بقلم د. أيمن شبانة

مدير مركز البحوث الأفريقية بجامعة القاهرة

       فى الثانى من يناير2020، أعلن البرلمان التركى موافقته على قرار نشر قوات تركية فى ليبيا، وهو ما خلق حالة واسعة النطاق من الجدل على كافة المستويات، المحلية والإقليمية والدولية، بين من يرى فى هذا القرار استجابة مشروعة لمطلب حكومة معترف بها دولياً، بغية تحقيق التوازن العسكرى بين فرقاء الصراع الليبى، فى مقابل من يذهب إلى عدم مشروعية التدخل، نظراً لمخالفته لقرارات الأمم المتحدة، وعدم شرعية حكومة الوفاق الوطني، بقيادة فائز السراج، مما قد يستدرج ليبيا إلى حرب أهلية شاملة، وربما يؤدى إلى حرب إقليمية بالوكالة. 

       كانت كل الشواهد تؤكد انخراط تركيا فى الصراع الليبى، وذلك بتقديم الدعم السياسى والعسكرى لحزب العدالة والبناء، الذراع السياسية لتنظيم الإخوان المسلمين، ومليشيات مدينة مصراتة أكبر داعم لحكومة الوفاق، خاصة منذ أبريل 2019، عندما انطلقت “عملية الكرامة”، التى يشنها الجيش الوطنى الليبى، بقيادة الجنرال خليفة حفتر، بدعم كامل من الحكومة الليبية المؤقتة فى شرق البلاد، بقيادة عبد الله الثنى، وذلك لأجل الاستيلاء على طرابلس، وتحريرها من المليشيات المسلحة، التى تدعم حكومة الوفاق.

       انتقل الدور التركى فى ليبيا من الشكل المستتر إلى مرحلة العلانية والسفور، منذ نهاية نوفمبر2019، عندما وقعت أنقرة مذكرة تفاهم فى السابع والعشرين من نوفمبر، تتعلق بترسيم الحدود البحرية والتعاون الأمنى، وذلك لدى زيارة فائز السراج إلى تركيا. وهو الاتفاق التى أعقبه إعلان الرئيس التركى رجب طيب أرودغان اعتزامه التدخل العسكرى الوشيك فى ليبيا.

أولاً- دوافع التدخل العسكرى التركى:

      سعى النظام التركى لتوفير غطاء سياسى يسوغ تدخله العسكرى فى ليبيا، حيث زار الرئيس أردوغان تونس، وأجرى العديد من المحادثات مع قادة الدول المعنية بالصراع الليبى، أكد خلالها أنه يستهدف مساعدة الليبيين على بناء نظام ديموقراطى جديد، ومنع حدوث كارثة إنسانية بليبيا، ومواجهة التهديدات التى تشكلها المليشيات المسلحة، والمهاجرين غير الشرعيين، والدفاع عن مصالح تركيا الاقتصادية فى ليبيا، التى يوجد بها زهاء 25 ألف مواطن تركي. لكن أردوغان لم يتحدث عن أربعة دوافع كامنة أخرى لذلك التدخل هى:  

1- الرد على اتفاقيات ترسيم الحدود البحرية بين كل من مصر واليونان وقبرص، ومزاحمة الدول التى تقوم بالتنقيب عن الغاز فى شرق البحر المتوسط، بعد الاكتشافات النوعية فى قطاع الغاز الطبيعى بالإقليم. 

2- تأكيد الدور التركى فى قيادة العالم الإسلامى، ودعم تنظيمات الإخوان المسلمين بالمنطقة، بعد الضربات التى تعرضت لها بمصر والسودان، وتعزيز سياسة العثمانية الجديدة، فى ظل التوجهات والارتباطات الإخوانية لحكومة الوفاق الوطنى. وهو أمر تبدو أهميته مع اقتراب الذكرى المئوية لسقوط الخلافة العثمانية عام 1924. وكذا مع محاولة أنقرة تعويض الإخفاق فى تحقيق حلم الانضمام إلى الاتحاد الأوروبى.

3- الحصول على نصيب وفير من النفط الليبى، حيث كانت ليبيا قبل اندلاع الصراع عام 2011 هى المنتج الثانى للنفط فى القارة الأفريقية (1.6 مليون برميل يوميا)، وصاحبة أكبر احتياطى من النفط فى القارة قاطبة (34 مليار برميل)، بينما تفتقر تركيا لمصادر الطاقة، وتعتمد على الاستيراد فى سد 95%  من احتياجاتها من الطاقة.

4- ضمان تعاقد الشركات التركية على نصيب وفير من المشروعات فى مجال إعادة إعمار ليبيا، نظراً لخبراتها فى هذا المجال، حيث كانت ليبيا هى أول دولة أجنبية يمارس فيها المقاولون الأتراك أنشطتهم عام 1972. كما أنها الدولة الثالثة ضمن قائمة البلدان الأجنبية الأكثر احتضانا لمشروعات المقاولين الأتراك، بقيم مالية تصل إلى 28.9 مليار دولار.

ثانياً- مدى مشروعية التدخل العسكرى التركى:

       تؤكد تركيا أن ممارساتها إزاء ليبيا هى ممارسات مشروعة من الناحية القانونية، وذلك لأسباب ثلاثة هى:

1- إن ترسيم الحدود البحرية، والتعاون الأمنى، والتدخل العسكرى يأتى بموجب اتفاقات تم عقدها مع حكومة شرعية، معترف بها من جانب الأمم المتحدة، والدول الكبرى.

2- حصول حكومة أنقرة على تأييد البرلمان التركى للتدخل العسكرى، وذلك بموافقة 325 عضواً، مع تفويض الرئيس أردوغان فى تحديد موعد نشر القوات ومناطق تمركزها، لمدة عام قابل للتجديد، وفق نص المادة 92 من الدستور التركى.  

3- إن القانون الدولي يجيز لأنقرة اتخاذ جميع الاحتياطات اللازمة لصد المخاطر الأمنية التي تشكلها الجماعات المسلحة غير الشرعية في ليبيا.

     لكن هذه الحجج التركية مردود عليها بما يلى:

1- إن حكومة الوفاق الوطنى لا تتمتع بالشرعية، فاتفاق الصخيرات الذى جاء بها فى ديسمبر2015 اشترط اعتمادها من جانب مجلس النواب الليبى ببنغازى، حتى تكتسب الشرعية، وهو ما لم يحدث حتى الآن. ولا يمكن للأمم المتحدة أو أى جهة خارجية أن تفرض حكومة ما عنوة على الشعب الليبى.

2- إن الجهة الوحيدة التى تملك حصرياً صلاحية التشريع والتصديق على المعاهدات الدولية فى ليبيا حالياً هى مجلس النواب، المنتخب فى أغسطس2014، وذلك وفق نصوص اتفاق الصخيرات (م8، م13). ونظراً لأن المجلس قد أكد عدم شرعية حكومة الوفاق، ورفضه لما وقعته من اتفاقات مع تركيا، فيصبح اتفاق ترسيم الحدود منعدم الأثر، حتى إذا جاء تحت مسمى “مذكرة تفاهم”. كما يكون طلب حكومة الوفاق للتدخل الخارجى أمراً غير مشروع.

3- إن حكومة الوفاق الوطنى – كحكومة أمر واقع فى طرابلس- لا تسيطر فعلياً على إقليم الدولة. وبالتالى ليس من حقها طلب التدخل الخارجى فى تلك الحالة. وهذا هو الرأى الراجح لدى أغلب فقهاء القانون الدولى.

4- إن اتفاق الصخيرات ليس أبدياً. فهو يستهدف ترتيب الأوضاع بليبيا لمدة انتقالية، يتم خلالها الإعداد لتأسيس نظام سياسى جديد. وقد حدد الاتفاق مدة ولاية حكومة الوفاق بعام واحد، يبدأ من تاريخ اعتمادها من مجلس النواب، مع عدم جواز التجديد لها إلا لعام واحد فحسب، فى حال تعذر صياغة الدستور. ونظراً لعدم تنفيذ معظم استحقاقات المرحلة انتقالية وفقاً للاتفاق، فإنه يكون قد فشل عملياً، ولا يجوز الاعتداد به كسند لشرعية حكومة الوفاق.

5- إن موافقة البرلمان التركى على التدخل العسكرى هو شأن داخلى، لا يضفى المشروعية عليه، نظراً لمخالفته لحظر السلاح الذى تفرضه الأمم المتحدة على ليبيا منذ 2011، بموجب القرار1970، والقرارات اللاحقة، الأمر الذى يجعل موافقة البرلمان على التدخل أقرب إلى “إعلان حرب”.  

ثالثاً- الموقف الليبى من التدخل التركى:

      عبر السواد الأعظم من الليبيين عن رفضهم لاتفاق ترسيم الحدود مع تركيا، ورفض تدخلها العسكرى فى بلادهم. فعلى المستوى الرسمى رفض مجلس النواب ذلك التدخل، وأعلن قطع العلاقات الدبلوماسية مع تركيا. واتهم حكومة الوفاق بالخيانة العظمى. وطالب بمقاضاة رئيس المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق ووزيري الخارجية والداخلية، وغيرهم ممن وقعوا اتفاق ترسيم الحدود مع تركيا، مع التحرك لنزع الاعتراف الدولى بتلك الحكومة، وتشكيل حكومة وحدة وطنية بديلة.  

       كما فوض مجلس النواب الجيش الوطنى الليبى فى استكمال تحرير طرابلس من المليشيات المسلحة، وتعطيل كافة المنافذ البحرية والجوية الواقعة تحت سيطرتها، وإسقاط حكومة الوفاق بالقوة، حيث تم تخصيص ميزانية طوارئ لقوات القيادة العامة بقيمة 20 مليار دينار. وهنا دعا الجيش الوطنى إلى النفير العام، وفتح باب التطوع لكل ليبي قادر على حمل السلاح لمواجهة الاعتداء التركى.

       وعلى المستوى الشعبى، أعلن أغلب قطاعات الشعب أن التدخل التركى سوف يشعل الصراع بليبيا، ويكرس تقسيمها، وقد يدفع البلاد لحرب أهلية شاملة، ويفسح المجال أمام فوضى التدخلات المباشرة، بعدما طلبت حكومة الوفاق المساعدة العسكرية من الولايات المتحدة وبريطانيا وإيطاليا والجزائر، لأجل الدفاع عن طرابلس، ومواجهة الجريمة المنظمة، والهجرة غير الشرعية.  

       وهنا دعت كبريات القبائل للتضامن مع الجيش الوطنى الليبى ضد من أسموه “العدو العثماني التاريخي”، الذي تسبب في تأخر ليبيا لمئات السنين. ومن أهمها قبائل ورشفانه، وترهونة، والدرسة، وقبائل زوية الشيخ السنوسي، التى هددت بوقف إنتاج الحقول النفطية بمناطقها للرد على التدخل التركى. كما طالبت مجموعة من منظمات المجتمع المدني الليبي القيادة العامة بتفعيل القانون 22 لسنة 1999 بشأن مشاركة المدنيين والشرطة والجهات الأمنية للقوات المسلحة في الحراسة والحماية والتأمين والدفاع.

       فى المقابل، شكك رئيس المجلس الأعلى للدولة خالد المشري فى قانونية القرارات الصادرة عن مجلس النواب، مؤكداً أن النصاب القانونى للمجلس لم يكتمل، وبالتالى فإن القرارات الصادرة عنه لا يمكن أن تمثل الإرادة الشعبية، وأنها نتاج لضغوط ما أسماه “قوى الانقلاب”.

       لكن الرأى السابق لا يعدو أن يكون نتاجاً لموقف سياسى، لا يستند لحجج قانونية قوية، خاصة أن الجلسة التى اتخذ فيها مجلس النواب قراراته سالفة الذكر هى جلسة طارئة، تمثل استئنافاً لجلسة أخرى سابقة، وأن عدم  حضور بعض النواب يعود لعدم توافر وسائل انتقال جوي لنواب الجنوب وبعض مدن الغرب. وأن أيا من أعضاء مجلس النواب المتغيبين عن المشاركة بالجلسة الطارئة لم يعترض على قراراتها فى بيان لاحق.

رابعاً- المواقف الخارجية من التدخل التركى:

1-  المواقف الدولية:        

       جاءت أغلب ردود الأفعال الخارجية رافضة للتدخل التركى. فحذرت الأمم المتحدة من التدخل الأجنبى فى ليبيا. لكنها لم تذكر تركيا بالاسم. رغم انتهاك الأخيرة لقرارات المنظمة بشأن ليبيا. كما أنها لم تحسم بعد أسماء الأطراف المشاركة فى مؤتمر برلين لتسوية الصراع الليبى، رغم أنه يكاد يكون هو لقاء الفرصة الأخيرة لإنقاذ عملية الصخيرات. بالإضافة إلى أن استبعاد طرفا الصراع الأساسيين، وكذا تونس والجزائر من المشاركة فى المؤتمر يثير الكثير من التساؤلات، التى يصعب الإجابة عليها.

       يمكن القول إذن أن الأمم المتحدة، بمبعوثيها التسعة إلى ليبيا، وآخرهم غسان سلامة، تمثل جزءاً من المشكلة وليس جزءاً من الحل. فهى التى منحت الشرعية لحكومة الوفاق. وهى من تتمسك بعدم سحب الاعتراف الدولى بها، رغم الفشل الذى حاق بعملية الصخيرات، مما سمح لتلك الحكومة بالاستئثار بأموال بإنفاق النفط الليبى، وتسخيرها فى تسليح المليشيات الموالية لها، مع حرمان شرق البلاد من نصيبها من تلك الأموال.

       وبالنسبة للولايات المتحدة، فقد حذر رئيسها دونالد ترامب من مغبة التدخل التركى، مؤكداً أنه سوف يعقد الوضع بليبيا. ودعت الخارجية الأمريكية إلى إطلاق حوار سياسى لتسوية الصراع، تديره الأمم المتحدة. كما دعا الممثل السامي للأمن والسياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي لاحترام قرار الأمم المتحدة بحظر توريد السلاح لليبيا، مطالباً كافة الأطراف بالتعاون مع المبعوث الأممي إلى ليبيا، ومعرباً عن أمله فى إنجاز تسوية سياسية مقبولة خلال مؤتمر برلين. وهنا يلاحظ ثلاثة أمور هى:

  • وجود نوع من التوافق بين الأطراف الأوروبية بشأن رفض التدخل التركى، حتى بين الدول التى كانت تتخذ مواقفاً متباعدة مثل فرنسا وإيطاليا.
  • إن اليونان وقبرص هما أكثر المنزعجين بشأن التحركات التركية إزاء ليبيا. وهو ما انعكس فى سلسلة المباحثات التى أجراها وزيرا خارجية الدولتين بالقاهرة وإسرائيل. واستقبال قبرص لرئيس مجلس النواب الليبى.  
  • أضحت الولايات المتحدة تتبع سياسة الاقتراب الحذر فى التفاعل مع مستجدات الوضع الليبى. وكأن التنافس بين الأطراف الأوروبية هو أمر يروق لها، خاصة فى ظل احتمالات توتر العلاقات فيما بينها بسبب الملف الليبى. وكذا فى ظل تنامى احتمالات التعثر التركى فى ليبيا، وهو ما تعتبره واشنطن أفضل عقاب لأنقرة، عقب تمكسها بإبرام صفقة صواريخ S400 مع روسيا.

2-  المواقف الإقليمية:         

       أكد مجلس الجامعة العربية فى اجتماع طارئ رفضه للتدخل التركى فى الشأن الليبى، مؤكداً ضرورة الحفاظ على وحدة ليبيا وسلامة أراضيها، وفق مقررات اتفاق الصخيرات، باعتباره المرجعية الوحيدة للتسوية بليبيا. وهو ما أكده الاتحاد الأفريقى أيضاً.

       وبالنسبة لدول جوار ليبيا، كانت مصر أكثر المتفاعلين مع المتغيرات الطارئة بليبيا، فأكدت الخارجية المصرية أن تدخل تركيا يهدد الأمن القومي العربي بصفة عامة، والأمن القومي المصري بصفة خاصة، مما يستوجب اتخاذ كافة الإجراءات الكفيلة بحماية المصالح العربية. وهنا دعت مصر لاجتماع تشاورى بالقاهرة، بمشاركة وزراء خارجية فرنسا وإيطاليا واليونان وقبرص

       وبالمثل، أكد وزير الخارجية الجزائرى رفض بلاده وجود أي قوة أجنبية مهما كانت هويتها في ليبيا، نافياً وجود أى قطع بحرية تركية بالموانئ الجزائرية، ومؤكداً أن لغة المدافع ليست هي الحل، وأن الحل يكمن في التشاور بين الليبيين فحسب، بمساعدة جميع الجيران. فيما اكتفت السودان وتشاد والنيجر برفض التدخل التركى، دون اتخاذ إجراءات فعلية محددة. بينما اتخذت تونس موقفاً محايداً، حاولت من خلاله إمساك العصا من المنتصف، فأكدت أن اتفاق ترسيم الحدود التركى الليبى هو أمر لا يهمها. لكنها لن تكون عضواً فى أى تحالفات إقليمية. وهو ما يعنى عدم اكتراثها بالتدخل التركى فى ليبيا، رغم أنها تشغل حالياً مقعداً غير دائم فى مجلس الأمن الدولى.  

       أما الدول العربية الأخرى، فقد انقسموا بين رافض للتدخل “السعودية، والإمارات”، وبين مؤيد له
” قطر”، وبين غير مكترث، وهو حال بعض الدول العربية، التى يغطى انغماسها فى مشكلاتها الداخلية على اهتمامها بالقضايا الإقليمي.

خامساً- شكل التدخل التركى المحتمل:

       من المرجح أن يأخذ التدخل التركى المحتمل فى ليبيا الشكلين المباشر وغير المباشر. على أن تكون الغلبة للتدخل غير المباشر. وبالنسبة للتدخل المباشر، فسيكون من خلال إرسال خبراء عسكريين ومدربين أتراك، وإرسال مقاتلين ينتمون لتنظميات المعارضة السورية الموالية لتركيا، والعناصر المتطرفة، مع تجنب إرسال قوات تركية للقتال بشكل مباشر.

       ومما يرجح تلك التوقعات هو تأكيد المرصد السوري لحقوق الإنسان وصول ما لا يقل عن 300 مقاتل سوري بالفعل إلى معسكر التكبالي في حي صلاح الدين بالعاصمة الليبية طرابلس. مما يعنى إمكانية إرسال تعزيزات إضافية من تلك القوات، لتنضم إلى الطليعة الموجودة بالفعل على الأراضى الليبية.  

        أما التدخل غير المباشر، فيشمل تقديم شحنات السلاح، التى تتضمن الطائرات بدون طيار “الدرونز”، والمدرعات، وعربات الدفع الرباعى، والبنادق الآلية، والألغام، وكذا الدعم اللوجيستى والمعلوماتى للقوات والمليشيات الموالية لحكومة الوفاق. وهو الأمر الذى تمارسه تركيا بالفعل منذ سنوات، خاصة مع تشكيل حكومة الوفاق.

سادساً- تداعيات التدخل التركى:

       هناك تداعيات محتملة للتدخل التركى على الوضع الداخلى بتركيا. فالتدخل سوف يتيح لأرودغان الفرصة لصرف أنظار الشعب التركى عن مشكلاته الاقتصادية الداخلية، ولو إلى حين، حيث تكشف المؤشرات عن تراجع سعر صرف الليرة، وزيادة العجز فى المزيان التجارى، وتفاقم الديون الخارجية لتزيد عن 60% من الناتج المحلى الإجمالى، وارتفاع معدلات البطالة إلى14%، ليصبح هو المعدل الأكبر منذ عشر سنوات.  

       لكن إرسال قوات تركية ربما يؤدى لوقوع خسائر فى الأرواح فى صفوفهم، واستهداف مقار وممتلكات الشركات التركية بليبيا، وتوتر العلاقات التركية مع بعض الأطراف الدولية الأخرى، خاصة روسيا. لذا، فمن المتوقع أن يؤدى التدخل التركى لتنامى المعارضة السياسية ضد أردوغان، والتأثير بالسلب على شعبيته، فى مواجهة منافسيه السياسيين، فى ظل تصويت 184 نائباً بالبرلمان ضد قرار التدخل، ورفض أحزاب المعارضة لذلك، خاصة: حزب الشعب الجمهوري، والحزب الصالح، وحزب الخير، وحزب الشعوب الديموقراطى.

       وعلى المستوى الداخلى بليبيا، فإن التدخل التركى سوف ينقل الصراع بها إلى حالة تشبة الصراع بسوريا واليمن. كما أنه سينزع الشرعية تماماً عن حكومة الوفاق، خاصة إذا ما تسبب فى وقوع خسائر بين المدنيين. كما أنه سيعزز شعبية الحكومة الليبية فى الشرق، والقوات المسلحة الوطنية، ويسهم فى التفاف الشعب الليبى حولها.

      وعلى المستوى الإقليمى، فمن المتوقع أن يؤدى التدخل إلى تدخلات عسكرية مباشرة وغير مباشرة من جانب الدول الداعمة لحكومة عبد الله الثنى، وعلى رأسهم مصر، وذلك بالتنسيق مع الجيش الوطنى الليبى، وذلك عبر توجيه ضربات جوية ضد مواقع تنظيم داعش وغيره من المليشيات المسلحة بليبيا. وهو ما يعنى حدوث حرب بالوكالة بين حلفاء حكومة طبرق من جهة، وبين تركيا من جهة أخرى.

       ويعود ذلك إلى ما يمثله التدخل التركى لدعم حكومة الوفاق، ذات الروابط والتوجهات الإخوانية، ودعم تنظيم داعش والمليشيات المسلحة المتطرفة من تهديد مباشر للأمن القومى العربى، والأمن الوطنى المصرى، حيث تشترك مصر مع ليبيا فى حدود برية مباشرة، طولها زهاء 1115 كم. وهو ما يمنح القاهرة الحق فى إعمال مبدأ الدفاع الشرعى عن الذات، وفق نص المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة.

سابعاً- مستقبل الصراع الليبى:

       تشير المعطيات سالفة الذكر إلى أن الأوضاع فى ليبيا تتجه نحو مزيد من التعقيد. فالليبيون مازالوا منقسمين بين ثلاث فئات. أولها يؤيد حكومة الشرق، وحملتها العسكرية للاستيلاء على طرابلس، وثانيها يدعم حكومة الوفاق، رغم انخراط الأخيرة فى مشروع أسلمة الدولة أو دولة الخلافة. والفئة الثالثة هى الطبقة المثقفة المدنية، التى تبحث عن تسوية سياسية، ولا تملك القوة التى تمكنها من تحقيق رؤيتها.

       فى هذا السياق، فمن غير المرجح أن يثمر مؤتمر برلين عن تسوية سياسية، فى ظل تباين مصالح الدول الكبرى، خاصة أعضاء مجلس الأمن الدولى، بشأن طبيعة التسوية، واستمرار الأطراف الخارجية فى تغذية الصراع. وهو ما يدفع للقول بأنه أطراف الصراع لن تقبل بأى تسوية سلمية إلا بعد حدوث أحد متغيرين هما:  

1- “المغالبة”، وذلك بنجاح الحملة العسكرية للجيش الوطنى الليبى بقيادة الجنرال حفتر فى الاستيلاء على طرابلس، وبالتالى نجاح قوى الشرق فى فرض رؤيتها للحل. ولعل تحرير الجيش الوطنى لمدينة سرت وقاعدة القرضابية الجوية مؤخراً، يمثل مقدمة لهذا الاتجاه.

2- ” نضج الصراع”، بمعنى استمرار القتال دون القدرة على تحقيق الحسم العسكرى، بحيث لا يوجد فائز أو مهزوم، عندها سوف يمكن القبول بالجلوس إلى مائدة المفاوضات، كخيار عقلانى رشيد، بدلاً من استمرار الاستنزاف العسكرى بكل تداعياته السلبية. وهو ما قد يتحقق فى حال نجاح التدخل التركى فى استعادة توازن القوى بين طرفى الصراع الأساسيين. 

        وفى خضم التدفق المكثف للسلاح إلى ليبيا، وتعدد الأطراف الخارجية المتدخلة بشكل مباشر وغير مباشر، يصبح من الصعب الاعتماد على الليبيين أنفسهم فى إنجاز تسوية سلمية للصراع، وتصبح كافة الاحتمالات مفتوحة وقابلة للتحقق، مما يوجب التعاون الإيجابى الفعال على المستويين العربى والأفريقى أولاً، كمقدمة لحشد التأييد الدولى، لأجل جمع الأطراف المتحاربة على مائدة التفاوض، التى تمثل الإطار المناسب لتأسيس نظام سياسى جديد بالبلاد.  

——————-