كتب – محمد الدابولي
استهل الرئيس الأوغندي «يوري موسفني» عام 2020 بمسيرة شعبية وسياسية قطع خلالها الغابات الأوغندية مستذكرًا الطريق الذي سلكه قبل ثلاثة عقود، وتحديدًا في يناير 1986 حينما قاد تمردًا مسلحًا ضد الحكومة الأوغندية السابقة بقيادة «تيتو أوكيلو»، ونجح في الإطاحة به من السلطة.
مسيرة الغابة (195 كم) التي بدأت قبل ثلاثين عامًا من منطقة جالامبا شمال العاصمة كمبالا إلى بيرمو في الجنوب، حيث خاضت قوات موسفني معركة فاصلة، كانت السبب في تحقيق استقرار سياسي طويل الأمد، فأوغندا منذ استقلالها كبقية الدول الأفريقية مرت بفترات طويلة من الاضطرابات السياسية والانقلابات العسكرية المتتالية التي تهدد الاستقرار السياسي.
ففي الفترة الممتدة منذ عام 1962 وحتى يوليو 1985 تناوب ميلتون +أوبوتي وعيدي أمين على السلطة بانقلابات وتمردات عسكرية دموية، ففي البداية حققت البلاد استقلالها على يد +أوبوتي عام 1962، وما لبث أن حدث انقلاب عسكري بقيادة عيدي أمين عام 1971، وفي عام 1979 تمكن +موبوتي من استعادة السيطرة على الحكم والإطاحة بـ«أمين»، وانتهت مغامرة +أوبوتي بالاستيلاء على السلطة في يوليو 1985 بانقلاب قائد الجيش تيتو أوكليو الذي استمر في منصبه ستة أشهر فقط حتى يناير 1986، ليعتلي يوري موسفني السلطة بتمرد عسكري مسلح آخر.
عودة من جديد
خلال العقود الثلاثة الماضية نجح موسفني في تحقيق استقرار سياسي نسبي في البلاد، إلا أن الأحداث في الفترة الأخيرة بدأت تعطينا مؤشرات سلبية حول جدية الاستقرار السياسي في كمبالا، وأن الأمور باتت في مرحلة الانزلاق نحو الهاوية والعودة مرة أخرى إلى فترة الاضطرابات السياسية.
حيث فُسِّر الهدف من المسيرة الأخيرة (4- 12 يناير) بأنها محاولة لتنشيط وإحياء شعبية الرئيس المتدهورة، كما أنها محاولة ترويجية مبكرة لحشد الأصوات في الانتخابات الرئاسية المقبلة في 2021.
إيقاع سريع للاضطرابات السياسية
خلال السنوات الأربعة الأخيرة في أوغندا تصاعدت الأحداث السياسية بشكل تدريجي، بدأت مع الانتخابات الرئاسية في عام 2016 والتي شهدت تفوقًا كاسحًا لموسفني؛ إذ حصد على أكثر من 60% من الأصوات إلا أنها في النفس الوقت تعد أقل نسبة حصل عليها موسفني في الانتخابات الرئاسية، وفور الانتخابات استشعرت السلطة السياسية وجود انخفاض في شعبية الرئيس مما دعاها إلى إجراء حوار وطني.
إلا أن التطورات السياسية كان إيقاعها أسرع ففي عام 2017 وخلال الانتخابات المحلية نجح المطرب الأوغندي «روبرت كياجولاني» المعروف باسم «بوب واين» في الفوز في الانتخابات التشريعية في إحدى المقاطعات شرق البلاد، ويعد واين من أبرز رموز المعارضة الأوغندية حاليًا ومن الرافضين لبقاء موسفني في السلطة لولاية رئاسية جديدة.
بدأت الأحداث تأخذ منحنى أكثر سخونة في سبتمبر 2018 حين تم رشق موكب الرئيس بالحجارة من قبل متظاهرين معارضين، مما دفع السلطات إلى توجيه تهم لـ«واين» بالخيانة وإلقاء الطوب على الموكب الرئاسي، وفي المقابل ادعى واين أنه تعرض لمحاولة اغتيال وقُتل على إثرها سائقه الخاص، كما ادعى تعرضه للتعذيب خلال فترة احتجازه على ذمة التحقيقات، وما زال بوب واين رهن التقاضي إلى هذه اللحظة.
وتشهد العاصمة كمبالا -منذ ذلك الحادث- صدامات متكررة بين الشرطة ومناصري «واين»، ففي 8 يناير 2020 منعت الشرطة منظمة «حركة صوت الشعب» التي يتزعمها «واين» من تنظيم مؤتمر خاص بها، كما تم إلقاء القبض عليه بحجة تنظيم اجتماع غير قانوني.
ولعل الأحداث الأخيرة التي تمت في يناير 2020 من مسيرة موسفني عبر الغابات ومنع مؤتمر واين تدفعنا إلى إطلالة سريعة على أبرز أزمات النظام السياسي الأوغندي والتي من المرجح أن تكون سببًا في تفاقم الاضطرابات في البلاد خلال الفترة المقبلة وهي كالتالي:
- استقطابٌ جِيلِيٌّ حادّ: تشهد الحالة السياسية الأوغندية حاليًا استقطابًا جيليًّا حادًّا بين جيل الشباب وجيل الكبار، خاصة في ظل تردد الأنباء عن نية بوب واين (37 عامًا) الترشح في الانتخابات المقبلة أمام موسفني (76 عامًا)، فالفارق بين الاثنين أربعة عقود كاملة، فموسفني من الجيل الذي شبّ في مرحلة الاستقلال وخاض غمار النضال السياسي ضد أوبوتي وعيدي أمين، أما بوب واين فيمثل جيل الألفية الجديدة وما بعدها الذين ولدوا وترعرعوا في ظل ولاية موسفني طويلة الأمد (33 سنة)، ويبحثون حاليًا عن آلية لانتقال السلطة إليهم.
- أزمة المعارضة التقليدية: أحدثت حركة بوب واين ثورة داخل صفوف المعارضة السياسية الأوغندية؛ فبوب واين نجح في استغلال أدوات شعبوية كالغناء وموسيقى البوب في تدعيم مواقفه السياسية المناهضة للسلطة السياسية متجاوزًا الأطر التقليدية التي تتبعها المعارضة، وقد تشكل حركة واين تحديًا لقوى المعارضة ذاتها خاصة «منتدى التغيير الديمقراطي» الذي يتزعمه الضابط السابق في الجيش الأوغندي Kizza Besigye الذي لعب دور المرشح المنافس أمام موسفني في الانتخابات الرئاسية أعوام 2001، 2006، 2011 وأخيرًا انتخابات 2016.
كما يعد واين تحديًا أيضًا أمام الطموح السياسي لرئيس الوزراء الأوغندي السابق «باتريك مبابازي» (70 عامًا) الذي ترك السلطة في عام 2014 وانخرط في صفوف المعارضة التقليدية وخاض انتخابات عام 2016 ويتجهز لخوض انتخابات 2021.
- إزالة الحد الأقصى لسنّ المرشح لرئاسة الجمهورية: كان الدستور الأوغندي قد وضع سقفًا لسنّ المترشح للانتخابات الرئاسية بألا يتجاوز 75 عامًا، وفي الانتخابات الأخيرة عام 2016 كان عمر موسفني وقتها 73 عامًا؛ أي أنه وفق الدستور تعد ولايته الحالية هي آخر ولاية ولا يجوز تمديدها.
إلا أن ثمة تعديلات دستورية عام 2017 أدخلت على المواد الخاصة بالترشح لرئاسة الجمهورية أزالت الحد الأقصى لسنّ الترشح، مما فتح الباب أمام موسفني للترشح للانتخابات مرة أخرى في عام 2021؛حيث سيباغ وقتها 77 عامًا، ولعل تلك الحادثة هي التي أدت لبلورة المعارضة الأوغندية في الفترة الأخيرة.
- تحجيم المجتمع المدني: على خلفية الاضطرابات المتلاحقة منذ عام 2018 بدأت الحكومة في توجيه اتهامات ضد منظمات المجتمع المدني بأنها المتسببة في تزايد حدة الاضطرابات السياسية بالبلاد، وتقديم الدعم للجماعات المخربة بالبلاد، وسبق للحكومة الأوغندية أن سنت العديد من التشريعات التي من شأنها ضبط عمل تلك المنظمات؛ مثل إلزامها بالتنسيق مع السلطات المحلية، وتقديم ميزانيات تلك الجمعيات إلى الحكومة.
- تدهور الحكم المحلي: تعاني أوغندا من تدهور حاد في الحكم المحلي حيث لم تجر أية انتخابات محلية في البلاد منذ عام 2002، حيث تخشى حركة المقاومة الوطنية (NRM) من اعتلاء المعارضة لمقاعد المحليات.
- أزمة توزيع الأراضي: خلال الفترة الأخيرة سعت الحكومة إلى إنشاء وحدات إدارية جديدة تحت دعوى تطويرها وتحسين الخدمات إلا أنها في الحقيقة كما عدها مراقبون في مجموعة الأزمات الدولية بأنها محاولة سياسية لخلق كيانات محلية موالية للحزب الحاكم والسيطرة على الموارد الطبيعية، كما أنها أدت إلى إجهاد الميزانية العامة للدولة، وأثارت التوترات المجتمعية خاصة مع السلطات التقليدية.
- احتكار العائلة: من الأمور التي قد تُسرع بوتيرة الاضطرابات السياسية في أوغندا هي سيطرة عائلة موسفني على مفاصل الدولة، واحتمالية الدفع بـ«موهويزي» نجل موسفني في الانتخابات المقبلة كنوع من توريث السلطة في البلاد، حيث اتخذ موسفني العديد من الإجراءات من أجل تحقيق ذلك؛ منها على سبيل المثال إنشاء وحدة القوات الخاصة في عام 2008 وإسنادها لابنه، وتعد هي الفرع الأقوى في الجيش، وفي يناير 2017 تم تعيين موهويزي مستشارًا رئاسيًّا، وفي ذات الوقت تم إبعاد العديد من المنافسين العسكريين لموهويزي عن مناصبهم؛ مثل قائد قوات الدفاع الجنرال أروندا نياكايريما الذي تولى منصب مدني بعيدًا عن الجيش، وبالإضافة إلى دور الابن تنشط الأم جانيت موسفني في أروقة السياسة الأوغندية؛ إذ إنها تشغل منصب وزير التعليم والرياضة منذ عام 2016 كما أنها عضو برلمانية سابقة، ومن المحتمل أن تتطلع لخلافه زوجها.
- انخفاض النمو الاقتصاي: شهد الاقتصاد الأوغندي مرحلته الذهبية خلال العقد الأول من الألفية الجديدة؛ إذ بلغت معدلات النمو 10% محققة طفرة اقتصادية هائلة في البلاد، إلا أنه منذ عام 2011 حدث تراجع كبير لمعدل النمو ليصل إلى 4% نتيجة انخفاض الطلب على السلع الأساسية التي تنتجها أوغندا الأمر الذي أدى إلى معاناة 69% من مزارعي أوغندا واعتمادهم على حد الكفاف، وفق ما أشارت إليه مجموعة الأزمات الدولية.
- تسييس الأمن: تتهم الشرطة الأوغندية بأنها مسيسة إلى حد بعيد، وتعمل على تعقب معارضي موسفني، ويتهم المفتش العام السابق للشرطة الأوغندية كايل كيورا (2005- 2018) بأنه موالٍ سياسيًّا لموسفني، وعمل على تعقب المعارضين السياسيين فقط مما أدى إلى انتشار معدلات الجريمة بشكل ملحوظ في كمبالا، مما أدى لظهور ميليشيات أمنية غير حكومية تدعي “منع الجريمة”، هدفها ضبط الأمن ومنع الجريمة، الأمر الذي أثار حفيظة موسفني، ودفعه إلى إقالة كيورا في مارس 2018 لانعدام الأمن وتفشي الجريمة بالبلاد.
وبناء على ما سبق يتضح لنا أن المستقبل السياسي لأوغندا على المدى القريب سيشهد تحولات سياسية متسارعة، خاصة أننا على أعتاب انتخابات رئاسية في عام 2021 يحاول الرئيس -البالغ من العمر 76 عامًا- خوض غمارها، واستمرار تواجده في السلطة لخمسة أعوام أخرى قد يؤدي إلى انغلاق المجال السياسي في البلاد، ويعرضها لموجة من الاضطرابات السياسية ستطال بقية دول منطقة البحيرات العظمى.