أماني ربيع
هناك سحر مميز للفن الأفريقي؛ حيث تُخلق العاطفة الفطرية البكر والتاريخ الثري المغمور جاذبية طاغية لكل قطعة، وفي وقت لم يعد بإمكاننا إغفال الآثار المترتبة لأفعالنا على الكوكب، علينا إدراك حقيقة أن الفنون الأفريقية منذ زمن بعيد، حافظت على علاقة صداقة وطيدة بالبيئة.
وجذور الفن الأفريقي عميقة، والطبيعة فيه هي مصدر إلهام متكامل، وتعكس الفنون الأفريقية التقليدية الثقافات والمعتقدات والأنظمة البيئية المتنوعة في القارة، كما يظهر في الزخارف والمواد المستخدمة في إبداع هذه التحف الفنية.


تأثير الاستعمار على علاقة الفن الأفريقي بالبيئة
للأسف، أسهم عهد الاستعمار في تمزيق هذا الارتباط العميق بين الفن الأفريقي والطبيعة، وأدخل مواد وتقنيات أجنبية أبعدت الفن الأفريقي عن جذوره البيئية.
قبل وقت طويل من وصول المستعمرين، كان الفن الأفريقي مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا بالطبيعة، استلهم الفنانون من محيطهم، واستخدموا مواد من مصادر محلية مثل الطين والخشب والألياف النباتية لإبداع أعمالهم الفنية، وعززت هذه العلاقة التكافلية مع الطبيعة تقديسًا عميقًا للبيئة، كما يظهر في منحوتات شعب اليوروبا أو أقنعة الباميليكي.
جلبت الحقبة الاستعمارية على القارة تغييرًا هائلًا، ولم يسلم الفن الأفريقي من هذا التغيير؛ حيث أدى إدخال المواد الأجنبية، مثل الدهانات الاصطناعية والمعادن، إلى تغيير مسار الفن الأفريقي، وقطع العلاقة بين الفن والطبيعة.


ظهور الحركة الخضراء في الفن الأفريقي
مع تزايد المخاوف البيئية العالمية، بدأ الفنانون الأفارقة المعاصرون أيضًا في إدراك الحاجة إلى ممارسات مستدامة في الفن، وهو ما مهد الطريق في النهاية لظهور الحركة الخضراء في الفن الأفريقي، كمحاولة لإعادة الاتصال بالتراث الطبيعي للقارة وتخفيف الأثر البيئي للإنتاج الفني.
كانت الحركة الخضراء استجابة للوعي المتزايد بالأزمات البيئية، مثل تغير المناخ، وإزالة الغابات، والتلوث، وسعى الفنانون الأفارقة، الذين أدركوا تأثير حرفتهم على البيئة، إلى تبني ممارسات مستدامة واستخدام فنهم كمنصة للتغيير، وانضم العديد منهم إلى الحركة الخضراء، وغرسوا العديد من الرسائل البيئية في أعمالهم، بحسب موقع متحف الفن الحديث بنيويورك، “موما”.


الممارسات الفنية المستدامة في أفريقيا
تبنى الفنانون الأفارقة مجموعة متنوعة من الممارسات الفنية المستدامة، بدءًا من استخدام المواد الصديقة للبيئة، وإعادة تدوير المواد، إلى تعزيز الوعي البيئي من خلال فنهم، وعادوا إلى استخدام المواد الطبيعية من مصادر محلية لإنشاء أعمالهم الفنية، متجنبين المواد الاصطناعية أو الضارة، وأصبحوا يختارون مواد مثل الطين والألياف النباتية والأصباغ الطبيعية، للتقليل من بصمتهم البيئية، وكذلك لإعادة إحياء التقنيات التقليدية.
أدت الحركة الخضراء في الفن الأفريقي، أيضا، إلى ظهور جيل من الفنانين الذين يستخدمون المواد المهملة، ويحولونها إلى أعمال فنية مذهلة، مثلًا، يدمج الفنان الكيني إيفانز مبوجوا النظارات المهملة في لوحاته النابضة بالحياة ذات الوسائط المختلطة، في حين تعيد الفنانة النيجيرية نينا أوكور استخدام الصحف المهملة لإنشاء منحوتات عضوية معقدة.
ومن أبرز الفنانين الذين انتهجوا ممارسات صديقة للبيئة في أعمالهم، النحات الغاني الشهير الأناتسوي، الذي يستخدم المواد المهملة، مثل أغطية الزجاجات وصفائح الألومنيوم لإنشاء تركيبات معقدة، بينما تركز الرسامة الزيمبابوية فيرجينيا تشيهوتا على الموضوعات البيئية، وتبدع أعمالها باستخدام الأحبار النباتية والأصباغ الطبيعية.
ويوضح هؤلاء الفنانون أن الجمال يمكن العثور عليه في أكثر المواد غير المتوقعة، مما يسلط الضوء على إمكانية إعادة التدوير وإعادة الاستخدام في الفن.


تعزيز الوعي البيئي من خلال الفن
يستخدم الفنانون الأفارقة الآن، أعمالهم كمنصة لرفع مستوى الوعي البيئي وتعزيز تقدير أكبر للطبيعة، وأحد أبرز الأمثلة، الفنانة الجنوب أفريقية جين ألكسندر، التي تتناول منحوتاتها الهجينة بين الإنسان والحيوان قضايا مثل إزالة الغابات وفقدان الموائل الطبيعية، ومن خلال معالجة هذه القضايا البيئية الملحة، يلعب الفنانون دورًا حاسمًا في إلهام التغيير وتعزيز الاستدامة.
واليوم، تلعب المعارض والمتاحف وجامعي الأعمال الفنية دورًا محوريًّا في تعزيز الممارسات الفنية المستدامة، ومن خلال عرض ودعم الفنانين المهتمين بالبيئة، يمكنهم المساعدة في رفع مستوى الوعي بالحركة الخضراء في الفن الأفريقي وتشجيع الآخرين على أن يحذوا حذوهم.
ومع اكتساب الحركة الخضراء المزيد من الاهتمام، أصبح جمع الأعمال الفنية المستدام ذا أهمية متزايدة، وتدرك المعارض الفنية والمتاحف وجامعو الأعمال الفنية الآن، الحاجة إلى دعم وتعزيز الممارسات الفنية المستدامة، مع احتضان إمكانات التكنولوجيا الرقمية لتعزيز هذه الأهداف.
يتضمن جمع الأعمال الفنية المستدامة، النظر في الأثر البيئي للفن، بما في ذلك المواد المستخدمة، وطرق الإنتاج، ونقل القطع، ويمكن لهواة الجمع دعم الاستدامة من خلال البحث عن الفنانين الذين يعطون الأولوية للممارسات الصديقة للبيئة ومن خلال التأكد من التزام المنظمات التي يشترون منها بالمبادئ التوجيهية الأخلاقية.


تحديات تواجه المشهد الفني الأفريقي
أحدث ظهور التكنولوجيا الرقمية ثورة في عالم الفن، وقدم فرصًا جديدة لجمع الأعمال الفنية المستدامة؛ حيث تتيح المنصات الإلكترونية لهواة الجمع عرض الأعمال الفنية وشراءها دون الحاجة إلى النقل المادي، مما يقلل من التأثير البيئي المرتبط بالشحن والمناولة، كما تسمح التكنولوجيا الرقمية بالحفاظ على الفن ونشره، مما يضمن قدرة الأجيال القادمة على تقدير هذه الأعمال دون التسبب في المزيد من التدهور البيئي.
لكن رغم الوعي المتزايد بالاستدامة في المشهد الفني الأفريقي، لا تزال هناك العديد من التحديات التي يجب معالجتها، منها عوائق اقتصادية واجتماعية تتمثل في: محدودية الوصول إلى الموارد، ونقص التعليم، والمقاومة الثقافية للتغيير، وهو ما يتطلب الاستثمار في التعليم والبنية التحتية التي تدعم الممارسات الفنية المستدامة، مع تعزيز ثقافة الإشراف البيئي.
تعد الحركة الخضراء في الفن الأفريقي بمثابة شهادة على قوة الفن كوسيلة للتغيير، ويمكن للمشهد الفني الأفريقي أن يسهم بشكل كبير في الوعي والعمل البيئي العالمي، كما أن الحركة الخضراء أيضًا، تُعد فرصة لعرض إبداع الفنانين الأفارقة ومرونتهم وابتكارهم، وتمكنهم من احتلال مكانة فريدة في سوق الفن العالمية، واجتذاب هواة الجمع الذين يقدرون الجوانب الجمالية والبيئية لعملهم.