شريك تجاري للقارة الأفريقية، ويهدف بنك التصدير والاستيراد الصيني إلى استثمار أكثر من تريليون دولار في القارة بحلول عام 2025([3]).

وعلى الرغم من أن الشركات المملوكة للدولة الصينية تستثمر بكثافة في الصناعات الاستخراجية للبلدان الأفريقية الغنية بالموارد، فإن بيانات الاستثمار الأجنبي المباشر الصينية من وزارة التجارة الصينية (MOFCOM) تشير إلى أن الاستثمار الأجنبي المباشر الصيني في أفريقيا ظل متواضعا، وخاصة كحصة من الاستثمار الأجنبي المباشر العالمي في الصين. ومع ذلك، فإن هذه الأرقام تفشل في التقاط الوجهات النهائية للاستثمارات الأجنبية المباشرة المهمة التي يتم توجيهها عبر هونج كونج أو المراكز المالية الخارجية. وتتناقض المستويات المنخفضة نسبيا من الاستثمار الأجنبي المباشر الصيني مع الزيادة الكبيرة في العقود الهندسية الصينية وارتفاع حجم القروض الصينية الممنوحة للبلدان الأفريقية في مقابل الحصول على الموارد الطبيعية أو بشكل كبير مشروعات البنية التحتية (المقدرة بـ143 مليار دولار أمريكي من عام 2000 إلى عام 2017)([4]).

وتركز الاستثمارات الصينية في أفريقيا على مشروعات البنية التحتية الكبيرة (مثل السدود والطاقة الكهرومائية)، ومشروعات المياه والصرف الصحي وتطوير النفط، حيث شكلت الاستثمارات في قطاعي الطاقة والنقل 58% من إجمالي استثمارات الصين في أفريقيا خلال الفترة من عام 2005 إلى عام 2018، و60% من استثماراتها على مدى العامين الماضيين.

وفي الوقت نفسه، شكّلت الزراعة ما يزيد قليلا عن 3% من إجمالي استثمارات الصين في أفريقيا من عام 2000 إلى عام 2012، وخلال هذا الوقت اتخذ التمويل الزراعي بشكل رئيسي شكل منح أو قروض أو مساعدة تقنية، ووفقًا لقاعدة بيانات التمويل الصينية التي يحتفظ بها معهد أمريكان إنتربرايز (the American Enterprise Institute)، فإن 10 من 39 دولة جنوب الصحراء حصلت على 60% من جميع مشروعات الصين في الإقليم في الفترة من 2005 إلى 2018. من بين هذه الدول العشرة، ركزت الصين أغلبية مشروعاتها في أنجولا وإثيوبيا وكينيا ونيجيريا، وزامبيا، وفي هذه الدول تتداخل استثمارات الصين والولايات المتحدة، وتخطط إثيوبيا وبنك التصدير والاستيراد الصيني لاستثمار أكثر من تريليون دولار في أفريقيا بحلول عام 2025، وتمثل كينيا ونيجيريا دولا مهمة لمستقبل الغذاء، وهما كذلك جزء من أولويات برنامج الولايات المتحدة للمياه من اجل العالم (US water for the World Act Priority countries) .

  • مبادرة الحزام والطريق

فقد أخذت الجهود الصينية المبذولة في أفريقيا تتزايد على مدى العقدين الماضيين، لكن بدأت وتيرتها تتسارع في عام 2013، حين أطلق الرئيس الصيني شي جين بينج مشروعه الطموح “حزام طريق الحرير الاقتصادي”، ويمر عبر آسيا الوسطى وأوروبا، بالإضافة إلى “طريق الحرير البحري للقرن الحادي والعشرين”، والذي يمر عبر بحر الصين الجنوبي والمحيط الهندي، إلى الشرق الأوسط وأوروبا بما يهدف إلى إحياء طرق التجارة القديمة وتعزيز الطرق القائمة، وسرعان ما نسجت بكين هاتين الرؤيتين معا ووصفتهما بمبادرة الحزام والطريق (BRI).

وفي حين تبدو BRI تستهدف الممرات الاقتصادية الإقليمية، إلا أنها في الواقع مبادرة عالمية وتحفزها المصالح الاقتصادية والاستراتيجية؛ فمن شأن ((BRI أن تسمح للصين باستخدام أكثر كفاءة للمدخرات وقدرات البناء، وتوسيع التجارة، وتوطيد العلاقات الاقتصادية والدبلوماسية مع الدول المشاركة، وتنويع واردات الصين من الطاقة وغيرها من الموارد من خلال ممرات اقتصادية تتحايل على الطرق التي تسيطر عليها الولايات المتحدة وحلفائها.

ويرى الصينيون أن مبادرتهم مفيدة للعالم النامي، حيث تواجه جميع البلدان تقريبًا أوجه قصور في البنية التحتية ونقص في الموارد للتغلب عليها، وأن الصين تقوم بتقديم حزم كبيرة من القروض لهذه البلدان، إلا أن الغرب يرى أن هذه المبادرة تفتقر إلى الشفافية، وتعمل على تسهيل تصدير الصين لنموذجها الاستبدادي؛ وأن شروط القرض التجارية تجلب جولة جديدة من أزمات الديون في العالم النامي؛ وأن المشروعات لا تملك ضمانات بيئية واجتماعية كافية.

وفي أفريقيا يعاني بعض المقترضين الرئيسيين من مشاكل في القدرة على تحمل الديون، بينما قام آخرون بدمج القروض من الصين في برامج الاقتصاد الكلي السليمة، وبعض المقترضين الرئيسيين هم دول استبدادية ذات سجلات سيئة لحقوق الإنسان، ولكن المشاركين الرئيسيين الآخرين هم من الدول الأفريقية التي تتبنى عددا من المبادئ الديمقراطية([5]).

إن مبادرة الحزام والطريق الصينية (BRI) هي المحرك الرئيسي لبناء السياسة الصينية، وفي البداية امتدت المبادرة في شرق أفريقيا فقط، اليوم أصبحت هذه السياسة تشمل أفريقيا بأكملها، ويمكن اعتبارها نسخة محسنة من سياسة “الخروج”، حيث تتشابه السياستان بشكل كبير، في التركيز على البحث عن الموارد والأسواق.

وهذا المشروع، الذي تشير غالبية التقديرات إلى أنه يكلف أكثر من تريليون دولار أمريكي، يهدف إلى ربط الصين بأكثر من 130 دولة عبر شبكة من الطرق، وخطوط السكك الحديد، وخطوط للنقل البحري؛ من أجل زيادة حجم المعاملات التجارية، وزيادة النفوذ الصيني في العالم.

وحتى الآن، وقعت 39 دولة أفريقية -إلى جانب مفوضية الاتحاد الأفريقي- على اتفاقيات التعاون التابعة لمبادرة الحزام والطريق، ومن المنتظر أن تحذو حذوها دول أخرى، وفي ضوء انضمام غالبية أجزاء القارة السمراء إلى المبادرة، برزت القارة كواحدة من أقوى الداعمين لها، كما صارت الصين الممول الأكبر للبنية التحتية الأفريقية؛ إذ تمول مشروعا واحدا من بين كل خمسة مشروعات.

  • تصاعد الأبعاد الأمنية والعسكرية

مع تزايد الترابط الاقتصادي بين الصين وأفريقيا، توسع تعريف الصين لمصالح الأمن القومي، فأصبحت الصين مهتمة بتأمين الشحنات البحرية على طول خطوط الاتصال البحرية الرئيسية التي تربط شرق أفريقيا بالموانئ الصينية، ضد هجمات القراصنة المتزايدة منذ الألفية الجديدة. علاوة على ذلك، بجانب النزاعات العنيفة في عدد من البلدان الأفريقية، فإن تصرفات العديد من الجماعات الإرهابية، مثل حركة الشباب وبوكو حرام التي تعمل في القرن الأفريقي ومنطقة الساحل، قد هددت أمن العمال الصينيين، وتسببت في خسائر اقتصادية للمشروعات الصينية بقيمة 20 مليار دولار أمريكي، مما استلزم استجابة صينية، إضافة إلى ذلك، أوضحت أول عملية إجلاء محمولة جوا للصين لأكثر من 35000 من مواطنيها خلال الحرب الأهلية في ليبيا في عام 2011، أن افتقار الصين للقدرات البحرية للعمل في البحار البعيدة قد قوض قدرتها لحماية مواطنيها في الخارج ومصالحها، وبالتالي فإن حاجة الصين لمواجهة التهديدات الأمنية الخارجية من أجل الدفاع عن مصالحها الاقتصادية، والحفاظ على الشرعية السياسية في الداخل، وتعزيز صورتها كقوة عظمى مسئولة قد وفرت ذريعة لتسريع بناء قدراتها البحرية في المياه الزرقاء في إطار التحديث الهائل لقواتها المسلحة.

وفي عام 2000، أسست الصين منتدى التعاون الصيني الأفريقي (FOCAC)، ليعقد كل ثلاث سنوات بين الصين والدول الأفريقية التي التزمت بسياسة صين واحدة، من أجل إجراء حوار منظم حول مجموعة من المجالات التي توسعت بشكل كبير حتى الآن، وعلى الرغم من أن هذا المنبر الدبلوماسي الإقليمي متعدد الأطراف إلا أنه بمثابة أداة للصين في جعل العلاقات الثنائية أكثر فاعلية بدلا من إبرام صفقات متعددة الأطراف، فقد عزز رؤية الصين إلى حد كبير لتقديم معايير بديلة للحكم العالمي، وكان له تأثير قوي في التأثير على البلدان الأفريقية التي لا تزال لديها علاقات دبلوماسية مع تايوان، واعتبارا من مايو 2018 كانت دولة سوازيلاند هي الدولة الأفريقية الوحيدة التي لا تزال تحتفظ بعلاقات مع جزيرة تايوان.

وفي منتصف عام 2017 اتجهت الصين للإعلان عن تأسيس أول قاعدة عسكرية لها خارج حدودها في جيبوتي؛ حيث أكدت أن هذه القاعدة تم الاهتمام بها في إطار دعم قوات حفظ السلام الصينية التي تعمل في أفريقيا ومواجهة القرصنة، إلا أن التفسير الواقعي يؤكد أن هذه القاعدة تأتي في إطار مبادرة الحزام والطريق والتي تسعى لربط الصين بـ68 دولة في أفريقيا وآسيا وأوروبا من خلال الصفقات التجارية ومشاريع البنية التحتية، وكذلك يأتي تأسيس هذه القاعدة كجزء من مشاركة الصين في التهافت الإقليمي والدولي على الحضور وتأسيس القواعد العسكرية في منطقة القرن الأفريقي للهيمنة على الممرات البحرية المحيطة بها والتي يعبر خلالها 20% من حجم التجارة العالمية، وللصين النصيب الأكبر منها، إضافة إلى أن 50% من واردات النفط إلى الصين تصلها من المملكة العربية السعودية والعراق وجنوب السودان.

ثانيا- مستقبل السياسات الصينية في أفريقيا

يرى الكاتب الصحفي الفرنسي جوليان ونر -في كتابه “الصين وأفريقيا… هل يتعلق الأمر بحلم صيني أم كابوس أفريقي؟”، الصادر حديثا عن دار النشر الفرنسية إيرول- أن أفريقيا لم تعد القارة المهملة والمهمشة، ولكنها بدأت تمثل موضع جذب لجميع القوى الدولية لما لها من مصالح استراتيجية فيها، لكن يأتي النفوذ الكبير والجهد العظيم لصالح الصين التي تعتبر “أن أفريقيا ليست هدفا في حد ذاتها، لكنها تمثل أداة مهمة وفاعلة في سبيل بلوغ حلمها وقوتها ورخائها”([6]).

 إلا أن بكين تواجه اتهامات متزايدة بالاستعمار الجديد ومحاصرة البلدان بالديون، وفي الوقت نفسه فإن مبادرات طوكيو الجديدة ومقترحات بروكسل وكذلك موسكو بشأن أفريقيا قد وجهت ضربة لطموحات الصين، وكلما أعلنت الصين عن تقديمها لقروض واستثمارات للدول الأفريقية تتصاعد انتقادات المسئولين الأمريكيين للحضور الصيني في أفريقيا، وفي المقابل أصبح المسئولون الصينيون أكثر جرأة على الرد على الاتهامات الأمريكية، وظهر ذلك في انتقادات هيلاري كلينتون للسياسة الصينية في أفريقيا عام 2012،  وكذلك في ديسمبر عام 2015 عندما أعلن الرئيس الصيني “تشي جين بينج” عن استثمارات وقروض لأغراض التنمية الإفريقية بقيمة 60 مليار دولار.

كما ظهرت العديد من الكتابات الغربية التي تؤكد على الأبعاد التنموية للمساعدات الغربية لأفريقيا، مع انتقاد لسياسة القروض والمنح التي تتبناها الصين في أفريقيا، حيث ترى هذه الكتابات أن هذه القروض ليس لها أي عوائد على التنمية الاقتصادية في هذه الدول؛ فهي أقرب للقروض الفردية والتي تربطها المؤسسات الصينية المقرضة بالمؤسسة أو الشخص المقترض وليس المنظومة الاقتصادية للدولة ككل؛ فالصين تقدم قروض للدول الأفريقية في حين تقدم الدول الغربية -وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية- مِنَحًا وأنواعًا أخرى من التدفقات التي تنظر إليها القوى الغربية على أنها تدعم التنمية، ومنها المساعدات الإنمائية بأشكالها المختلفة.

ولمواجهة هذه الاتهامات اتجهت الصين إلى تبني عدد من الخيارات الجديدة:

  1. تكثيف برامج التعاون الثقافي والسياحي بين الصين والدول الأفريقية لمواجهة هذه المشاعر المعادية للصين بمضاعفة المنح التعليمية للطلاب الأفارقة في الصين، وبحزمة من برامج تدريبية تمتزج ما بين تدريب الساسة الشباب والمسئولين الحكوميين، وبين صورة أكثر تأثيرا توغلت فيها الصين بماكينة الإعلام الأفريقي، وحملت من خلالها يومياتها وثقافتها وتاريخها لقلب القارة السمراء؛ حيث أصبحت الصين الثانية على قائمة أكبر نماذج التنمية شعبية في القارة، وإن لم تستطع بحال تجاوز الولايات المتحدة التي ظلت على القمة شعبيا، وإن اختلفت هذه الشعبية على المستوى التنفيذي.

 وخلال منتدى التعاون حول أفريقيا لعام 2018، طرح شي جين بينج مفهوم “تشكيل تحالف للمسئولية الاجتماعية للشركات” في محاولة لإجبار الشركات الصينية على العمل الإيجابي([7]).

  • 2-               تحولت الصين من عدم تدخل لا هوادة فيه إلى المشاركة الانتقائية والمتزايدة في التعاون الثنائي والإقليمي والدولي في مجال السلام والأمن من خلال تحديد الحدود الضيقة لإطار سياستها الخارجية، على أساس كل حالة على حدة؛ فقد نما وجود المواطنين الصينيين والأصول الاقتصادية في أفريقيا بشكل كبير بسبب توسيع تجارة الصين مع مشاريع البنية التحتية التي تمولها الصين في البلدان الأفريقية، تعاني العديد من تلك البلدان من نزاعات مسلحة حادة أو إرهاب أو قرصنة بحرية قبالة سواحلها، ومع ارتفاع عدد الهجمات العنيفة ضد العمال الصينيين، ونداءات من الجمهور الصيني المحلي لاتخاذ إجراءات، والخسارة الاقتصادية المتزايدة أرغمت الحكومة الصينية على الرد. حيث لم يعد مبدأ عدم التدخل في الشئون الداخلية للدول الأجنبية يتوافق مع الطموحات العالمية الصينية، أدى تمسك الصين بهذا المبدأ إلى تركيزها على الداخل فقط وتترك منظومة الأمن العالمي تقدمها الولايات المتحدة إلى جانب فاعلين آخرين.

وكما هو الحال في المجالات الأخرى، اتبعت الصين نهجا ذا شقين تجاه قضايا الأمن الإفريقي، للدفاع عن مصالحها الاقتصادية والأمنية وتوسيع نفوذها في أفريقيا، فمن جهة ساهمت في الهياكل والأدوات المتعددة الأطراف القائمة لتعزيز السلام والأمن. وقد شاركت في بعثات حفظ السلام التي تقودها الأمم المتحدة إلى أفريقيا وفي أعمال مكافحة القرصنة التي فرضتها الأمم المتحدة قبالة القرن الأفريقي، وقد قدمت هذه المشاركة ذريعة للصين لتسريع بناء أسطولها الضخم في المياه الزرقاء، لتكون موجودة في المحيط الهندي وما وراءه وتأسيس أول قاعدة عسكرية في الخارج، في جيبوتي، من ناحية أخرى، وسعت من وجودها العسكري من خلال إشراك البلدان الأفريقية بشكل ثنائي من خلال التدريبات المشتركة، والتدريب العسكري، وبناء البنية التحتية العسكرية ومتعددة الأطراف من خلال المنتديات الصينية الإفريقية التي تم إنشاؤها حديثًا حول القضايا الأمنية([8]).

  • وفيما يتعلق بتأثير الشركات الصينية على مستويات التشغيل والبطالة في الدول الأفريقية، تعتمد مشروعات البنية التحتية واسعة النطاق التي تنفذها الشركات الصينية حزمة من الصفقات حيث تحصل هذه الشركات على هذه الصفقات دون مناقصة عامة. مما يهدد بانتشار الفساد نتيجة لانعدام الشفافية، وكذلك تؤدي هذه السياسة إلى نمو الديون. واعتبارا من عام 2018، مولت الصين 18.9% من مشروعات البنية التحتية في أفريقيا، في حين أنه تم تنفيذ 33.2% من هذه المشروعات، فإنها تعد سببا لزيادة تواجد العمال الصينيين في أفريقيا وزيادة تعرضهم للتهديدات الأمنية هناك.

وبجانب البعد الذي تحركه الدولة للهجرة الصينية إلى أفريقيا، هناك تواجد متزايد للشركات الصينية الخاصة العاملة في الدول الأفريقية الأكثر استقرارا، والتي لا يتم توضيحها في البيانات الصينية الرسمية. ويشير تقرير McKinsey لعام 2017 الذي يركز على العمل الميداني في ثمانية من بلدان أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، والتي تمثل مجتمعة ما يقرب من ثلثي الناتج المحلي الإجمالي لأفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، إلى أن إنشاء منشآت صناعية تستفيد من العمالة المنخفضة التكاليف في أفريقيا قد أصبح محرك قوى للوجود المتزايد للمهاجرين الصينيين العاملين في الشركات الخاصة الصينية. حيث تسهم مشاركتهم في التصنيع -الذي يستهدف بشكل أساسي المستهلكين الأفارقة بدلاً من أسواق التصدير- في خلق فرص العمل ونقل التكنولوجيا، علاوة على ذلك يتحدى تقرير صدر عام 2019 استنادا إلى البحث الميداني في أنجولا وإثيوبيا المفاهيم السلبية لممارسات العمل للشركات الصينية في أفريقيا. حيث تنظر الدول الأفريقية بشكل عام إلى مشاركة الصين الاقتصادية في أفريقيا بشكل إيجابي، باعتبارها فرصة للتصنيع([9]).

خاتمة

 لا تزال السياسات الغربية الغير عادلة والتي تتسم في كثير من الأحيان باللامبالاة إزاء الأزمات التي تعاني منها دول وشعوب القارة الأفريقية تمنح الصين فرص جديدة للتقارب وتنفيذ السياسات في أفريقيا.

فقد اتخذت مبادرات إدارة أوباما الطموحة لتحسين الحكم، وزيادة القدرة على الوصول إلى الكهرباء، وبناء القدرات الاقتصادية في القارة، مكانة متأخرة في ضمن مبادرات إعادة التوازن في آسيا وكبح الاضطرابات في الشرق الأوسط.

 وفي الوقت الحاضر لم يعرض الرئيس دونالد ج. ترامب سياسة متماسكة في أفريقيا، بل لا تحتل العلاقات الأمريكية الأفريقية أولوية في إدارته، ويريد منع المواطنين من ثلاث دول أفريقية من دخول الولايات المتحدة، وقد أكد العديد من المحللين أن هذه الديناميكية المتطورة سوف تدفع بشكل طبيعي الدول الأفريقية للتقارب مع بكين.

وفي حين أن بنك الصادرات والواردات الصيني لم يتجاوز البنك الدولي في استثماراته السنوية في أفريقيا، فإنه يمكن أن يتجاوزه في المستقبل القريب إذا استمر التقارب الصيني مع الدول الأفريقية، فالوجود المتزايد للصين في أفريقيا سيستمر؛ لأن العلاقات بين الجانبين تمثل نموذجا جذابا للغاية لكل من الصين والعديد من الدول الأفريقية، وبسبب الحاجة الكبيرة والملحة للبنية التحتية، والتي ترغب الصين في تمويلها، كما أن الأموال التي توفرها الصين للمشروعات يمكن الوصول إليها بسهولة وبأقل شروط من القروض الغربية، وبالنسبة للصين فإن النقص الحاد في الموارد الطبيعية المتوقع والحاجة إلى توسيع الطلب العالمي على السلع الصينية يجعل أفريقيا هدفًا للاستثمار.

كما أنه من الصعب وضع تعميمات بسيطة حول مبادرة الحزام والطريق BRI في أفريقيا، لهذا السبب سيكون من الحكمة بالنسبة للدول الغربية أن تخفف من حدة خطابها حول المبادرة BRI، فمثل هذا العدد الكبير من المشروعات ربما يعمل بشكل جيد، وسيكون من المفيد إذا قدمت الدول الغربية المزيد من الدعم لصندوق النقد الدولي لمساعدة البلدان على إدارة قروضها وإلى البنك الدولي لتوفير المزيد من تمويل البنية التحتية، مما يزيد الخيارات أمام البلدان النامية في أفريقيا.

في ظل هذه الخلفية، يبقى أن نرى كيف أن التعاون الأمني ​​بين الاتحاد الأوروبي والصين في المستقبل، والذي ظل حتى الآن في بدايته، سيكون مكملا أو تنافسيا، في البحث عن “حلول أفريقية للمشاكل الأفريقية”.

الهوامش



([1]) Jevans Nyabiage, Do Africa ,s emerging nations know the secret of china ,s economic miracle?

13 oct, 2019, https://www.scmp.com/news/china/diplomacy/article/3032551/do-africas-emerging-nations-know-secret-chinas-economic

([2]) China in Africa , https://www.ide.go.jp/English/Data/Africa_file/Manualreport/cia01.html

([3]) Michael Tiboris, Addressing China’s Rising Influence in Africa , chigago council on global affairs, p.1

https://www.thechicagocouncil.org/publication/addressing-chinas-rising-influence-africa

([4]) China’s growing role as a security actor in Africa, p.2

([5]) David Dollar, Understanding CHINA’S Belt AND Road Infrastructure Projects in AFRICA, SEPTEMBER 2019, https://www.brookings.edu/research/understanding-chinas-belt-and-road-infrastructure-projects-in-africa/

[6])) الوجود الصيني في أفريقيا يقلق المستعمرين القدامى وقد وصفوه بنمط الاستعمار الجديد للقارة السمراء، 24 يناير 2019 م. https://aawsat.com/home/article/1558906/%D8%A7%D9%84%D9%88%D8%AC%D9%88%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D8%B5%D9%8A%D9%86%D9%8A-%D9%81%D9%8A-%D8%A3%D9%81%D8%B1%D9%8A%D9%82%D9%8A%D8%A7-%D9%8A%D9%82%D9%84%D9%82-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B3%D8%AA%D8%B9%D9%85%D8%B1%D9%8A%D9%86-%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%AF%D8%A7%D9%85%D9%89

(7) WENYUAN WU, How Africa is breaking .. China’s neo-colonial shackles, https://www.lowyinstitute.org/the-interpreter/how-africa-breaking-china-s-neo-colonial-shackles

([8]) China’s growing role as a security actor in Africa, EPRS | European Parliamentary Research Service, 08-10-2019, p1.

http://www.europarl.europa.eu/thinktank/en/document.html?reference=EPRS_BRI(2019)642232

[9]) Op.Cit., p3.)