كتبت – أماني ربيع
الشباب دائمًا هم ضمير العالم، مثل نبتة بريئة لم تتلوث بعد بالأيديولوجيات والمصالح التي تورث الأنانية والجبن، وبينما تلتهب الآن ساحات الجامعات الأمريكية بالاحتجاجات على ما يحدث من جرائم إبادة جماعية يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي في غزة، تعود إلى الأذهان احتجاجات مشابهة في الجامعات الأمريكية أغلقت الحرم الجامعي في عام 1968 احتجاجًا على حرب فيتنام. وحتى اليوم، لا تزال روح الاحتجاج في الحرم الجامعي قوية، وفي أبريل 2024، حاصر عشرات من الطلاب في جامعة كولومبيا قاعة هاملتون الشهيرة، ورفعوا لافتة للكشف عن الاسم الجديد للمبنى من قبل المتظاهرين: “قاعة هند”. جاء ذلك تكريمًا للطفلة هند رجب البالغة من العمر ست سنوات، والتي قتلتها قوات الاحتلال الإسرائيلي في غزة، وواجهت شرطة نيويورك هذه الاحتجاجات بالعنف واعتقلت الكثيرين، لكن هذا لم يمنع انضمام طلاب جدد للاحتجاجات التي امتدت لجامعات أخرى في أمريكا وأوروبا.
تعد هذه الاحتجاجات جزءًا من الضغط المستمر لحث الجامعات على سحب أموال الاستثمار من الشركات التي لها علاقات تجارية أو تستفيد من علاقتها مع إسرائيل، كما تعتبر هذه التظاهرات أيضًا إظهارًا لدعم الشعب الفلسطيني في غزة الذي يعيش في أحوال مأساوية منذ أكتوبر عام 2023، نتيجة للهجمات الوحشية لقوات لاحتلال الإسرائيلي، والتي راح ضحيتها أكثر من 35 ألف فلسطيني معظمهم من النساء والأطفال.
الحرم الجامعي والصراعات
منذ عام 1968 مرورًا بعقد الثمانينيات ووصولًا إلى عام 2024، احتلت قضايا الحرب والعنصرية والاستعمار مركز الصدارة في حركات العدالة في الجامعات، مما يعكس صلة الحرم الجامعي الشهير بالصراعات الدولية المستعرة طوال الوقت. وكانت كل فترة من هذه الفترات فريدة من نوعها، ولكن أوجه التشابه واضحة، وطوال ذلك الوقت ظل سؤال رئيسي يتكرر هو: من يحكم الجامعة؟ والإجابة كانت واضحة، إنهم مدراء الشركات والخريجون الأثرياء، وليس أولئك الذين يجعلون الجامعة تعمل كل يوم من الطلاب والعمال وأعضاء هيئة التدريس، كما توضح هذه الاحتجاجات طبيعة علاقة الجامعة بالمجتمع المحيط بها وبالعالم، آنذاك والآن، فقد كانت الاحتجاجات الطلابية بمثابة جسور سياسية تربط المحلي بالعالمي.
وتعيدنا المظاهرات الطلابية التي تجتاح الجامعات الأمريكية حاليًا، احتجاجًا على الدعم الأمريكي لجرائم الاحتلال الإسرائيلي في قطاع غزة، إلى احتجاجات مشابهة في فترة السبعينيات والثمانينيات ولكن لسحب الاستثمارات التي تدعم جنوب أفريقيا ونظام الأبارتايد العنصري.
احتجاجات جامعة برينستون 1978
وفي عام 1978، اقتحم طلاب جامعة برينستون قاعة ناسو، وهو مبنى تاريخي في الحرم الجامعي، لمطالبة الإدارة بسحب استثماراتها من جنوب أفريقيا ذات النظام العنصري. يتذكر لورانس هام الذي كان بين المتظاهرين في السبعينيات هذا الحدث، بينما كان يقف خارج قاعة ناسو في عام 2024، وهو في طريقه للمشاركة في تجمع حاشد في مخيم برينستون للتضامن مع غزة. يقول هام: “احتشد الطلاب ضد الفصل العنصري لمدة 66 يومًا متتالية قبل اقتحام المبنى”، موضحًا، أنه عندما بدأ هذا الاعتصام، كانت الأعداد صغيرة، ولم تتجاوز 20 شخصًا على الإطلاق، لكن بحلول شهر أبريل شهدت الجامعة احتجاجات يومية ضخمة تضم ما بين 400 إلى 600 طالب، ومع تزايد الزخم قرر الطلاب الاستحواذ على قاعة ناسو”. وقد نجح هذا التكتيك، جزئيًا على الأقل، حيث تفاوضت برينستون ووافقت على سحب الاستثمارات مع ثلاث شركات، على الرغم من أنها لم توافق على سحب الاستثمارات من جنوب أفريقيا بالكامل.
احتجاجات جامعة كولومبيا 1985
وفي أوائل الثمانينيات، في أعقاب انتفاضة سويتو في جنوب أفريقيا والمذبحة التي ارتكبتها قوات الفصل العنصري، كان هناك انبعاث عالمي للحركات المناهضة للفصل العنصري داخل الجامعات، وكان عام 1985 مسرحًا لواقعة احتجاج طلابية شهيرة في جامعة كولومبيا، احتجاجًا على الجرائم التي يمارسها نظام الأبارتايد العنصري في جنوب أفريقيا. قبل ذلك بعامين كان مجلس الشيوخ الجامعي صوت بالإجماع على سحب الاستثمارات من جنوب أفريقيا،، لكن إدارة الجامعة رفضت احترام التصويت وبدلاً من ذلك شكلت لجنة لدراسة هذه القضية، وهو تكتيك واضح للمماطلة، وقد دفع هذا التجاهل الصارخ للمبادئ الديمقراطية حتى أعضاء هيئة التدريس والطلاب الذين لم يدعموا بشكل كامل سحب الاستثمارات للانضمام إلى صفوف الاحتجاج. بعد ذلك بدأ المئات من طلاب الجامعة العريقة، بقيادة التحالف من أجل جنوب أفريقيا الحرة (CFSA) الذي لم يتجاوز عمره أربع سنوات آنذاك، حصارًا حول قاعة هاملتون في وسط الحرم الجامعي، وهي نفس القاعة التي احتلها الطلاب سلمياً وأعادوا تسميتها في الاحتجاجات الحالية.
استمر احتجاج عام 1985 لمدة ثلاثة أسابيع، وحظي بدعم عالمي، بينما قامت الإدارة بتصوير الناشطين الطلابيين بالفيديو، وهددتهم بالطرد والتأديب، لكن بعد 5 أشهر ومماطلة طويلة، قررت الجامعة أخيرًا سحب استثماراتها من الشركات المتورطة في نظام الفصل العنصري بجنوب أفريقيا.
نضال مدينة الصفيح
وخلافاً للنشطاء المتضامنين مع فلسطين اليوم، لم يكن لدى التحالف من أجل جنوب أفريقيا الحرة (CFSA) الذي نظم احتجاجات عام 1985، مخيم، ولا ظهور وسائل التواصل الاجتماعي، وبدلاً من ذلك، قام المحتجون ببناء مدينة صفيح رمزية في الحرم الجامعي تشبه المساكن الرديئة لمعظم السود في جنوب أفريقيا في ظل نظام الفصل العنصري. كانت هناك مسيرات ودروس تعليمية ومناقشات أشعلت الحرم الجامعي، وبلغت الحملة التي استمرت أربع سنوات ذروتها بالحصار الذي ضم في ذروته ما يقرب من 2000 شخص، مع بعض أعضاء هيئة التدريس، وقد شارك بالاحتجاج بعض المشاهير مثل: الشاعرة أودري لورد، وبيت سيجر، ورئيس الأساقفة ديزموند توتو، للتعبير عن دعمهم.
واستلهامًا للإضراب عن الطعام الذي قام به زعيم الجيش الجمهوري الأيرلندي بوبي ساندز، والذي لفت انتباه العالم إلى محنة الكاثوليك في شمال أيرلندا، بدأ ما يقرب من عشرة من طلاب جامعة كولومبيا إضرابًا عن الطعام للمطالبة بسحب الاستثمارات.
إسرائيل وجه آخر للأبارتايد
وتوجد العديد من أوجه التشابه بين احتجاجات كولومبيا في الثمانينيات ضد الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، ومخيم دعم غزة الذي أقيم عام 2024 ضد الإبادة الجماعية في غزة، حيث كان نظام الأبارتايد بجنوب أفريقيا وقتها، مثالًا صارخًا على العنصرية، وكان يتم إرسال الطلاب السود في جنوب أفريقيا إلى مدارس دون المستوى المطلوب في مناطق نائية تسمى البانتوستانات. وكان على السود في جنوب أفريقيا أن يحملوا تصاريح خاصة، شبيهة ببطاقات الهوية المرمزة بالألوان المستخدمة في إسرائيل للتمييز ضد الفلسطينيين اليوم، وكان المجتمع معزولًا عنصريًا. يتذكر عمر البرغوثي في مقال بصحيفة “الجارديان” البريطانية، عندما كان ناشطًا طلابيًا فلسطينيًا في الحرم الجامعي لجامعة كولومبيا عام 1985، وكان يدعم حركة جنوب أفريقيا الحرة ويسلط الضوء على أوجه التشابه الكبيرة بين النضال في جنوب أفريقيا وفلسطين لتفكيك الاستعمار الاستيطاني ونظام الفصل العنصري . وبحسب المقال، استلهم عمر فيما بعد نموذج سحب الاستثمارات كتكتيك للضغط على المؤسسات ذات المعايير المزدوجة والمتواطئة مع الأنظمة القمعية، وشارك لاحقًا في تأسيس حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات (BDS) التي تدعو إلى إنهاء تواطؤ الدول والشركات والمؤسسات الدولية في نظام القمع الإسرائيلي ضد الفلسطينيين.
علم العديد من قادة الطلاب في الولايات المتحدة في ذلك الوقت عن فلسطين من قادة حزب المؤتمر الوطني الأفريقي الذين يعيشون في المنفى، وإدراكًا للشراكة بين نظامي الفصل العنصري الإسرائيلي والجنوب أفريقي، ارتدى الطلاب الكوفية تضامنًا، وكانت اثنتان من اللافتات التي تم رفعها عند الحصار “فلسطين حرة”، و”الصهيونية تساوي الفصل العنصري”.
إدانة الوحشية
ولعبت هذه الاحتجاجات الطلابية دورًا أساسيًا في إشعال عاصفة عالمية أدانت وحشية نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، وأدت جهودهم إلى إقرار الكونجرس لقانون شامل لمكافحة الفصل العنصري عام 1986، والذي دعا إلى إنهاء الفصل العنصري وفرض عقوبات اقتصادية على جنوب أفريقيا. وحظر مشروع القانون استيراد بضائع جنوب أفريقيا، وبيع الأسلحة والمعدات العسكرية للدولة، وأي استثمار جديد، كما طالب التشريع بالإفراج عن السجناء السياسيين، ورفع حالة الطوارئ، وإقامة ديمقراطية غير عنصرية. مع اشتداد المظاهرات في جميع أنحاء حرم الجامعات، بدأت الشركات الأمريكية بالفعل في الانسحاب من جنوب أفريقيا، مما ساهم في فرض ضغط اقتصادي كبير على حكم الفصل العنصري، وأدى ذلك في النهاية إلى نهاية النظام (بعد حوالي أربع سنوات من المفاوضات) مع أول انتخابات ديمقراطية بعد الفصل العنصري في البلاد في 27 أبريل 1994، حيث فاز نيلسون مانديلا، الذي كان سجينًا سياسيًا لمدة 27 عامًا، وأصبح أول رئيس أسود للبلاد.
الحرية تنتصر في النهاية
وقال عالم الاجتماع ديفيد س. ماير، مؤلف كتاب «كيف تؤثر الحركات الاجتماعية (أحيانًا)» أن فكرة حركة سحب الاستثمارات العالمية كانت محاولة لتعجيز نظام جنوب أفريقيا العنصري ومنعه من القيام بوظيفته، وأشارت ماتي كريستين ويب، المؤرخة الاجتماعية والسياسية في جامعة ييل إلى أن هذه الاحتجاجات الطلابية خرجت من حرم الجامعات إلى النقابات العمالية والجماعات الدينية، بل وشملت أيضًا المجتمع المحلي. يعتقد البعض الآن أن الاحتجاجات في الجامعة مجرد “لا” رمزية ضد وحشية نظام الأبارتايد الإسرائيلي، لكن طلبة الجامعة الذين لا يملكون سلاحًا في مواجهة الترسانة الغربية التي تدعم دولة الاحتلال، يرفعون صوتهم لفضح الحكام الحقيقيين للجامعة من مديري الشركات العملاقة والخريجين الأثرياء، والذين تتورط معهم الجامعات في استثمارات دعمت نظام الأبارتايد الجنوب أفريقي، واليوم تدعم جرائم الاحتلال الإسرائيلي.
وسواء في فيتنام أو جنوب أفريقيا أو فلسطين، تعلم النشطاء اليوم من التاريخ أن ما يبدو مستحيلًا في وقت الألم والحزن الذي لا يوصف، يصبح ممكنًا بالصبر وبالمحاولات المستمرة لإيصال صوت المقهورين إلى العالم.
وإذا كانت الاحتجاجات الطلابية في السبعينيات والثمانينيات، بداية شرارة ساهمت في تفكيك نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، الذي بدا وقتها أنه لا يُقهر، فمع ما نشهده اليوم فإن العالم سوف يستمع في نهاية المطاف وسوف ينتصر العدل والحرية أيضًا في فلسطين.