كتب – محمد الدابولي

باحث متخصص في الشئون الأفريقية

رغم مرور أكثر نصف قرن على انقضاء الحقبة الاستعمارية البلجيكية في أفريقيا، إلا أن فصول وحلقات الانتهاكات الوحشية التي مُورست بحق الأفارقة في الكونغو الديمقراطية ورواندا وبوروندي ما زالت تتكشف حتى الآن، وتُؤرق صانعي القرار في بروكسل الذين يأملون في تحقيق القطعية التاريخية مع ماضيهم الاستعماري.

سجل التاريخ الأفريقي الحديث “الاستعمار البلجيكي” كأحد أسوأ النظم الاستعمارية التي حكمت أفريقيا خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، فعلى سبيل المثال عُدت “الكونغو الديمقراطية” كإقطاعية مملوكة للملك «ليوبولد فيل الثاني» الذي حرص على استغلال ثروات الكونغو لصالحه الشخصي.

لم تتوقف الانتهاكات البلجيكية بحق مستعمراتها الأفريقية على عهد الملك ليوبولد فيل الثاني، بل امتدت لمراحل لاحقة، خاصة في فترة الاستقلال وما بعد الاستقلال، وهو ما سيتم التطرق إليه في السطور القادمة، ففي خضم ترتيبات استقلال المستعمرات البلجيكية (الكونغو – رواندا – بوروندي) ارتكبت بروكسل العديد من الانتهاكات؛ أبرزها على الإطلاق المشاركة في تصفية الزعيم الكونغولي ورئيس الوزراء الراحل “باتريس لومومبا” على خلفية رفضه إبرام أي معاهدات تُنسق العلاقات بين كينشاسا وبروكسل في مرحلة ما بعد الاستقلال.

ولم تتوقف الانتهاكات البلجيكية عند مقتل لومومبا بل امتدت إلى ترحيل ما يقارب 20 ألف طفل من مواليد المستوطنات البلجيكية في أفريقيا إلى أوروبا وإبعادهم قسرًا عن أهاليهم وحرمان أمهاتهم الأفريقيات من رؤيتهم مدى الحياة، وجاء ترحيل هؤلاء الأطفال بناءً على اعتبارات عنصرية؛ حيث إن هؤلاء الأطفال كانوا مختلطي العرق نتيجة التزاوج بين آباء بلجيكين وأمهات أفارقة.

لماذا تم الترحيل؟

تدور العديد من التساؤلات حول الدوافع البلجيكية لترحيل هؤلاء الأطفال من المستوطنات في الكونغو ورواندا وبوروندي إلى بلجيكا، ويمكن إبراز تلك الدوافع في النقاط التالية:

  • السيطرة المبكرة: بدت مسألة الأطفال الملونين تلوح في الأفق عشية استقلال الكونغو الديمقراطية (1959- 1962)، حيث رأت السلطات الاستعمارية في ذلك الوقت أن مسألة هؤلاء الأطفال قد تشكل هاجسًا سياسيًّا أمام بلجيكا خلال عقود ما بعد الاستقلال، فوفقًا لمدير الجمعية البلجيكية للملونين “فرانسوا ميليكس” في تصريحات للعديد من المواقع أفاد بأن سياسة نقل الأطفال (مختلطي العرق) جاءت في محاولة من السلطات البلجيكية لتقليل أثر النتائج المترتبة على استقلال المستعمرات الأفريقية، حيث من المحتمل أن يُطالب ذوو هؤلاء الأطفال بالجنسية البلجيكية، ومن ثم يترتب لهم حقوق وواجبات باعتبارهم مواطنين بلجيكيين، وهو ما كانت تتخوف منه بروكسل، حيث كانت تجربة ثورة الملونين التي اندلعت في كندا خلال الفترة ما بين 1869 و1870 في منطقة روبرت على النهر الأحمر ماثلة أمامهم، حيث طالب الملونون بحقوقهم السياسية والاقتصادية، لذا عملت بلجيكا على جمع هؤلاء الأطفال وإيداعهم في مؤسسات ودور تربوية منعزلة حتى تضمن السيطرة عليهم تمامًا.
  • تنفيذ القوانين العنصرية: كانت القوانين العنصرية البلجيكية تحظر عملية التزاوج بين الأعراق المختلفة، وترى أن الأطفال الملونين هم إساءة واضحة للقوانين البلجيكية ويجب إبعادهم بعيدًا عن المجتمعات الأوروبية والأفريقية، فأي محاولة للتزاوج والتقارب بين الأعراق المختلفة حتى ولو كان عن طريق التزاوج تعد تحديًا للقوانين العنصرية التي سنتها بلجيكا في الكونغو.
  • محاولة تبييض وجه الاستعمار البلجيكي: وفي محاولة لتبيض عملية ترحيل هؤلاء الأطفال ادعت البعثات التبشيرية البلجيكية في الكونغو ورواندا أن قرار الترحيل جاء للحفاظ على أرواح هؤلاء الأطفال، حيث ارتأت تلك البعثات أن هؤلاء الأطفال قد يتعرضون لانتهاكات جسيمة فور استقلال الكونغو ورواندا وبوروندي نظرًا لارتباطهم العرقي بالمستعمر البلجيكي.

انعكاسات ترحيل الأطفال

حملت عملية ترحيل الأطفال الملونين من المستوطنات إلى بلجيكا العديد من الآثار السلبية عليهم، كما شكلت تلك الانعكاسات وصمة عارٍ على السياسة البلجيكية في مرحلة ما بعد انتهاء الحقبة الاستعمارية؛ وكان أبرز تلك الانعكاسات:

  • وجود أبارتهيد أوروبي: ارتبط مفهوم الأبارتهيد في الأدبيات السياسية العالمية والأفريقية بنظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا قبل تولي نيلسون مانديلا الحكم، ومن المؤكد أن فداحة نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا قد غطت على نظم سياسية أخرى، مارست الفصل العنصري خاصة في بلجيكا التي مارست فصلًا عنصريًّا تجاه الأطفال الملونين الذين تم اقتيادهم إلى بلجيكا وعزلهم في معسكرات ومدارس داخلية ودور أيتام منعزلة تُشرف عليها الكنائس الكاثوليكية، وذلك لفصلهم عن أي محيط أفريقي أو أوروبي.
  • “بدون” بلجيكا: واستمرارًا لسياسة الفصل العنصري أسقطت السلطات في بروكسل الجنسية عن هؤلاء الأطفال حتى أصبحوا “بدون”؛ أي: معدومي الجنسية والوطن، الأمر الذي عرضهم في فترات شبابهم للمزيد من المضايقات على خلفية عدم وجود جنسية لهم، الأمر الذي حرمهم من العديد من الحقوق الوطنية، وفي سبيل تحسين أوضاعهم لجأوا إلى العديد من الحيل التي من شأنها اكتساب الجنسية البلجيكية؛ مثل شرائها بالمال أو غير ذلك.

اعتذار على مضض

في فبراير 2019 صدر تقرير عن الأمم المتحدة تناول مسألة التمييز العنصري المستمرة في المؤسسات البلجيكية تجاه الملونين في البلاد، مطالبًا بروكسل بضرورة وقف التمييز العنصري من ناحية والتصالح مع الماضي الاستعماري وتقديم الاعتذار عن الفظائع التي ارتكبت خلال الفترة الاستعمارية من ناحية أخري، كما حثت الأمم المتحدة بلجيكا على تقديم التعويضات لهؤلاء الأشخاص.

وإزاء الضغط الأممي المتزايد على بلجيكا أعلن رئيس الوزراء تشارلز ميشيل -على مضض، في جلسة عامة، في البرلمان البلجيكي في إبريل 2019- عن اعتذار بلاده للملونين عما لاقوه من ظلم ومعاناة، كما توجه بالاعتذار إلى الأمهات الأفريقيات اللاتي انتزُعِ منهن فلذات أكبادهن على يد المستعمر البلجيكي، كما أكد رئيس الوزراء أنه سوف يتم تخصيص الموارد المالية لأجل فتح التحقيق في تلك القضية التاريخية وفتح الأرشيف الاستعماري، وتمكين الإجراءات الإدارية من اكتساب هؤلاء الجنسية البلجيكية فضلًا عن محاولة التوصل إلى ذوي هؤلاء الأشخاص في الكونغو ورواندا.

وقبل اعتذار الحكومة البلجيكية قدمت الكنيسة الكاثوليكية في عام 2017 اعتذارها على مشاركتها في خطف الأطفال من أمهاتهم وترحيلهم إلى بلجيكا، حيث لعبت الكنسية البلجيكية دورًا محوريًّا في هذا الأمر؛ فهي من ناحية وفرت الغطاء الإنساني لعملية الاختطاف تحت دعوى حماية الأطفال من موجات انتقام شعبي في الكونغو ورواندا، ومن ناحية أخرى أشرفت على المعسكرات والدور والمدارس الداخلية التي تم فيها إيداع هؤلاء الأطفال، ويأتي اعتذار الكنيسة والحكومة نتيجة الحملات التي قادتها الجمعيات الخاصة بالملونين في بلجيكا للمطالبة بحقوقهم.

وماذا بعد؟

يعد هذا الاعتذار هو الأول من نوعه في بلجيكا، ولكن ماذا بعد؟ وماذا عن الجرائم التي ارتكبتها بلجيكا في الكونغو خلال الفترة الاستعمارية والتي استمرت 80 عامًا؟ فالاعتذار الأخير لن يخفف من وطأة الجروح التي تركها المستعمر البلجيكي في الكونغو؛ حيث تسبب في مقتل ما لا يقل عن 15 مليون أفريقي خلال الفترة الاستعمارية، هذا فضلا عن استعباد آلاف الكونغوليين وإجبارهم على العمل في مزارع المطاط لصالح الملك ليوبولد فيل الثاني ثم الحكومة البلجيكية، وقد استخدمت السلطات الاستعمارية أبشع الوسائل؛ مثل تقطيع أوصال الأفارقة من أجل إجبارهم على العمل لصالح السلطات الاستعمارية.

ويتبقى لنا أن نشير إلا أن ظاهرة الملونين لم تقتصر على التجربة البلجيكية فقط، بل تمتد إلى كافة الدول الاستعمارية الأوروبية مثل بريطانيا وفرنسا، فالملونون في تلك البلاد ما زالوا يعانون من بعض التمييز العنصري الممارس ضدهم من قبل السلطات الحكومية.