كتبت ـ أماني ربيع
عاشت موريتانيا، التي تقع على الساحل الأطلسي في شمال غرب أفريقيا، في عزلة طويلة، ولم تلحق ركب الحضارة والتقدم على الطراز الغربي، لكن لم يمنع هذا تميزها بخصوصية ثقافية فريدة نابعة من طبيعة البيئة وتاريخها. وشكل الدين الإسلامي الرابط الأساسي بين الجماعات العرقية المختلفة في موريتانيا، وهو ما أنشأ هوية مشتركة؛ حيث يفتخر الموريتانيون بكونهم المجتمع الأكثر إسلامية في القارة، وينتمون جميعًا للمذهب المالكي السني.
المحظرة منارة للعلم
وسط هذه البيئة البسيطة المنعزلة التي يغلب عليها الطابع البدوي، خرجت “المحظرة” تلك المدرسة التي احتضنت لقرون طويلة الثقافة الشنقيطية، وكانت بمثابة منارة للعلم والثقافة والأدب، ومنبرًا لفهم تعاليم الإسلام، إضافة إلى دورها في مقاومة محاولات الاستعمار الفرنسي لطمس هوية البلاد، وكذلك القضاء على الأمية في الأماكن الفقيرة والنائية.
و”المحاظر” هي مدارس دينية أشبه بـ “الكتاتيب” في المشرق العربي، يُدرس فيها علوم القرآن واللغة العربية والخط على ألواح خشبية، وأُنشئت هذه “المحاظر” في الأساس لإعداد الدعاة لحمل رسالة الإسلام عبر الصحراء، وانتقلت من مدينة تمبكتو إلى سائر أنحاء البلاد. وكانت الدروس في المحاظر تقدم في الخلاء تحت ظلال الأشجار، أو داخل خيام، ثم أصبحت تقدم في أكواخ بسيطة، ومع الوقت شُيدت مبانٍ خاصة بالمحاظر. لم تكن “المحاظر” مجرد مدرسة عادية، فقد ساهمت في الحفاظ على وحدة النسيج الموريتاني وهويته الثقافية، وكان التعليم فيها مجانيًا، ولا يحصل المعلم على أجر مقابل عمله، ويعتمد في عيشه على تبرعات وهدايا الأهالي تُعرف باسم “جراس قرآن. “وخلال فترة الاحتلال الفرنسي لموريتانيا، حاول الاستعمار فرض التعليم الغربي بالقوة على البلاد، لكن ظلت المحاظر تقاوم ذلك، وهو ما ساعد في الحفاظ على الهوية الثقافية التقليدية للبلاد وأسلوب الحياة فيها الذي لم يتغير كثيرًا عبر الاحتكاك بالغرب، عكس دول أخرى كانت تحت الاحتلال الفرنسي.
ونظرًا لانتشار المحاظر وقيمتها بين الموريتانيين بدأت الحكومة في تقديم الدعم لها للمساهمة في محو الأمية في البلاد، وبخاصة في المناطق النائية وقرى الريف.
شعبية مستمرة
ولا تزال “المحاظر “تحتفظ بمكانتها بين الأسر الموريتانية التي تحرص على إلحاق الأطفال بـ “المحاظر” التي يظلون فيها حتى بعد الالتحاق بالمدارس العادية، وبجانب حفظ القرآن، يتعلم التلاميذ في “المحاظر” أساسيات اللغة العربية والحساب بالكتابة على الألواح بدلًا من الدفاتر الورقية، وينقشون عليها ما يتعلمونه من فنون الخط العربي.
ورغم اتباع المحاظر لنفس التقاليد القديمة في أسلوب التعليم، فلم يقلل هذا الأسلوب التعليم البدائي الذي يعتمد على الحفظ والتلقين من شعبية المحاظر التي لا تزال تحظى بالاحترام في المجتمع الموريتاني، وتعد ملاذًا لمعظم أطفال الطبقة الفقيرة والمتوسطة أيضًا. ولعل سر شعبية واستمرار المحاظر هو أنها لا تفرق بين التلاميذ على أساس الطبقات، فالجميع سواء أمام شيخهم، كما أن الدراسة فيها تعتمد على أدوات بسيطة من ألواح وأقلام، تناسب ميزانيات البسطاء، كما أنها ليست بحاجة إلى بنية تحتية مكلفة فالدروس يمكن أن تقدم في أي مكان، كما أن شروط الالتحاق بها سهلة، وأهمها الرغبة والاستعداد للتعلم ويمكن الانضمام للمحظرة في أي سن ودون أوراق أو مقابل مادي.
تكافل مجتمعي
يتحدث الدكتور محمدن ولد أمّين، أستاذ التاريخ في جامعة نواكشوط بمقال له بعنوان “المحاظر الموريتانية مؤسسات لنقل المعارف”، عن قيم التكافل والتآخي التي زرعتها المحظرة داخل المجتمع الموريتاني عبر مجموعة من التقاليد منها: “التأبيد” وتعني كفالة الطالب المغترب أو الفقير، و”الختمة” وبمقتضاها يقدم سكان الحي الذي تقع فيه المحظرة هدايا للتلاميذ مع تقدمهم في الدراسة. ومن التقاليد أيضًا، “شاة التلاميذ” حيث يقدم سكان الحي بقرة أو شاة لتلاميذ المحظرة في بعض المناسبات مثل الزواج، ويشكل كل ذلك نوعًا من التكافل داخل المجتمع يضمن لجميع الأطفال التعلم دون خوف من الفقر، كما أن الانتساب إلى المحظرة مجاني بلا رسوم، ومن ليس لديه مال لشراء الألواح والأقلام يتشارك أهل الحي في كفالته.
رمضان موسم “المحاظر”
يتزايد الإقبال على المحاظر في رمضان، ويعد موسمًا حقيقيًا تزدهر فيه، فيذهب الأطفال للمحظرة بينما يحضر الكبار الدروس الدينية في المساجد، وهو أمر طبيعي خاصة وأن معظم الأسر الموريتانية يحرصون على إقامة سهرات عائلية خلال الشهر الكريم يقدمون خلالها مواهب الأبناء في حفظ القرآن وتجويده، وتُعقد مسابقات تنافسية ودية بينهم، وهو ما يدفع الأهالي إلى إرسال الأبناء إلى “المحظرة” لحفظ أجزاء جديدة من القرآن، وليتمتعوا كذلك بروحانيات الشهر الكريم. يبدأ نشاط المحظرة في رمضان مع أذان الفجر بتلاوة جماعية للقرآن، ثم ينقسم التلاميذ إلى مجموعات وفقًا لتحصيلهم في الحفظ، ويستمرون حتى التاسعة صباحًا في الحفظ والتلاوة، ثم يستأنفون عقب صلاة الظهر نشاطهم بتعلم أصول التجويد، وبعد ذلك ينقسمون لمجموعات مجددًا لمعاودة الحفظ. ويُعد ختم الصبية للقرآن بالمحظرة حدثًا يحتفل به الأهل والأقارب، وغالبًا ما يتم الاحتفال بهذه المناسبة في شهر رمضان، حيث يجتمع الأهل والأحباب، ويختبر شيخ المحظرة الطالب اختبارًا صارمًا في جميع أجزاء المصحف، ثم يمنحه “إجازة الختمة”.
ومع الإقبال على المحاظر في رمضان، تزدهر سوق الألواح الخشبية التي يستخدمها الأطفال في الكتابة وتهجئة الحروف، والتي تعد جزءًا أصيلًا من التراث الموريتاني ورمزًا لثقافة المحظرة التي تعد واحدة من المظاهر الأصيلة للثقافة الموريتانية. وينتشر باعة الألواح في الأسواق يعرضون بضاعتهم متعددة المقاسات والأحجام، والتي تتطلب صناعتها طرقًا خاصة، فهي تُقطع من شجرة يطلق عليها “تيشط” أو “إمجيج”، وبعد ذلك يتم غمس اللوح في الماس والفحم ونوع من الصمغ يعرف باسم “العلك”.
وختاماً.. وهكذا كانت المحاظر، أكثر من مجرد مدارس قرآنية، فهي مؤسسات لها وظيفة اجتماعية في نشر المساواة في طلب العلم والتكافل بين الأهالي لإعانة الطلاب الفقراء، ووظيفة ثقافية بالحفاظ على هوية البلاد بصمودها في وجه الاستعمار الغربي، وتمرير التراث الموريتاني عبر الأجيال، ووظيفة تربوية حيث أخرجت أجيالًا من الطلاب من دارسي القرآن وعلوم الدين. وفي وقت عاشت فيه البلاد في عزلة نظرًا لطبيعة البيئة الصحراوية، شكلت المحاظر جسرًا بين موريتانيا والعالم، حيث سافر طلابها لطلب المزيد من العلم في جامعات العالم الإسلامي، مثل الأزهر وفاس والزيتونة.
وتمتع علماء ومشايخ المحاظر بعلم رفيع وثقافة دينية غزيرة، وكانوا يسافرون لمسافات طويلة لجلب أمهات الكتب وجديد مصادر العلوم الشرعية من مصر والمغرب لإفادة طلابهم، لذا كانت المحظرة على بساطتها أكثر من مجرد “كُتاب” بمفهومه التقليدي فهي أشبه بجامعة وأكاديمية غرست جذورها تحت الخيام في قلب الصحراء.