كتبت _أماني ربيع

لقرون عديدة ظل الشعب الموريتاني حبيسًا للصحراء والحياة البدوية، التي كان يتوجها الشعر كفن وحيد لها، فالسينما كانت غائبة تمامًا، أما الشعر والموسيقى فكان لهما الدور الأكبر في الترفيه، لذلك غابت الصورة عن المواطن الموريتاني بالدرجة التي جعلته يتعامل معها في أول ظهور لها كنوع من أنواع السحر.

معرفة المجتمع الموريتاني بالسينما بدأت في نهاية الأربعينات، لكن إنتاجها المحلي من الأفلام لم يولد إلا بحلول نهاية الستينيات، ومن آن لآخر كانت تظهر مواهب أثبتت حضورا، لكن رغم ذلك لا زالت صناعة السينما في موريتانيا كما بدأت، غريبة.

“عفريت السينما”

شقت السينما لأول مرة عزلة المجتمع الموريتاني بداية الخمسينيات عبر قوى الاستعمار الفرنسي الذي فتح أعين الموريتانيين على الفن السابع من خلال سيارات تجوب أنحاء البلاد لعرض الأفلام.

شكل اللقاء الأول مع السينما صدمة للمتلقي الموريتاني، لدرجة اعتبارها ضربًا من السحر، وبتفكيرهم البسيط، فسروا سيل الصور المتحركة أمامهم في آلة العرض على السيارة بأنها مملوكة للعفاريت والجان.

“همام فال”

تأخر الإنتاج السينمائي المحلي في موريتانيا كثيرًا بعد ذلك، وكانت دار العرض السينمائي الوحيدة في العاصمة نواكشوط، التي أنشأها فرنسي يُدعى “جوميز” تعرض أفلامًا أجنبية من السنغال والهند.

بعدها بدأ رجل الأعمال الموريتاني همام فال، في إنشاء دور عرض سينمائي جديدة، منها: “دار المنى” أول صالة عرض وطنية في نواكشوط، وجلب أفلاما عربية وأجنبية، ثم أتبعها بدور أخرى مثل: “الجواد” و”السعادة”، وغيرها، وهو ما خلق رابطًا كبيرًا بين المجتمع الموريتاني والسينما.

“أفلام من واقع المجتمع”

عقب استقلال موريتانيا عن فرنسا، بدأ إرسال بعثات لدراسة التصوير السينمائي، في وقت لم يكن فيه التلفزيون دخل البلاد بعد، وكانت الكاميرات السينمائية مخصصة لتصوير الأحداث السياسية، التي تُعرض قبل فيلم السهرة في دار السينما الوحيدة بنواكشوط.

تعاون فال، مع المخرج الراحل محمد السالك أول مصور سينمائي يعود من المبتعثين إلى الخارج، بعد دراسته في ألمانيا، وبدأ الثنائي في إنتاج أفلام من واقع المجتمع أهمها: “ترجيت”، “ميمونة”، “بدوي في الحضر”، والتي جذبت اهتمام المجتمع المحلي بشدة.

“دعم الرئيس”

اهتم الرئيس الموريتاني وقتها، الرئيس ولد داداه بالسينما وكان حريصا على حضور العروض بـ”سينما المنى” مع زوجته، وبدأ الدعم الحكومي للسينما عبر “المؤسسة الموريتانية للسينما”، التي أصبحت أصبحت “المؤسسة الموريتانية للسينما والتلفزيون”، عقب ظهور التلفزيون لتبدأ ثقافة الصورة في غزو أرض المليون شاعر.

“رواد”

بزغ فجر السينما الموريتانية في السبعينيات، عبر الرواد المخرج محمد هندو وسيدني سخنا، واستمر مع نظيرهم الحديث عبد الرحمن سيساكو.

درس المخرج محمد هندو، المسرح والسينما في فرنسا في نهاية الخمسينات، وبعد عودته أصبح ملهما لكل الشغوفين بالمجال السينمائي في موريتانيا، وصنع هندو أفلاما حققت نجاحا باهرا على المستوى الدولي منها: ” Soleil Ô” عام 1970، الذي ندد فيه بالعنصرية، وفاز بجائزة ” Golden Leopard ” من مهرجان لوكارنو السينمائي، وفيلم ” Bicots-Nègres، vos voisins” عام 1973.

ومن أهم أفلام المخرج سيدي سخنا: “الجنسيات المهاجرة” 1975، الذي نال حصد جائزة لجنة التحكيم في مهرجان “فيسباكو” السينمائي الأفريقي، وفيلم ” Sarraounia ” 1978.

أما المخرج عبد الرحمن سيساكو فدرس في أوكرانيا، وعاد منها إلى فرنسا ليؤسس شركة إنتاج باسم “شنقيطي فيلم”، وأخرج عددا من الأفلام المهمة أشهرها: ” La vie sur Terre” 1998، ” Waiting for Happiness” 2002،  “باماكو” 2006، و”تمبكتو” 2014، الذي اختير للمنافسة بالمسابقة الرئيسية في مهرجان كان السينمائي، ورشح لجائزة أفضل فيلم أجنبي في حفل جوائز الأوسكار الـ87، وفاز أيضًا بجائزة أفضل فيلم وأفضل مخرج في النسخة الأربعين من جوائز “سيزار” الفرنسية.

“دار السينمائيين”

في عام 2002، أسس سيساكو مع المخرج عبدالرحمن ولد أحمد سالم، وسينمائيين آخرين مدرسة لتعليم الشباب مبادئ السينما، باسم “دار السينمائيين”، التي ساهمت في خلق بيئة سينمائية خصبة في نواكشوط، وتنظيم ورش ودورات والمساهمة في إنتاج أفلام للهواة والمحترفين، بالإضافة إلى مبادرة “الشاشة الرحالة” التي تنقل السينما إلى الأرياف والأماكن النائية.

وأطلقت “أسبوع الفيلم الموريتاني” للتعريف بإنتاج هواة السينما، وعرض أفلام عربية وأجنبية، واستضافة شخصيات سينمائية هامة.

تحول أسبوع الفيلم الموريتاني إلى مهرجان نواكشوط للفيلم القصير، بعد حصوله على طابع دولي، لتعدد الدور المشاركة به، سواء من المغرب العربي ومصر ودول جنوب أفريقيا وفرنسا، واهتم أكثر بالفيلم القصير لأن موريتانيا لا تملك صناعة منتظمة للأفلام الروائية الطويلة.

“غياب الدعم الرسمي”

شكل غياب الدعم الرسمي أزمة للسينما الموريتانية مع المتغيرات السياسية والمجتمعية المختلفة، وبدأت دور السينما في استيراد أفلام رخيصة من دول مجاورة، اعتبرها الجمهور مبتذلة ليبتعدوا عنها تدريجيا، وبعدما وصل عدد دور العرض في نواكشوط إلى أكثر من 12 دار عرض، تراجع العدد تدريجيا، مع سيطرة التلفزيون على اهتمامات المشاهد الموريتاني بداية التسعينيات.

وقال المخرج عبدالرحمن محمد سالم، في لقاء معه، إن الدولة تخلت عن السينما، وتدنى مستوى الأفلام المعروضة بشدة، وأصبح معظم المعروض إباحيا، وأنشأت “لجنة مراقبة الأفلام”، المكونة من ضابط شرطة ومسؤول حكومي وأناس لا علاقة لهم بالسينما.

“مجهود شخصي”

ورغم ذلك، هناك أصوات سينمائية كافحت للظهور دوليا، وإنتاج أفلام قصيرة، بالوسائل المتاحة، منها المخرج سيد محمد ولد الشيكر، صاحب فيلم “المتطرف”، عبر شركة إنتاج Media Plus التي يديرها، وأنتجت مؤخرًا ثمانية أفلام قصيرة لمؤلفين شباب يشاركون في ورش عمل نظمتها “دار السينمائيين”.

أتيحت لمخرجين منهم: سيد محمد ولد الشيكر ومحمد إشكونا ودا عبدالله، الفرصة لتقديم أفلامهم بمهرجان ” the Visions du Réel Festival” عام 2017. 

عرضت أعمال بعض مؤلفي ومخرجي الأفلام الوثائقية القصيرة والروائية ومنهم: وسيم كوربي، وسالم دندو، وعبدالرحمن لحي، وموسى ديكو، وأمل سعد بوه في مهرجان لوزان السينمائي الأفريقي عام 2020.

لكن رغم هذه المحاولات، لا زالت صناعة السينما في البلاد قائمة على المجهود شخصي من محبي الفن السابع، ما يفسر تفاوت مستوى الصناعة من وقت لآخر، وعدم وجود استدامة في الإنتاج السينمائي الموريتاني.