بقلم – د. نرمين توفيق

باحثة في الشئون الأفريقية والمنسق العام لمركز فاروس

حينما وصل آبي أحمد لسدة الحكم في إثيوبيا كرئيس لوزرائها في 2018 تم النظر إليه على أنه زعيم شاب وإصلاحي، وأنه قادر على استيعاب الجميع داخل هذه الدولة التي تتكون من عدة قوميات، ويقر دستورها النظام الفيدرالي لولاياتها التسع، فقد جاء آبي بعد مظاهرات حاشدة لقومية الأورومو التي ينتمي إليها، وأجبرت حكومة هيلا ميريام ديسالين على الاستقالة، كما أنه شاب ومتعلم تعليما جيدا، فهو حاصل على شهادة الدكتوراه من جامعة أديس أبابا ويحمل درجة الماجستير من الولايات المتحدة وبريطانيا؛ مما يجعله على معرفة بقدرة الشعوب على التغيير اذا ما أرادت ذلك.

ليس هذا فحسب بل إنه تحرك سريعا واستطاع تحقيق المصالحة مع إرتريا بعد سنوات من الحرب التي أوقعت مئات القتلى من الطرفين، وأصبح أبي أول زعيم إثيوبي يلتقي مع نظيره الإرتري منذ أكثر من عقدين، وأُعلن أن الحكومة وافقت على تسليم منطقة بادمي الحدودية المتنازع عليها إلى إرتريا -رغم أن هذه الوعود لا تزال حبرا على ورق حتى الآن- بالإضافة إلى تحركاته الإقليمية وتوسطه الإيجابي في أزمة السودان.

ومن ثم وبعد فترة وجيزة من حكمه رأينا الدوائر الغربية ترشحه لجائزة نوبل للسلام، وبالفعل حاز عليها في 2019، غير أنه وبعد حصوله على نوبل تغيرت سياسته الداخلية والخارجية بشكل متهور، حيث أن الداخل الإثيوبي ظل يعاني من اضطرابات كبيرة، وصلت إلى حد تعرضه لمحاولة فاشلة للاغتيال دبرها قادة سابقين في الجيش، أعقبها عدة مظاهرات نظمها أبناء اثنيته الأورمو وذلك مع ظهور قائد سياسي آخر لهم وهو جوهر محمد، وصلت هذه الاحتجاجات إلى أشدها بعد مقتل المغني الشاب هاشالو هونديسا الذي برز كصوت سياسي قوي لشعب الأورومو، وقابل آبي هذه المظاهرات بالقمع وقام باعتقال جوهر محمد.

وكي يهرب من هذه الضغوط حاول تصدير أزمته الداخلية للخارج، بتصريحاته المثيرة للجدل في  البرلمان الاثيوبي حول أنه جاهز للحرب مع مصر بسبب سد النهضة، رغم انه لم يكن هناك ما يستدعي التصريح، مما دعا الخارجية المصرية الى استهجان تصريحاته هذه.

ثم رأينا التطورات الخطيرة التي حدثت في الرابع من نوفمبر 2020 مع قمعه للاحتجاجات في إقليم تيجراي بشمال البلاد، والمواجهة العسكرية التي حدثت بين الجيش الاتحادي الإثيوبي وقوات جبهة تيجراي، بل إن آبي أحمد أمر الجيش بالتدخل للقتال في الإقليم كما أمر سلاح الطيران بقصف شعبه؛ مستغلا انشغال العالم بنتيجة الانتخابات الأمريكية، ثم قام بإقالة وزير الخارجية وقائد الجيش ورئيس المخابرات.

وإذا ما رجعنا إلى الأسباب والدوافع التي أدت إلى هذا التطور الخطير فإننا نجد أن إثيوبيا قائمة في تكوينها بالأساس على القوميات، هذه القوميات ظلت تعاني من احتقان سياسي طويل، فالاندماج الوطني بها لم يحدث طوعا وإنما بالقوة المسلحة، فمثلا نجد أن إقليم الأوجادين التابع لإثيوبيا الأن كان تابعا للصومال، ودارت معارك عنيفة وطويلة بين الصومال وإثيوبيا بعد أن قام المحتل البريطاني بضم الأوجادين إلى إثيوبيا، ومن ثم فإن إثيوبيا بتكوينها الإثني تعتبر دولة هشة مكونة من قوميات عدة، ولا يوجد بها هوية وطنية جامعة، وكل إقليم بمثابة دولة داخل الدولة، وإذا لم يستطع النظام الحاكم استيعابها فإن كثير من هذه القوميات ستسعى إلى الانفصال والحكم الذاتي.

وهذا ما حاول الزعيم الإثيوبي الراحل معالجته في بداية التسعينيات عند وصوله للحكم بعد تغلبه على الزعيم الماركسي الموجود أنذاك مانجستو، بأن أقر النظام الفيدرالي للدولة، وباتت أقاليم إثيوبيا وولايتها قائمة على التكوين الإثني، لكن ميلس زيناوي فضل اثنيته التي ينتمي إليها وهي التيجراي على باقي القوميات، رغم أنها تمثل أقلية ولا تتخطى نسبتها ال 7% من المجتمع الإثيوبي، وباتت لها الأفضلية في الحكم والمناصب الأساسية في الدولة سواء في الجيش أو الوزرات؛ وأصبح التجراي هم الذي يحكمون إثيوبيا، مما أثار حفيظة باقي القوميات وعلى راسها الأورمو والأمهرة الذين يمثلون الأغلبية في الدولة، وانتهى الأمر بالمظاهرات الحاشدة التي نظمها الأورومو واستمرت على مدار ثلاث سنوات منذ 2015 وحتى 2018، وانتهت بنجاحهم في إجبار حكومة ميرمام ديسالين على الاستقالة، ووصول ابي أحمد إلى الحكم، ليكن بذلك أول رئيس وزراء لإثيوبيا ينتمي إلى إثنية الأورمو، ورغم الوعود التي أطلقها في بداية حكمه بأنه سيتوعب كل القوميات في بلاده فإنه لم يتعلم الدرس، ولم تمر أشهر قليلة حتى بدأت الاحتجاجات القومية ضد آبي احمد، وشارك في هذه الاحتجاجات عدة قوميات منها القومية الصومالية والأمهرة بل والأورمو أنفسهم، غير أن الأمر الأخطر كان حالة العداء بين آبي وقومية التيجراي، ففي البداية دخل آبي أحمد في حالة عداء صامت مع جبهة تحرير التيجراي، إذ حرص على تحجيم نفوذها المتنامي في الجيش والحكومة الإثيوبية.

ثم وصلت العلاقات بين الجانبين إلى مرحلة قصوى من التوتر في ديسمبر 2019، حينما قام  أبي أحمد بحل الجبهة الشعبية الثورية الديمقراطية لشعوب إثيوبيا الحزب الحاكم سابقا، وشكل حزب الازدهار برئاسته هو ، بيد أن جبهة تحرير التيجراي رفضت الانضمام لحزبه؛ لما لمسته من محاولة آبي في الاستتئثار بالسلطة، وزادت الأمور تعقيدا بعد قرار آبي أحمد تأجيل الانتخابات التشريعية التي كانت مقررة في سبتمبر 2020 متذرعا بكورونا، حيث اعتبرت جبهة التيجراي أن التأجيل خرق للدستور ويسمح لأبي أحمد بالمكوث في السلطة دون أية سند قانوني أو دستوري، وبالفعل أقدمت الجبهة على إجراء انتخاباتها في موعدها في شهر سبتمبر، وتمسكت بنتائج الانتخابات رغم عدم اعتراف الحكومة الفيدرالية بتلك الانتخابات؛ مما أدى في النهاية إلى هذا التصعيد العسكري، وفي 7 نوفمبر الماضي صدر قرار من البرلمان الإثيوبي بحل الحكومة التيجرانية وتشكيل حكومة مؤقتة للإقليم لحين إجراء انتخابات جديدة، وقام أبي بفرض حالة الطوارئ لمدة 6 شهور، وأرسل القوات البرية والجوية لقتال التيجراي، وقام بإغلاق مداخل الإقليم؛ مما صعب وصول المساعدات الإنسانية إلى المتضررين من القتال، وأوقعت هذه الأحداث مئات القتلى في أيام قليلة ما ينذر بتحويل إقليم التيجراي إلى دارفور جديدة.

هذا كله يعري حقيقة آبي أحمد أمام العالم وخاصة أمام الدوائر الغربية ويعرض وجوده في الحكم إلى الخطر؛ لأن هذه الحرب ستؤدي في تداعياتها لانجراف إثيوبيا إلى حرب أهلية مدمرة ستمتد آثارها إلى دول الجوار مثل إرتريا والسودان، فقد استهدفت بعض صواريخ التيجراي مناطق في إرتريا زاعمين أن أسمرة تدعم هجمات الجيش الإثيوبي على التيجراي، كما أشارت تقارير للأمم المتحدة إلى فرار آلاف الإثيوبيين من منطقة النزاع إلى المخيمات على الحدود مع السودان، محذرة من أن الملايين سيتم تشريدهم إذا استمرت هذه الحرب.

هذه التداعيات تحتم على آبي أحمد أن يعي أن الحرب مع التيجراي لن تكون سهلة ولن تمر مرور الكرام، سواء على المستوى الداخلي أو الخارجي، فداخليا لما لهم من خبرة عسكرية وسياسية كبيرة اكتسبوها من حكمهم لإثيوبيا لسنوات طويلة، وخارجيا لهم ظهير قوي من مهاجري الشتات من التيجراي المقيمين في الولايات المتحدة الأمريكية، ومنهم من لديه علاقات جيدة بداوئر صنع القرار في أمريكا؛ مما يعني أنهم سيقومون بتأليب الرأي العام العالمي ضد آبي أحمد .. وبالفعل رأينا كبريات الصحف العالمية تتحدث عن هذه الأزمة بمزيد من القلق، منتقدة موقف آبي أحمد مثل فورين بوليسي التي وصفت ما يحدث في إثيوبيا بالحرب الأهلية، أما نيويورك تايمز فوفصفت ما يحدث في إقليم التيجراي بالمأساة محملة آبي أحمد المسئولية وأنه تحول من رجل يحمل نوبل للسلام إلى داعية للحرب.

الغريب أن آبي أحمد لم يحترم مبادرة إسكات البنادق التي رفعها الاتحاد الأفريقي في عام 2020 لوقف الصراعات المسلحة داخل الدول الأفريقية، ومن المعروف أن مقر الاتحاد الأفريقي يقع في العاصمة الإثيوبية اديس أبابا، وهنا على الاتحاد الأفريقي أن يكون له موقف حاسم، وأن يدعو آبي إلى الوقف الفوري للأعمال القتالية.

وكل هذا يعكس أن آبي أحمد خيب الآمال العريضة التي بنيت عليه عند وصوله الى السلطة، ومن ثم فإنه يتوجب عليه إعمال صوت العقل، ووقف استهداف معارضيه والمدنيين في إقليم تيجراي واللجوء للحوار، والتسريع بموعد الانتخابات العامة، لإنقاذ ما يمكن إنقاذه وتجنيب هذه الدولة الهامة وجوراها ويلات الحرب الأهلية.. هذا إن كان يهتم بالسلام الداخلي والخارجي، وإلا ستتجه إثيوبيا إلى حرب أهلية قد يطول مداها الزمني والمكاني؛ بسبب تهور صاحب نوبل للسلام!.