د. أماني الطويل
مدير البرنامج الأفريقي بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية
عبر عشر سنوات من التفاوض بشأن سد النهضة فشلت دولتا المصب -مصر والسودان- في دفع إثيوبيا نحو التوافق على صيغة تعاونية مؤطرة قانونيا تضمن صيانة الأمن الإنساني لملايين البشر سواء القاطنين في الدول الثلاث أطراف المفاوضات أو في مجمل حوض النيل الذي إذا انقسم إلى فريقين بين دول للمنابع ودول للمصب تنتهي كل صيغ التعاون الفنية التي عاشت على مدى ٧٠ عاما في أطر مختلفة كان آخرها مبادرة حوض النيل، وفي المقابل تبرز صيغ من الصراعات متفاوتة القوة والمستوى خصوصا مع وجود مشروعات لبناء سدود في دول أخرى بما يضع السودان أمام مخاطر ويفرض على مصر تحديا وجوديا سوف تستجيب له بالتأكيد.
في هذا السياق من المهم التعرف على ملامح التعنت الإثيوبي وقضاياه والمناهج الإثيوبية التي أنتجت مثل هذا التعنت سواء بتحليل الخطاب السياسي والإعلامي الإثيوبي أو باكتشاف الذهنية التي أنتجت هذا الخطاب، وفي الأخير النتائج المتوقعة للحالة الراهنة من التوتر في حوض النيل وتداعياتها على السلم والأمن الإقليمي في ثلاث مناطق هي لصيقة بمصالح عربية ودولية.
أولا: حالة الذهنية الإثيوبية تجاه مصر
تشير أدبيات الاجتماع السياسي ودراساته أن الذهنية الإثيوبية تتميز بملامح من التعالي على محيطها الإقليمي الأفريقي، وهو إحساس بالتميز ناتج عن الامتدادات الحضارية الإثيوبية المعروفة بحضارة أكسوم، وفي هذا السياق فإن الدوافع التنافسية مع مصر ذات الامتداد الحضاري الأكثر عراقة وتأثيرا واحتفاء في السياق العالمي تبدو حاضرة في الذهنية الإثيوبية ومحل غضب ربما بسبب فوارق التقدير بين الحضارتين في السياقات التاريخية والثقافية إقليميا وعالميا، وذلك إلى حد تضمين مفردات الحضارة الفرعونية المصرية في مناهج المدارس حول العالم.
ويبدو أن الذهنية الإثيوبية قد بحثت في معطيات هذه الحضارة المصرية القديمة، التي تعتبرها منافسة فوجدت ضالتها في النيل، خصوصا مع مقولة هيرودوت الشهيرة بأن “مصر هبة النيل“ التي بنت حضارتها وتقدمها عليه.
ولا يمكن إنكار الدور الاستعماري لبريطانيا تاريخيا في تأجيج عوامل المنافسة والصراع في دول حوض النيل منذ احتلالها مصر، وارتباط النيل بزراعة القطن الذي لعب دورا رئيسا لمصانع النسيج في لانكشاير البريطانية، حيث شكلت الفواعل الخارجية دائما أحد العوامل المؤثرة على تفاعلات دول حوض النيل بشأن النهر وذلك طوال ما يزيد عن قرن، ومارست هذه الفواعل هندسة جيوسياسية لموارده بما يخدم مصالحها التاريخية والمستحدثة، مع إدراك مدى تأثير هذا النهر على النظم السياسية المصرية المتعاقبة، كون الحفاظ على نهر النيل متدفقا أحد مصادر شرعية هذه النظم.
فمع الاستعمار البريطاني لمصر عام ١٨٨٢، تم النظر إلى نهر النيل باعتباره موردا طبيعيا لابد وأن تصب عوائده في مصالح لندن، خصوصا مع تجربة محمد علي في تنظيم النهر واستزراع القطن طويل التيلة الذي كان الرافعة الاقتصادية لمشروعه التحديثي في مصر، من هنا تدخلت بريطانيا في العلاقات البينية بين دول حوض النيل، وذلك على مراحل، حيث بدأت بإثيوبيا ثم السودان ثم باقي دول حوض النيل طبقا لاتجاهات مصالحها، واحتياجاتها الاستراتيجية التي تبلورت في اتجاه تلبية مصانع لانكشاير من القطن طويل التيلة والتوسع في زراعته بكل من مصر والسودان لاحقا.
وفي هذا السياق تم عقد اتفاقية ١٩٠٢ بين بريطانيا باعتبارها حاكما لمعظم دول حوض النيل ما عدا إثيوبيا المستقلة عن كل أنواع الاستعمار، والممارسة له بضم الكثير من الأقاليم المجاورة للهضبة الحبشية، وطبقا لهذه الاتفاقية قام الإمبراطور ملينيك الثاني إمبراطور إثيوبيا بتوقيع الاتفاق الذي نص على تعهد إثيوبي بعدم بناء أي إنشاءات أو سدود على نهر النيل، وذلك في مقابل حصوله على أراضي بني شنقول السودانية، وهي التي يقام عليها حاليا سد النهضة.
منذ هذا التاريخ أصبح الإثيوبي يشعر أنه محروم من النيل الأزرق الذي لا تتجاوز موارده عند المنابع ٤٩ مليار متر مكعب من المياه بينما مجمل الموارد المائية الإثيوبية ٢٠ ضعف هذه الكمية، بما جعل إثيوبيا معروفة بكونها نافورة أفريقيا.
وقد ظل هذا الشعور الإثيوبي بالحرمان مسيطرا، وظلت بريطانيا تذكيه وتؤججه طوال القرن العشرين، حتى تمنع أي صيغ تعاونية بين دول حوض النيل، وذلك إلى حد رفضها مشروعا مصريا عام ١٩٥٠ طبقا لوثائق بريطانية، وذلك لبناء سدود في عدد من دول حوض النيل[1] لزيادة موارد النهر المهدرة بما يزيد عن ٥٠ مليار متر مكعب من المياه، كما استخدمت بريطانيا إثيوبيا كمخلب قط لرفض مشروع السد العالي المصري وهو المشروع الذي خاضت مصر من أجله معارك على مستوى دولي[2].
وقد عبر الإنتاج الإبداعي الإثيوبي عن استيائه من نهر النيل الذي يسمى في إثيوبيا بأباي، فتم وصفه بالخيانة لأنه ينبع من الأراضي الإثيوبية بينما تذهب خيراته للأغيار، الذين هم المصريون في هذه الحالة.
ثانيا: أسس الخطاب الإثيوبي وأدواته في معركة سد النهضة
اعتمد الخطاب الإعلامي الإثيوبي على أمرين أساسيين؛ الأول هو المظلومية، وذلك بهدف جلب التعاطف الدولي مع مسألة تبدو إنسانية في مظهرها، وهو تكتيك مستجلب من الأدبيات الإسرائيلية في طرح القضايا، والثاني هو وضع مصر في مظهر الدولة الاستعمارية المسيطرة على موارد مملوكة للغير.
في خطاب المظلومية اعتمدت إثيوبيا على الفقر والحرمان من الكهرباء في إثيوبيا، وربطهما بالحرمان من مياه النيل، وأن هذا النيل سوف يقود كل تنمية في إثيوبيا، ويتجاهل هذا الخطاب حقيقة أوضاع إثيوبيا الداخلية الناتجة وحالات الصراع الممتدة بين مكوناتها القومية، وهو الصراع الناتج من عملية تأسيس الدولة التي تمت على يد الإمبراطور ملينك الثاني والتي قامت على أسس الضم بالقوة للأقاليم المتاخمة للهضبة الإثيوبية، وطبقا لذلك فإن الاندماج الوطني الإثيوبي يبدو شبه مستحيل مع متوالية الحروب الثأرية بين القوميات الإثيوبية بمعدل مرة كل ربع قرن وبتحالفات متغيرة بين القوميات، حيث تحالف التيجراي والأرومو مثلا ضد الأمهرة في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي بينما تحالف الأمهرة والأرومو ضد التيجراي مؤخرا، وهو ما أنتج الحرب على إقليم تيجراي التي تم فيها تدمير كل مقومات التقدم في الإقليم ومنها محطة للكهرباء كانت منحة من صندوق أبو ظبي.
وربما يضاف إلى ذلك أن مصادر الطاقة قد تعددت في العصر الحديث، فلم تعتمد فقط على الآلية الكهرومائية، ولكنها تعددت حاليا لتمتد لمصادر الطاقة المتجددة، والبترول والغاز.
أما في مكونات الخطاب الإثيوبي بشأن وضع مصر في ثوب استعماري، فإنه يتجاهل عدة أمور؛ الأول أن نهر النيل نهر دولي مشترك -أي ملكية مشتركة- لجميع دول حوضه، وبالتالي لا يمكن تصنيف مصر طبقا لهذه الوضعية بالاستعمارية، ثانيا لم يكن لإثيوبيا أي إسهامات تاريخيا في مناهضة الاستعمار لا على المستوى الفكري ولا على المستوى الحركي، وذلك لسبب موضوعي وهو أنها لم تكن أبدا مستعمرة من جانب الدول الاستعمارية الكبرى بسبب صعوبة تضاريس هضبة الحبشية التي ترتفع عن سطح البحر لما يزيد عن ١٣٠٠ متر. من هنا لم تقاوم الاستعمار بينما ساهمت مصر في الحركة الفكرية الأفريقية وهي المعروفة بالأفريقانية عبر توفيق دوس الذي ساهم في مؤتمرات هذه الحركة في كل من باريس ولندن، ثم ناهضت مصر الاستعمار كقائد أفريقي لحركة التحرر الوطني في الخمسينات والستينات، وساهمت بشكل فعال في تحرر العديد من الدول الأفريقية حين ساندت حركات التحرر الوطني، ودفعت مقابل ذلك عداء بريطانيا والولايات المتحدة التي خططت لسد النهضة الحالي عام ١٩٦٣ من جانب مكتب استصلاح الأراضي الأمريكي، وذلك رغبة في تطويق جمال عبدالناصر ومشروعه التحرري عربيا وأفريقيا.
وعلى الرغم من فساد معطيات الخطاب الإعلامي الإثيوبي -كما أسلفنا- فإن أديس أبابا قد نجحت في ترويجه لأسباب تتعلق بالفاعلية، واستخدام الدبلوماسية الشعبية ومنظمات المجتمع المدني ومنصات التواصل الاجتماعي بكافة اللغات، وكلها أدوات تم إهمالها من جانب دولتي المصب مصر والسودان، حيث اعتمدت القاهرة على أدواتها الرسمية فقط سواء على مستوى القيادة السياسية أو الوزارات والأجهزة المصرية المعنية بالملف، أما السودان فقد تم خداعه استراتيجيا من الجانب الإثيوبي سواء في فترة حكم البشير أو بعد الثورة، ذلك أن النخب السودانية الفنية تم منعها في عهد البشير من دراسة تداعيات سد النهضة على السودان، وتم الركون إلى مقولات أن السودان سيحصل على الطاقة بمقابل زهيد، كما أنه سوف يتخلص من سلبيات فيضان النيل الأزرق، أما بعد الثورة فقد كان للدور النشط الذي لعبه آبي أحمد في التفاعل مع المكون الثوري السوداني دوره في تعطيل الإدراكات السودانية بمخاطر سد النهضة، وهو الأمر الذي ساهم في مضي إثيوبيا في البناء في جسم السد غير آبهة بدولتي المصب اللتين كانتا منقسمتين في الموقف من سد النهضة حتى فبراير ٢٠٢٠.
ثالثا: ملامح التعنت الإثيوبي وتداعياته
تبدو ملامح التعنت الإثيوبي في مفاوضات سد النهضة واضحة بدلائل استمرار هذه المفاوضات لعقد كامل من الزمان دون التوصل لاتفاق محدد بشأن سد النهضة، يكون له مرجعية قانونية ملزمة، تضمن الأداء الإثيوبي في عمليات مليء بحيرة السد ثم تشغيله تحت مظلة المتغيرات المناخية والبيئية المتوقعة سواء بسبب هيدروليكية نهر النيل ذاته وتصرفاته، أو المتغيرات المناخية التي قد ترشح جفافا ممتدا لفترات ليست بالقليلة، وكلها معطيات مهددة لحيوات ملايين من البشر في مصر والسودان.
في هذا السياق نستطيع أن نرصد ملامح التعنت الإثيوبي في عدد من المحددات الحاكمة لمثل هذا النوع من الخلافات.
أ- الرفض الإثيوبي للوساطات الدولية
يكاد يكون من المتفق عليه في السلوكيات الدولية، أنه يتم اللجوء إلى الوساطات بكافة أنواعها لحل أي نوع من النزاعات في أي مجال، وهو سلوك خبرته الإنسانية عبر تاريخها الطويل، ولكن المفارقة أن إثيوبيا قد قاومت أي وجود دولي نتيجة التقرير الصادر عن اللجنة الدولية بشأن سد النهضة الصادر في مايو ٢٠١٣، وهو التقرير المنبثق عن اللجنة الدولية التي تم تكوينها كنتيجة للمباحثات التي تمت بين الأطراف على المستوى الفني في نوفمبر ٢٠١١ ، وشملت خبراء مستقلين عن الأطراف المعنية، حيث تم الاتفاق على تكوين لجنة دولية لتقييم مشروع سد لنهضة تكون عضويتها من خبيرين من السودان، وخبيرين من مصر، وأربعة خبراء دوليين في مجالات هندسة السدود وتخطيط الموارد المائية والأعمال الهيدرولوجية والبيئية والتأثيرات الاجتماعية والاقتصادية للسدود من ألمانيا وفرنسا وجنوب أفريقيا.
وقد خلصت هذه اللجنة إلى تقرير شامل في مايو ٢٠١٣ به تحفظات واضحة تتعلق بسلامة السد والتأثيرات الاجتماعية والاقتصادية على الفئات الفقيرة في مناطق إنشاء السد، وتحفظات تتعلق بتأثيره على الموارد المائية لدولتي المصب وقلة تدفق المياه إليهما، وهذه أمور تحتاج إلى مزيد من الدراسات التفصيلية من جانب الحكومة الإثيوبية لمنع الآثار السلبية للسد.
الموقف الإثيوبي من تقرير اللجنة الدولية كان سلبيا ورفضته أديس أبابا، حيث توقفت المباحثات بين الأطراف حتى لقاء تم بين الرئيس السيسي ورئيس الوزراء الإثيوبي هيلي ديسالين في مالابو بغينيا حيث اتفقا على أن تتم المباحثات تحت رعايتهما الشخصية في مايو ٢٠١٤، على أن تكون اللجنة من العناصر الوطنية للدول الثلاث دون وجود أية عناصر من الجانب الإقليمي أو الدولي تقوم بأدوار تقييم مواقف الأطراف أو حتي تقريب وجهات النظر.
وقد امتد هذا الموقف الإثيوبي الرافض للوجود الدولي حتى أكتوبر ٢٠١٩ حينما فشلت المباحثات وطلبت مصر وساطة دولية طبقا للبند العاشر من إعلان المبادئ الموقع في مارس ٢٠١٥ بين كل من مصر والسودان وإثيوبيا[3]
وتحت ضغوط أمريكية انخرطت إثيوبيا في مباحثات في واشنطن تحت رعاية أمريكية اعتبارا من نوفمبر ٢٠١٩، كان مقرر لها الاستمرار شهرين فقط ولكنها امتدت لثلاث أشهر وبلورت مسودة اتفاقية وافقت عليها أديس أبابا بالفعل ولكنها انسحبت من التوقيع عليها في فبراير ٢٠٢٠ في خطوة لم تكن مبررة أحرجت الوسيط الأمريكي إلى حد قول الرئيس الأمريكي السابق إنه لن يستغرب إذا قامت مصر بعمل عسكري ضد السد[4].
وقد امتد الرفض الإثيوبي للوساطات الدولية أو بحث قضية سد النهضة في أطر دولية كمجلس الأمن مثلا حتي اللحظة الراهنة، حيث رفضت إثيوبيا كل أنواع الوساطات، وتتمسك حتي الأن بإطار الاتحاد الأفريقي لعدد من الأسباب منها أنها دولة المقر للاتحاد، وأنه لا الاتحاد ولا الدول الأفريقية لديهما أدوات ضغط فعالة على إثيوبيا، مقارنة بأطراف دولية قد تملك سلاح العقوبات الاقتصادية، وأخيرا فإن هناك بعض الانحيازات الأفريقية غير الموضوعية لإثيوبيا المؤسسة على معطيات عرقية لا أكثر.
ب- تجاهل معامل أمان سد النهضة
لعل أهم لجان تقرير اللجنة الدولية الصادر في مايو ٢٠١٣ هو ما يرتبط بالمواصفات الفنية لسد النهضة، وحقيقة أنه إنشاء إسمنتي في نهاية هضبة، على فالق الأخدود الأفريقي العظيم، وتخزن كمية هائلة وضاغطة من المياه على السد، ولعل هذا التقدير هو ما تسبب في رفض إثيوبيا للتقرير وانقطاع المباحثات بين الأطراف ٨ أشهر كاملة، حيث جاء الاجتماع الرابع على مستوى وزراء الري في البلدان الثلاث في الخرطوم في أغسطس 2014 بعد ثمانية أشهر من الانقطاع، والتي تم خلاله الاتفاق على آلية لتنفيذ توصيات لجنة الخبراء الدولية بشأن سد النهضة. وقد وقع الجانبان على البيان الختامي برعاية سودانية والذي نص على:
– تشكيل لجنة خبراء رباعية من الدول الثلاث بجانب الاستعانة بشركة استشارية دولية لإجراء الدراستين الإضافيتين للسد
– أقر البيان على اختيار خبراء دوليين لحسم أي خلاف قد يظهر إبان النتائج النهائية في فترة أقصاها أسبوعين، ولكن جاء اجتماع الشروط المرجعية لاختيار الخبراء وشركات الدراسات متأخرا أسبوعين. وتم الاتفاق على اختيار ٧ مكاتب استشارية للقيام بالدراسات ولكن الاستقرار على اثنين منها استغرق أكثر من عام حيث عقد في ديسمبر ٢٠١٥ اجتماعا بهذا الشأن والذي تم فيه بحث النقاط الخلافية بين الشركتين الاستشاريتين المستقر عليهما وعرض السيناريوهات المختلفة لحل الأزمة تمهيدا لعرضها على وزراء المياه في مصر والسودان وإثيوبيا لاتخاذ القرارات المشتركة لخلها والبدء في تنفيذ الدراسات الفنية للمشروع.
وفي هذا السياق رفضت مصر قيام شركة بمفردها بتنفيذ الدراسات الفنية الخاصة بسد النهضة طبقا للاقتراح الإثيوبي متمسكة بما تم الاتفاق عليه خلال اجتماعات الجولة الخامسة للجنة الوطنية الثلاثية في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا في ابريل 2015 حيث تم اختيار شركتين وليس شركة واحدة هما “بي. ار. ال” الفرنسية و”دلتارس الهولندية” لتنفيذ الدراسات بنسبة 70% للأولى و30% للثانية.
وفي ضوء هذه الأزمة فإن تم عقد الاجتماع رقم ١٣ من مباحثات سد النهضة يومي 27- 28 ديسمبر 2015 لبحث الشواغل المصرية من سد النهضة وأسفر الاجتماع عن: التوقيع على وثيقة الخرطوم والتي تعد وثيقة قانونية وملزمة للدول الثلاث والتي تضمنت الرد على جميع الشواغل التي أثارتها الدول الثلاث – أنه تم الاتفاق على الشركات الدولية التي ستجرى الدراسات الفنية لسد النهضة الإثيوبي، واختيار مكتب ارتليا الفرنسي، بدلا من المكتب الهولندي المنسحب دلتارس ليعمل مع الشركة الفرنسية “بي. أر.أل” بنسبة 30 له و70 % للشركة لـ”بي.أر.أل. وقد تم الاتفاق على خارطة طريق مستقبلية بهدف لسرعة إتمام الدراسات الفنية على أن يكون التوقيع على عقد الأعمال الاستشارية في الأول من فبراير 2016 في الخرطوم، بحضور الوزراء بالدول الثلاث، على أن تنتهى الدراسة المائية خلال فترة لا تتجاوز 8 شهور.
وقد انعقدت اللجان في نوفمبر عام ٢٠١٦ دون البت في العروض الفنية والمالية لمكتبي الاستشارات. ومع تعقد مسار المباحثات المصرية الِإثيوبية بشأن سد النهضة أعلنت القاهرة في يناير 2018، عن رغبتها في مشاركة البنك الدولي في أعمال اللجنة الثلاثية، التي تبحث في تأثير إنشاء سد النهضة الإثيوبي على دولتي المصب، مصر والسودان، حيث يتمتع البنك الدولي بخبرات فنية واسعة، تمكنه من تيسير عمل اللجنة الثلاثية. ولكن تم رفض المقترح المصري من الجانب الإثيوبي بينما لم يتفاعل السودان ع المبادرة المصرية ولم يقدم رأيا واضحا ورد فعل واضح تجاهها[5].
وهكذا لم يتم الاتفاق مع المكاتب الاستشارية حتى اللحظة الراهنة، وأصبحنا أمام سد الشركة الإنشائية هي الاستشارية وليس هناك رقم لمعامل أمان هذا السد الذي تنقسم وجهات النظر حوله بين أنه مهدد بالتصدع نتيجة ضغوط المياه على إنشاءات هندسية على فالق أرضي وبين صلاحية السد دون الاستناد لدراسات، وهو ما يجعل كل من السودان ومصر أمام قنبلة نووية مائية تهدد الأمن الإنساني للبلدين في حالة انهيار السد لا قدر الله، بينما ما يزال المجتمع الدولي غير عابئ بتداعيات إنشاء سد بهذه الضخامة دون دراسات فنية يعتد بها أو إفصاح كاف من دولة المنشأ.
ج- مخالفة اتفاق المبادئ واتفاقية ١٩٩٣
نص اتفاق المبادئ على أن سد النهضة الموقع في الخرطوم في ٢٣ مارس ٢٠١٥ هو سد منشئ بغرض توليد الطاقة الكهربائية وليس احتجاز المياه، ولكن تهرب إثيوبيا من التوقيع على اتفاق تكون مرجعيته القانون الدولي على مدى عشر سنوات ثم انسحابها من مباحثات واشنطن وعدم توقيعها على مسودة اتفاق ساهمت بذاتها في بلورته يشير بشكل واضح إلى حالة خداع استراتيجي مارستها إثيوبيا إزاء كل من السودان ومصر، مستغلة الإدراكات السودانية المتأخرة بشأن مخاطر سد النهضة على المستوى السوداني، والرغبة المصرية في إدماج إثيوبيا في منظومات تنموية شاملة في الإقليم حتى يتم الحفاظ على الموارد المائية المصرية، ويتم تفادي تكاليف مالية واستراتيجية بسبب مواجهات بشأن المياه.
وقد وضحت الغايات النهائية للأغراض الإثيوبية في تصريحات المسئولين الإثيوبيين في أعقاب المليء الأول للسد في أغسطس ٢٠٢٠ حين قالوا: إن نهر النيل قد تحول إلى بحيرة إثيوبية[6]، ثم في المطالبة بحصة مائية من نهر النيل باعتبار أن إثيوبيا أحد منابعه[7] مشيرة إلى أن مصر تستند إلى اتفاقات استعمارية لفرض إرادتها على دول حوض النيل[8] وقد تكرر هذا المضمون في خطاب من الغرفة البرلمانية الثانية في إثيوبيا) الذي وجه للبرلمان العربي احتجاجًا رسميًّا على قراره الصادر في الحادي والثلاثين من أكتوبر 2019 بالتضامن مع مصر في حماية حقوقها التاريخية في مياه النيل. وذلك على الرغم من أن مبادئ عدم الإضرار بمصر قد تعهدت بها إثيوبيا في اتفاق ١٩٩٣ الموقع بين مصر وإثيوبيا والذي ينص في مادته الخامسة على امتناع الطرفين عن القيام بأي نشاط بشأن مياه النيل من شأنه التسبب في أي ضرر ملموس لمصالح الطرف الآخر[9].
رابعا: تداعيات الاستقطاب المائي في حوض النيل
يتسبب الاستقطاب الراهن بين مصر والسودان من جهة وإثيوبيا من جهة أخرى حالة من حالات تصاعد التوتر على المستوى الإقليمي خصوصا مع حجم الأضرار المتوقعة على كل من مصر والسودان نتيجة عدم التزام إثيوبيا بأساليب تواضع عليها المجتمع الدولي لصيانة السلم الإقليمي من هنا أصرت إثيوبيا على تحقيق الملء الأول لبحيرة سد النهضة بلا اتفاق مع دولتي المصب في إطار اتفاق شامل ملزم من هنا حدث انكشاف استراتيجي للسودان في عام ٢٠١٩، بشكل كاد أن يطيح بحكومة الثورة الأولى، حينما توقفت محطات مياه الشرب ومحطات المياه عن العمل، وهي حالة مرشحة للتكرار في السودان مع الملء الثاني المرتقب.
وإذا كانت مصر تستطيع تحمل تداعيات الملء الثاني بسبب وجود بحيرة السد العالي فإن المخزون المائي لدى مصر لا يمكن أن يصمد أمام حجم تخزين السد الإثيوبي. فضلا عن حالتي الجفاف والجفاف الممتد لنهر النيل، وهي مسائل متوقعة ومؤثرة على مصر وهو ما يستلزم الاتفاق على آليات تشغيل السد في صيغة تعاونية معروف أنماط لها عالميا.
في هذا السياق فإن التعنت الإثيوبي أصبح مهددا للأمن الإقليمي المؤثر على الأمن الدولي بدوره خصوصا في ضوء الوضع الجيبولتيكي لكل من مصر والسودان على البحر الأحمر الممر الأهم للتجارة العالمية، والمصالح الخليجية، ويبدو أن الضغط على إثيوبيا بكافة الوسائل أصبح هو الوسيلة المتاحة لصيانة المصالح الإقليمية والدولية معا.
[1]– مصر اقترحت مشروعات مائية مشتركة مع دول حوض النيل، متاح هنا
[2]– د. أماني الطويل، العلاقات المصرية السودانية إشكاليات الإدراك وضرورات المصالح، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة، ٢٠١٣، ص ١٣٨.
[3]– انظر نص اتفاق المبادئ هنا
5- تصريحات أحمد أبوزيد المتحدث باسم الخارجية المصرية هنا
[6]– تصريحات وزير الخارجية الإثيوبي هنا
[7]– برنامج هذا المساء على فضائية بي بي سي في ٢٠/ ٤/ ٢٠٢١
[8]– بيان صحفي صادر عن الخارجية الإثيوبية في ١/١٠/ ٢٠١٩