كتبت – علياء عصام الدين

إن كان هناك شيء أعظم من الحياة ذاتها، فهو تلك القدرة على التعبير عنها؛ لذا فالأدب كتعبير إنساني عن مجمل العواطف والأفكار والهواجس الإنسانية -على اختلافه- يعد أعظم وأصدق مكتسبات البشرية على الإطلاق، وأرقى أشكال التعبير الإنساني الذي يعكس حقيقة الأمم والمجتمعات.

يقول وليام هازلت: “إن أدب أيّ أمة هو الصورة الصادقة التي تنعكس عليها أفكارها“؛ فالأدب يعبر عن ثقافة الشعوب وحضارتها، آمالها وطموحاتها، عناوينها الأساسية والفرعية، مشكلاتها وأزماتها، ماضيها وحاضرها.

قصة أفريقيا التي لا يعرفها أحد

لما كانت القارة السمراء هي قلب العالم النابض بكل معاني الإبداع، جاء الأدب الأفريقي ليحكي لنا قصة “النور والنار” “العبودية والحرية” “النضال والمقاومة” “اليأس والرجاء”.

تلك الحكاية الممتعة التي لم يعرفها أحد؛ وهي ليست قصة رائجة تلوكها الألسنة فيمَلّ العالم من ترديدها، بل هي تلك القصة “المغمورة” النادرة المتفردة التي لا يعرفها أحد.

تلك الرواية التي كان يتناقلها الأطفال الصغار بين ثنايا البيوت، وتصور بلادًا موجوعةً سادها الظلام لبرهة، إلا أنها عادت لتُشِعّ من جديد أدبًا مختلفًا من وحي المعاناة والظلم والانكسار.

هذا التشبع بالألم والمعاناة -الذي كابدته الشعوب الأفريقية- كان سببًا في إنتاج أعظم الأعمال الأدبية في أفريقيا، وعلى النقيض كان الظمأ والتعطش لكل ما هو مغاير للواقع سببًا في إنتاج أعمال أخرى أكثر روعة.

لم يتوقف الأدب الأفريقي عند حدود التعبير عن المعاناة والواقع؛ فسرعان ما كسر قيود سجنه لتنطلق أقلام أعلامه حُرة مستقلة، تعبر عن أطياف أخرى من الأدب بعد سنوات من الظلام والانحسار.

ولم يكن من الغريب أن تتنوع الإنتاجات الأدبية الأفريقية، لاسيما أنها انبثقت من قارة تعج بالاختلافات العرقية والإثينية والثقافية.

الأدب الأفريقي.. سطور ممزوجة بالألم والأمل

لما كانت طبائع الأشياء تأتي من عمق نشأتها، جاء الأدب الأفريقي متسقًا مع طبيعة الشعوب الأفريقية وحياتها ويومياتها ومآسيها؛ ليعكس تفاصيل “المعاناة” التي عايشوها لحظة بلحظة، فجاء خصبًا ممزوجًا بروح الثورة.

لقد جسّد الأدب الأفريقي، بتنوعه واختلافه، روح الثورة انطلاقًا من المكابدة والمعاناة والرفض لكل معاني الظلم والاضطهاد والتهميش والاستعمار والحروب والدمار التي عاشتها بلدان القارة السمراء، فجاء معبرًا عن مشاكلها وأحلامها بالاستقرار والحياة الكريمة، فكانت سطوره ممزوجة بالألم والأمل.

ولنُبْحِر قليلًا بين ثنايا روايتين أفريقيتين برع أصحابهما في تصوير الواقع الأفريقي بما فيه من يأس ورجاء بشكل مبهر، وهما رواية “الأشياء تتداعى” للكاتب النيجيري ألبرت تشينوا أتشيبي و رواية ” نصف شمس صفراء” للكاتبة تشيماماندا أديتشي.

«ألبرت تشينوا أتشيبي».. الأدب سلاح نحو التغيير

الأديب النيجيري ألبرت تشينوا أتشيب

استطاع الكاتب النيجيري “تشينوا أتشيبي” المولود في نوفمبر عام (1930) أن يعبر من خلال رواياته المميزة عن الحياة الأفريقية بكل تفاصيلها، ويعكس طموحات شعوبها وآمالهم، ويصوب صورة القارة الأفريقية في عيون الغرب.

ويعد “أتشيبي” أحد مؤسسي فن الرواية الأفريقية الحديثة؛ حيث لقب بأبي الأدب الأفريقي.

استخدم أتشيبي “الأدب” كسلاح لمناهضة الاستعمار والتحيز الغربي، فأخرج لنا رائعته الأكثر رواجًا داخل وخارج أفريقيا “الأشياء تتداعى”.

ويصطحبنا أتشيبي عبر ثنايا روايته إلى موطنه نيجيريا لينقل حياة كاملة بين صفحات روايته في الحديث عن القبيلة وعاداتها وتقاليدها ومراسمها وأبطالها ومآسيهم وآمالهم ودموعهم.

وعبر صفحات الرواية يصف أتشيبي الكثير من التقاليد الغريبة في أفريقيا؛ كتلك التي تتحدث عن إنجاب التوأم وما يتبعه من لعنة الآلهة، والحديث عن تقاليد الزواج الغريبة؛ كإمكانية زواج الرجل من تسع نساء يعيشون سويًّا في وئام وانسجام ومحبة، وغيرها من تقاليد وعادات القبيلة الدينية ونظامها القانوني في العقاب والثواب، والتي لا يمكن لأحد أن يعرفها إلا من خلال قراءته للرواية.

وتسلط رواية أتشيبي الضوء على الآثار المدمرة للاستعمار الأوروبي في قارة أفريقيا، والتمييز العنصري والاضطهاد، وما يتبعه من عدم رضا ورغبة في التحرر والانفلات من قبضة الاستعمار.

كانت رواية “تداعي الأشياء” الجزء الأول من ثلاثية أدبية مبدعة لأتشيبي كتب بعدها رواية “لم يعد هناك إحساس بالراحة”، ثم ختم بالجزء الثالث والذي لا يزال جزءًا من المناهج الدراسية وهي تحت عنوان: “سهم الله”.

لقد نشأت عند أتشيبي رغبة ملحة في نقل الثقافة الأفريقية إلى الغرب، وتصحيح تلك الصورة الضبابية والنمطية لأفريقيا في عيون الغرب، فانطلق يكتب باللغة الإنجليزية؛ ليحكي قصة القارة السمراء بلسان أهلها.

وعلى الرغم من أن رواية أتشيبي لم تكن الأولى من نوعها لكنها كانت الأكثر تأثيرًا وعمقًا، ويبدو أن ذلك جاء لصدورها بعد عام من استقلال غانا، وتزامنًا مع انسحاب كل من بريطانيا وفرنسا وبلجيكا من بعض بلدان أفريقيا، فبيع منها أكثر من 10 ملايين نسخة، وتُرجِمت إلى أكثر من 50 لغة.

تشيماماندا أديتشي.. مأساة الحرب في نصف شمس صفراء

“للغضب تاريخ طويل في المساهمة في التغيير الإيجابي، بالإضافة إلى الغضب الذي أشعر به، فإن الأمل يغمرني، لأني أؤمن إيمانًا عميقًا بقدرة البشر على تغيير أنفسهم نحو الأفضل”.

بهذه الكلمات عبّرت الكاتبة النيجيرية تشيماماندا أديتشي عن رؤيتها للتغيير، وكيف يمكن للإنسان المساهمة في خلق عالم أفضل.

تعد أديتشي المولودة في عام (1977) إحدى الأسماء الأفريقية اللامعة في سماء الأدب الأفريقي، وهي من المناصرات الأوائل لحقوق المرأة حول العالم.

حققت أديتشي -عبر كتاباتها باللغة الإنجليزية- انتشارًا ونجاحًا منقطع النظير، وتلمست عبر ما كتبت الطريق للمزج بين الحب والحياة؛ فكتبت قصصًا ملحمية، دمجت فيها بين المشاعر المتناقضة بسلاسة، ونقلت عبرها مأساة الحرب الأهلية في نيجيريا.

وتعد روايتها “نصف شمس صفراء” إحدى الروايات البارعة التي صورت المعاناة الحقيقية للحرب، وعلى الرغم من أن أديتشي كانت تنتمي لقبائل الجنوب (الذين تسببوا في قيام الحرب) إلا أنها جنّبت ذلك الانتماء، وقدمت الرواية بموضوعية وحيادية مثيرة للاهتمام.

في “نصف شمس صفراء” صورت أديتشي بمصداقية الحرب في نيجيريا، ورسمت شخصياتها وتفاصيلهم بعيدًا عن أجواء الحرب؛ لتشترك آمالهم وأحلامهم فيما بعد معًا لتتحد في حلم واحد وهو حلم الاستقلال.

ووصفت أديتشي -في روايتها الرائعة- مشاعر الجوع والمرض والمجازر اليومية التي تعرضت لها إحدى +الأسر بالرغم من أنها وُلِدَت بعد انتهاء الحرب بـ7 سنوات إلا أن رعبها العميق على أهلها وإحساسها الكبير بالشفقة على المظلومين ورغبتها في الوقوف إلى جانب المستضعفين والفئات المهمشة كان المحرك الأول لها في معظم كتابتاتها.

ضم رصيد أديتشي من الأعمال الأدبية 3 روايات ومجموعة قصصية، فضلًا عن كونها إحدى المتحدثات البارزات في العديد من المؤتمرات والمحاضرات العالمية.

فازت بالعديد من الجوائز آخرها PEN Pinter في 2018، وقد لاقت مؤلفات أديتشي استحسانًا واسعًا لدى النقاد والأدباء لتصبح إحدى الأصوات الأفريقية الأدبية ذائعة الصيت بعد أن ترجمت أعمالها إلى أكثر من 30 لغة.