كتبت – د. أماني الطويل

مدير البرنامج الأفريقي بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

يشهد العالم منذ بداية الألفية – تقريبًا – متغيرًا مؤثرًا على الصعيد العسكري ألا وهو صعود الشركات الأمنية الخاصة كفاعل دولي غير رسمي، وهو ما أسهم بشكل كبير في عملية التباس مُركبة بشأن الفواعل العسكرية من غير الدول ومدى تأثيرها على كيان الدولة الوطنية في أفريقيا على وجه الخصوص من حيث مساهمتها في عدم استقرار هذه الدول ونزح مواردها بدعم مباشر من نخب محلية فاسدة .. فثمة دول بدأت تقوم بخصخصة الإمكانات والطاقات و”تعهيدها “Outsourcing، لاستخدامها في حفظ أمن مواطنيها، أو لشنّ الحروب ضد معارضيها. وذلك بهدف التوفير في ميزانياتها وتخفيف الأعباء المادية والبشرية عن كواهلها، أو للقيام ببعض الأعمال السرية التي قد لا ترغب أن تقوم بها بشكل مباشر ورسمي أو علني، خصوصًا أن هذه الشركات لا تخضع لقواعد القانون الدولي، وبالتالي لا توجد آليات لمحاسبتها على الأعمال المشينة التي تقوم بها متجاهلة قانون الأمن الإنساني أثناء الحروب.

وعلى الرغم من أن شركة فاغنر الروسية هي إحدى الشركات الأمنية العاملة في أفريقيا إلا أن تركيز الميديا الغربية عليها، وقيام رئيسها يفغيني بريغوجين بالتمرد على وزارة الدفاع الروسية جعلها في بؤرة الاهتمام الأفريقي، خصوصًا أنها مؤثرة على جملة من الدول في منطقة الساحل الأفريقي التي تبدأ بالسودان ولا تنتهي بمالي.

في هذا السياق ربما يكون من الضرورة بمكان في هذه الدراسة أن تتعرض بشكل متوازن للشركات الأمنية في أفريقيا وطبيعة أدوراها ومستقبل هذه الأدوار باعتبار أن منهج خصخصة الأمن على الصعيد العالمي قد أضر بمعطيات الأمن الأفريقي الشامل، وأصبح مهددًا للدولة الوطنية الأفريقية وقدرتها على التماسك ولعل أبرز نماذج هذه الحالة في الوقت الراهن هي السودان، وطبقًا لذلك فإن المحاور التي سنتعرض لها هي:

  • نشأة ودور المؤسسات الأمنية على الصعيدين العالمي والإقليمي
  • ملامح دور شركة فاغنر الروسية في أفريقيا ومناطق سيطرتها
  • مستقبل فاغنر في أفريقيا في ضوء تموضعها الجديد في بيلاروسيا.

أولًا: نشأة الشركات العسكرية الخاصة:

تشير الأدبيات الأكاديمية أن  شركة “داين جروب ”  كانت باكورة هذا النوع من الشركات، وهي شركة أمريكية تأسست عام ١٩٤٦؛ حيث تزايد الطلب على خدمات الشركات العسكرية والأمنية الخاصة منذ نهاية الحرب الباردة، فتحوّلت في الوقت الحاضر إلى صناعة كبرى تقدّم خدمات متنوعة على الصعيدين الداخلي والخارجي، ما استدعى أن يوّظف بعضها ما يزيد على 100.000 موظف، وهذا ما أدى إلى تطور الموقف الدولي منها تطورًا ملحوظًا تمثّل في سعيه إلى تحويلها كيانات قانونية، أو تطوير الأطر القانونية التي تنظّم عملها، وكذلك قبول مشاركتها في عمليات حفظ السلام الدولي في مرحلة لاحقة وبخاصة في أفريقيا.


وينتشر في العالم اليوم عدد كبير من الشركات الأمنية والعسكرية العملاقة التي تتخذ العديد من الدول في القارات الخمس مراكز لنشاطها العملي. ولعل أشهرها «بلاك ووتر» الأمريكية المعروفة، والبريطانية G4S التي تنشط في 125 دولة، وتُوَظِّف أكثر من 600 ألف موظف، والسويسرية Securitas التي تمارس نشاطها في 45 دولة، وتُوَظِّف ما مجموعه 250 ألف موظف. كذلك تمارس الشركة الفرنسية Scopex عملها بحرّية تامة في عدد كبير من أقاليم أفريقيا وآسيا، وذلك في ظل تنسيق كبير بين رؤساء دول أفريقيا؛ حيث يحمل عدد كبير من سياسييها الجنسية الفرنسية.


يضاف إلى ذلك، شركات مثل، «هاليبورتن» الأمريكية و«إسكارد جيرمان» الألمانية، و«ديفيون إنترناشيونال» الأمريكية الجنوبية (بيرو)، و«إكزكيتيف آوتكم» الجنوب أفريقية، ثم «ساندلاين إنترناشيونال» و«آيجيس دفانس» البريطانيتان.[1]

في هذا السياق دشنت حروب الخليج الأول والثانية في منطقة الشرق الأوسط ما يُعرف بالشركات الأمنية التي هي مجموعة من المقاتلين المأجورين الذين يمارسون عملياتهم بالتنسيق العضوي مع جيوش أو الأجهزة الأمنية لإحدى الدول ذات المصلحة، ويمكن القول إن قصب السبق في هذا النوع من الممارسات هي الولايات المتحدة الأمريكية التي كانت شركة بلاك ووتر هي شريك وزارة الدفاع الأمريكية في العراق، بينما تمتلك العديد من الدول حاليًّا ما يسمي بالشركات الأمنية ولعل جنوب أفريقيا من أشهر الدول الأفريقية التي لديها شركات أمنية على الصعيد الداخلي بغرض ضبط الأمن العام فيها.

ثانيًا: نشأة فاغنر الروسية :

ظهرت فاغنر على خلفية الصراع الروسي مع الغرب من منصة جزيرة القرم التي تم ضمها إلى روسيا عام ٢٠١٤ ربما بجهود مقدرة من الشركة التي نشطت إلى جانب القرم في إقليمي دونباس ولوغانسك، خاضت معارك عديدة ضد القوات الأوكرانية، تصاعدت منذ بداية الحرب الروسية الأوكرانية في فبراير ٢٠٢٢ .

ومع تطوير الاستراتيجيات الروسية إزاء أفريقيا في تحجيم قدرات الوجود والنفوذ الأمريكي تحت مظلة تعاون مع الصين، سعيًا لبلورة نظام دولي متعدد الأقطاب، وذلك فضلًا عن السعي للحصول على الموارد الأفريقية خاصة الذهب والألماس واليورانيوم [2]

في هذا السياق برزت أفريقيا في إطار تجديد روسيا لاستراتيجيتها الدَّوليَّة؛ حيث نصت وثيقة السياسة الخارجيَّة للاتحاد الرُّوسِي، التي وقَّعها الرئيس بوتين في 2016م، على أن روسيا ستتوسَّع في علاقاتها مع دول قارَّة أفريقيا في مختلف المجالات؛ سواء على المستوى الثنائيّ، أو المستوى الجماعيّ، وذلك من خلال المساهمة في تسوية الصراعات والأزمات الإقليميَّة، كما أن تعزيز علاقات الشراكة مع الاتحاد الأفريقي هو بمثابة عنصر مُهِمّ في السياسة الرُّوسِيَّة إزاء أفريقيا [3]    

أما فيما يخص دول القرن الأفريقي فإن مداخل مكافحة الإرهاب وتعزيز السلم هي من أهم المداخل الروسية في هذه المنطقة؛ حيث تلعب روسيا دورًا نشطًا في عمليات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة في أفريقيا؛ وتشارك قوات رُوسِيَّة في حفظ السلام في دول إريتريا وإثيوبيا، والسودان، وجنوب السودان، والكونغو الديمقراطية، إضافة إلى كوت ديفوار وليبيريا، والصحراء الغربية؛ حيث يتجاوز حجم الجنود الروس المشاركين في تلك العمليات حجم نظرائهم من دول فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية. وبالتوازي مع ذلك يعد الحصول على صفقات التنقيب عن المواد الخام والثروات الطبيعية في أفريقيا مدخلًا بالغ الأهمية طبقًا للاستراتيجيات الروسية.[4]

أ- دخول فاغنر جمهورية أفريقيا الوسطى

في هذا السياق حققت روسيا اختراقًا في الساحة الأفريقية حينما استطاعت أن تحصل على موافقة أممية بتسليم أسلحة لجمهورية أفريقيا الوسطى عام 2017، والقيام بتدريب الجنود هناك على استخدام الأسلحة، والتي يُفرض عليها حظر أممي منذ 2013 بسبب النزاع المسلح بين الطوائف. في هذا السياق تمت الاستجابة لطلب من رئيس أفريقيا الوسطى بالحصول على الأسلحة، ولذا قامت روسيا بتسليم أسلحة خفيفة وقوات للتدريب في يناير 2018، وكذلك عقدت صفقة أسلحة أخرى في أغسطس 2018.

لم تكتف روسيا بالأسلحة فقط، حيث أصدرت مجلة أتلانتك الأمريكية تقريرًا يشير إلى وصول 170 مستشارًا مدنيًا، واعتبارهم من قوات شركة عسكرية خاصة “فاغنر”، كما تمت الإشارة إلى ظهور 500 آخرين من مقاتلي “فاغنر” على حدود السودان – جمهورية أفريقيا الوسطى، فضلًا عن توفير قوات خاصة لتأمين السيد فوستين أرشانج تواديرا، رئيس جمهورية أفريقيا الوسطى.

وقد ترتب على  هذا التموضع الروسي مساهمة موسكو في عقد اتفاق سلام في أفريقيا الوسطى عام ٢٠١٨ بدعم مباشر من الرئيس السابق عمر البشير، كما حصلت شركة فاغنر على عقد ضخم للحراسة ولتعدين في الذهب بمنطقة تُسمى نداسيما على بعد ٦٠ كيلومترًا من مدينة بامباري؛ حيث تعاقدت مع الحكومة لمدة ٢٥ عامًا، وهو ما يدر على الشركة، طبقًا لتقديرات أمريكية، مليار دولار أمريكي سنويًّا[5] .

ب- السودان:

العلاقة العضوية بين نظام البشير في السودان وقوات الدعم السريع المنوط بها حماية نظامه جعلت محمد حمدان دقلو قائد قوات الدعم السريع قريبًا من اتفاق السلام الذي رعته موسكو والخرطوم في أفريقيا الوسطى وعلى ذلك نشأت علاقة بين حميدتي  و”يفغيني بروغوزين”، رئيس فاغنر الذي أسس شركة للتعدين بالذهب في  إقليم دارفور طبقًا لتقارير دولية؛ حيث تمارس بجانب التعدين أنشطة أمنية على علاقة بقوات الدعم السريع، حيث أتاحت هذه العلاقة تسليح قوات الدعم السريع مؤخرًا بمضادات أرضية في حربه على الجيش السوداني منذ إبريل 2023 [6]

ج- تحالفات فاغنر في منطقتي شمال ووسط أفريقيا  

تذهب بعض التقارير أن فاغنر قبل انقلابها على موسكو كانت منتشرة في ٣٠ دولة أفريقية، وأنها مؤثرة في صعيد كبير في كل من ليبيا والسودان ومالي وبوركينا فاسو، وأنها تُنوِّع أدواتها لدرجة وجود فاعلية لها على وسائل التواصل الاجتماعي تمارس بها تحريضًا على الوجود الفرنسي في منطقة دول الساحل الأفريقي.

في هذا السياق تم رصد أنشطة لفاغنر في ليبيا منذ 2016؛ حيث تدعم شركة فاغنر القوات الموالية للقائد العسكري خليفة حفتر، ويُعتقد أنّ ما يصل إلى 1000 مقاتل من “فاغنر” شاركوا قوات حفتر في الهجوم الذي شنّته على الحكومة الرسمية في طرابلس عام 2019[7].

وفي الآونة الأخيرة دُعيت مجموعة “فاغنر” من قبل حكومة مالي في غرب أفريقيا لتوفير الأمن ضد الإرهابيين؛ حيث كان لوصول المجموعة إلى مالي أثر في قرار فرنسا بسحب قواتها من البلاد عام 2021.

ثالثًا: مستقبل فاغنر في أفريقيا:

على الرغم من تصريحات رئيس فاغنر “يفغيني بريغوجين” مؤخرًا بأنه عازم على تطوير عمليات شركته في أفريقيا لكن ربما يكون من المبكر توقع مصير فاغنر بشكل نهائي، ذلك أن الرجل مريض طبقًا للتقارير العالمية بمرض خطير، ويبدو أن تموضعه الجديد ببيلاروسيا غير مستقر، في وقت يبدو أن  احتياج موسكو  لشركة أمنية في أفريقيا مُلحٌّ في ضوء انشغالاتها في أوكرانيا.

وطبقًا لهذه المعطيات من الممكن طرح بعض السيناريوهات بهذا الشأن، وهي لن تخرج عن ثلاثة سيناريوهات:

1- الانضمام لقوات الدفاع الروسية طبقًا لتعاقدات جديدة، وهو أمر يطرح إمكانية إدراج هذه القوات تحت مسمى شركة أخرى بعد أن تلوث اسم فاغنر بالتمرد على ربيبتها موسكو، وغالبًا هذا السياق سيتم استخدامه في أوكرانيا وليس أفريقيا.

2- إعادة التأهيل وعقد الشراكات مناطقيًّا، وهو السيناريو الأقرب للتطبيق في أفريقيا، لعدد من الأسباب، أن شركة فاغنر في أفريقيا تملك شراكات مع أطراف محلية مثل الدعم السريع بالسودان والنخب الرسمية في كل من بوركينا فاسو ومالي وجمهورية أفريقيا الوسطي، على سبيل المثال لا الحصر، كما أن هذه الشراكات أتاحت لها الحصول على موارد وقدرات اقتصادية، وفي ضوء هذا المعطى يكون الحصول على أسلحة ليس بعيدًا عن أيدي فاغنر وحلفائها في ضوء حالة السيولة الأمنية التي تشهدها حاليًّا منطقة الساحل الأفريقي، ووجود بنية تحتية مؤهلة للتهريب عبر الدول الأفريقية لكافة أنواع السلع ومنها الأسلحة، فإن هناك مصالح للأطراف المحلية سياسية واقتصادية وربما عسكرية تحتم التعاون مع فاغنر في هذه المرحلة لحماية مصالحها أو إيجاد بدائل للقدرات الفرنسية التي انسحبت سابقًا من بعض الدول .

 3 – السيناريو الأخير يطرح أسئلة مفتوحة بشأن طبيعة علاقة موسكو بفاغنر المتحولة في أفريقيا، وطبيعة التزام الأخيرة بالمستهدفات الروسية الاستراتيجية في أفريقيا، كما يطرح أسئلة أخرى بشأن التفاعلات المستقبلية بين فاغنر ونظرائها من وكلاء الدول الأخرى خاصة فرنسا.

إجمالًا يبدو أن هذه التفاعلات العسكرية غير الرسمية في أفريقيا تفرض تحديات كبيرة على الفواعل الرسمية من الجيوش النظامية، خصوصًا في دول شمال أفريقيا؛ إذ سوف يلقي عليها مزيدًا من الأعباء العسكرية، كما أنه يطرح عليها مواجهة تحدٍّ طبيعة التركيب الميليشياوي والمرتزق للفواعل العسكرية غير الرسمية الذي لا بد من التعاطي معه ربما بأدوات مستحدثة حتى يمكن الوصول لمسألة الحفاظ على الاستقرار المحلي والإقليمي معًا، ومنع سقوط مزيد من الدول في مربع الدول الفاشلة.


 


[1]، الموقع الرسمي للجيش اللبناني، متاح على :  د. أحمد علو،الشركات العسكرية والأمنية الخاصة: أذرع طويلة لمهمات مختلفة

https://2u.pw/hYZlY7

[2] – Russia set to strengthen its presence in Africa, The Economist Intelligence Unit,11-10-2018,available onhttp://country.eiu.com/article.aspx?articleid=1917234575&Country=Russia&topic=Politics&subtopic=Recent+developments

[3] Jeanne L. Wilson,

The Russian Pursuit of Regional Hegemony,Rising Powers Project,Volume 2, Issue 1, Feb. 2017,available onhttp://risingpowersproject.com/quarterly/russian-pursuit-regional-hegemony/

Gregory Alonso Pirio and Robert Pittelli, The Russian Challenge to US Policy in Africa  Eurasia review, September 3, 2016, available onhttps://www.juancole.com/2016/08/russian-challenge-policy.html

[4] – Russia Search for Strategic Partnerships in North Africa: Balancing Algeria and Morocco,

available on:https://www.washingtoninstitute.org/fikraforum/view/russias-search-for-strategic-partnerships-in-north-africa-balancing-algeria

[5]Catrina Doxsee , Joseph S. Bermudez Jr. , and Jennifer Jun،Central African Republic Mine Displays Stakes for Wagner Group’s Futur,avalible on :Center of Strategic Studies ,USA  

[6] تقرير أمريكي فاغنر تسلح الدعم السريع، قناة العربية متاح على : https://2u.pw/fGxdJQ5

[7]الميادين، متاح على :، خصخصة الأمن، الشركات العسكرية تقود الحروب الجديدة موقع قناة

https://2u.pw/TdyPKWb